التفاوض السوري الإسرائيلي

هل التطبيع شرط للسلام؟

null

طيب تيزيني

أحسب أن طرح هذا الموضوع، وما يدخل في حقله، يستجيب لأمرين اثنين، هما الاحتفاء بذكرى الجريمة الكبرى قبل ستين عاماً، والاستحقاقات التي يطرحها المشروع العربي أو ما يطرحه باحثون ومفكرون واستراتيجيون عرب حول مسألة من هذا القبيل. ويُلاحظ أن حضور إيران الكثيف راهناً في الإعلام العربي والإقليمي أخذ يفتح عيون الكثيرين من العرب من باب القول بأن شعوباً وأمماً كثيرة في العالم راحت تلملم أوضاعها بغية التأسيس لمشاريع وطنية لها، دون أن يُشاهد ذلك بعد لدى العرب أو لدى معظمهم، على أقل تقدير، إلاّ بكيفيات تدعو إلى استذكار الواقعة المريرة والملخصَّة بإدمان إخفاقاتهم المضطرّدة في مشروعهم أو مشاريعهم في النهضة والتنوير. وهؤلاء يميزون بين مثل ذلك المشروع، وبين تحولات حققوها هنا وهناك، خصوصاً في حقل التحديث والتطوير التكنولوجي، وما يندرج في ثورتي المعلومات والاتصالات.

ومع الحراك الذي أخذ يُفصح عن نفسه هنا وهناك من مناطق العالم العربي وما يوازيه ويقترب منه من دول (مثل تركيا وإيران وإسرائيل) منذ بدايات العولمة قبل عقدين تقريباً، راحت أفكار السلام والديمقراطية والإصلاح تطرح نفسها في إطار ما سُمي “الشرق الأوسط الجديد” أو “المعدّل”…إلخ. واتضح أن تلك الأفكار هي، حقاً، مهمة وضرورية من أجل الشعوب العربية. ولكن راح يظهر شيئاً فشيئاً أنها لن تجد صدى فعلياً لا عند مَنْ قدّم استراتيجية الشرق الأوسط من الأميركيين، ولا عند النظم العربية، فهذه الأخيرة راحت تتملص شيئاً فشيئاً من التزاماتها في الأفكار المذكورة، فظلت- في النهاية- أفكاراً زائفة ملفّقة أريد منها اللعب عليها وعلى مَنْ يطرحها من المجموعات السياسية والثقافية المدنية في البلدان العربية. وهذا ما قدّم أدلة على “نفاق” المشروع الأميركي من طرف، وعلى فساد معظم النظم العربية وإصرارها على ألا تخرج من “دائرة الفساد والإفساد” من طرف آخر. وبعد الاتفاق الذي جرى التوصل إليه في الدوحة بين اللبنانيين (وكان أمراً ذا أهمية وطنية وقومية ملحوظة)، انطلق الأمر باتجاه تصفية بعض ما تبقى من البؤر الساخنة، وكان هذه المرة قد حطَّ عند سوريا وإسرائيل. فلقد كان مُلفتاً أن جاء الإعلام عن مفاوضات جديدة غير مباشرة بين الفريقين، تليها لاحقاً مفاوضات مباشرة. وقد أتى ذلك بصيغة التأكيد على أن نجاح هذه المفاوضات مرتهن باستعادة سوريا حقّها الطبيعي في السيادة على الجولان، وفي العودة إلى حدود عام 1967، أي عام الهزيمة العربية أمام إسرائيل.

وراح الأمر يتضح بخطوات مستجدة وجادة ومُلفتة، وآخر ذلك ما نشر في بعض الفضائيات العربية من أنه نُقل عن مصدر سوري القولَ بأن المفاوضات ستتصل بأربعة حقول، هي التطبيع والأمن والمياه والحدود، ويُضاف إلى ذلك أن لقاء بين الفريقين سيحدث، بطريقة أو بأخرى، يوم الخامس من يونيو، يوم الهزيمة النكراء، وأتى هذا بمثابة حال جديد على صعيد الموقف. لكن من وجهة نظر الموقف القومي أولاً والوطني تالياً، يمكن طرح سؤال طالما جاءت الإجابة عنه على امتداد العقود الأربعة تقريباً التي انصرمت بعد عام 1967، ذلك هو: هل يدخل عنصر “التطبيع” في المفاوضات العربية- الإسرائيلية؟ أو: هل تحتمل علاقات ما مع إسرائيل، الآن وفي المستقبل، حداً ما من التطبيع؟ ونحب أن نسارع في التساؤل عما يحتمله التطبيع المذكور من دلالات بالنسبة للعرب.

ها هنا، قد نرى أن مشروعاً للسلام مع إسرائيل ربما لا يصح النظر إليه راهناً أكثر من كونه مشروعاً لـ”اللاحرب”، ذلك لأن الأساس التاريخي، الذي قامت عليه من حيث الأساس، إنما كان ذا بِنية اغتصابية استعمارية ملفّقة. وبتعبير آخر، لم تقم إسرائيل بمثابة مشروع قومي أو وطني بمستلزماته الديمغرافية واللغوية والثقافية، وإنما هي ارتكزت على القوة الطائشة أولاً، وعلى تجمّع سكاني يفتقد الأسس الحاسمة: إنه تجمّع لشتات من يهود العالم مختلفي اللغات والثقافات والمطامح، جمع بينهم، وربما رغم جموع ملحوظة منهم، استعمار فلسطين على أساس اقتسام العالم فيما بين الدول الاستعمارية. ولذلك، فإن “فكرة” دولة إسرائيل لا تمتلك لا اتِّساقها البنيوي ولا شرعيتها التاريخية، كما هو الحال مثلاً بالنسبة إلى “دولة” توحِّد بين مسلمي باكستان ولبنان والهند ومدغشقر…إلخ.

من هنا، جاء الإشكال الذي يخترق مفهوم “التطبيع” العربي الإسرائيلي: أولاً، لجهة أن تحقيقه أمر لا معادل له على صعيد التاريخ والواقع، وثانياً، لأن البتّ في ذلك ربما كان من شأن الشعوب والأجيال العربية كلها. وفي هذه الحال، يمكن أن تطال المفاوضات المذكورة، حقاً، شؤون الأمن والمياه والحدود وغيرها، ولكن التطبيع الفعلي على الأقل، من غير الحكمة التسرع فيه أو البتّ فيه. وإذا أعتُقد أن الأمر غير ذلك، فمثال مصر درس لا يوحي بذلك.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى