صفحات ثقافية

ابن رشد أنموذجاً: عن سير فلاسفة عرب وروائيتها

null
د. بنسالم حميش()
“زمانياً، كل رواية تصير تاريخية. إنها اجابة على الزمن، الذي، فضلاً عن ذلك، تخلقه. فهناك رواية الزمن وزمن الرواية. الروايات الأكثر أهمية هي تلك التي تخلق زمناً، تصنعه، عوضاً عن الاكتفاء بعكسه. الرواية اللاتاريخية لا توجد، اذ ليس هناك عمل أدبي أو فني يتموضع خارج الزمن، خارج التاريخ”.
(كارلوس فوينتس، حقول الزمن، أنطولوجيا مقابلات، باريس، 2005، ص 314).
“رجل في المعرفة الموسوعية، وأخرى في السحر أو بالتدقيق ومن دون مجاز، في هذا السحر المتعاطف الذي يمكن في الانتقال بالفكر الى داخل انسان”. (مارغوريت يورسنار، مذكرات ادريان، دفاتر هوامش، باريس 1974، ص 331).
تقديم
في سياق تحيزي للرواية رأيت من المفيد الانصات الى بعض معاديها الكبار، امثال اندري بروتون وبول فاليري وشيورون، الذين عبروا عن تذمرهم من أدب القرن التاسع عشر الروائي، ومن الرواية عموماً، وذلك من حيث انها تنبني على وصف العرضيات المتكررة المملة، المتلفة لمعنى الوجود الأقصى أو المطلق، كما على ثالوث الحبكة الصراع الحل. القائم مقام العقيدة الثابتة والركن الركين. لكن الجدير بالاشارة ان السبق الى ذلك الموقف المتذمر من الرواية كان لبروست نفسه الذي بنى كتابته الروائية الجديدة في البحث عن الزمن الضائع على قراءة العلامات والدلالات بعيداً من الروائية Le Romanesque اي هذه الغنائية الجياشة والميلودرامية الجادة العابسة، كما عند بعض روائيي القرن التاسع عشر، او هذا الاسهال والحشو في الوصف الذري للأشياء والديكورات على امتداد صفحات طويلة مملة، اعترف رولان بارث انه كان يقفز على أغلبها في قراءته لبلزاك، الخ.
في سياق نقد الروائية يجدر التذكير ايضاَ ببعض مواقف أصحاب الرواية الجديدة أو المضادة (في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي) كمغامرة في مجال الدال، تعطي اللأسبقية للأشياء على الشخصيات، وتستقي تقنياتها من وقوفها ضد التحليلات السيكولوجية واللغة المجازية والغنائية، وضد التضخم الفكري والكلامي ودعوات الوجودية الملتزمة. غير ان جماعة الرواية الجديدة قد تأثروا هم انفسهم بشكل متفاوت بروائيين كبروست وجويس وفولكنر ووولف وكافكا، وكذلك بالأخص بفن السينما من باب قدرته على الموضعة والتحديد والقياس والوصف، اي على أشكال تملك المكان والزمان.
وهكذا يظهر تاريخ الرواية الحديثة كصيرورة جدلية تتقدم وتغتني بتدافع حلقاتها وحتى بدينامية معارضاتها وأضدادها. وهذا ما بات يفطن اليه ويدركه منذ بورخيس روائيو الواقعية السحرية والتاريخ المتخيل، الذين اكتسبت الروائية عندهم خاصيات وظيفية مميزة فارقة، تستمد جذورها من الالياذة والأوديسا لهومروس والف ليلة وليلة ومن اعمال رابلي وسرفنتس وديدرو وتدلل على جدواها عند فلوبير وكافكا وجويس، كما عند يورسونا ومحفوظ وايكو ومعلوف، وغيرهم. انها الروائية التي تقوم بالثقافة وفي فضاءاتها الانسانية الوسيعة وتستجيب لافق الكتابة الابداعية، كعملية مركبة، رافدها الشعور وايضاً اللاشعور بما ينطوي عليه من منسيات ومكبوتات. وانها في هذا المنحى عبارة عن مخاض عسير، ولكنه ممتع وملذوذ، اذ تروم اما اعادة تشكيل الواقع أو الدفع به الى اقاصيه، وإما تذويبه في ضده وبديله. وفي جميع الحالات تتبدى الكتابة وكأنها تحقيق لما لا يتحقق في الواقع، وسبيلها اليه الرؤيا والفانتزم، او كأنها وصف لما في الواقع من عوج ومسخ وعبث. وأسلوبها فيه السخرية والهزال والباروديا، وغيرها من الأساليب التفكيكية الأخرى.
أهواء مصطدمة
ان حقل الرواية ومكامن الروائية فيه هو التاريخ ماضياً كان أم حاضراً. بما يعج به من اهواء مصطدمة واستيهامات ورغبات وأفعال متضادة أو منتكسة. وما يحقق شرط، امكان الرواية كجنس كلي وسرودها هو اتسام للتاريخ انبنائياً بالدراما كعقدة متحركة متناسلة وبعد رئيس ملازم للوضع الانساني. وعيا منها بكل هذه المكونات وغيرها، اكدت فرجينيا وولف في احدى محاضراتها قائلة:”يلزم ان تلعب الثقافة دوراً بالغ الأهمية في أعمال الكاتب” (1).
على سبيل المثال فحسب
انطلاقاً من مفهوم الروائية، كما رسمت بعض معالمه، يمكن ولوج عالم عينة منتقاة من الفلاسفة العرب المسلمين من باب سيرهم الذاتية وكذلك الفكرية متسائلين عن تبدي لحظات وعناصر منها في مرآة روائية قيمة ممتعة، بل عن جواز ارتقاء هذا الفيلسوف او ذاك الى مصاف الشخصية الروائية الدرامية الثرية. فهذا الكندي وتيمة البخل التي التقطتها عنده عين الجاحظ الثاقبة الساخرة، وبوأته في سجل أولمبياد “البخلاء” العرب، الذين كانت لطبيعة البخل عندهم امتدادات وآثار في حياتهم العاطفية والذهنية.. وهذا الفارابي الذي يمكن اعتباره منشئاً وممارساً لمقولة ثفافة العزلة الخلاقة… وهذا ابن سينا وعلاقته بالخمر الميسر للفهم، الذي يمكن ان نسجل ملاحظات قصار عن سمات من شخصيته الروائية المشوقة المثيرة (2).
في باب الاعترافات الدالة الحميمية يكتب ابن سينا واصفاً علاقته بالفلسفة الارسطية وعالمها ومجاهدته في تحصيلها: “وكلما كنت أتحير في مسألة ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس، ترددت الى الجامع وصليت وابتهلت الى مبدع الكل حتى فتح لي المنغلق وتيسر المتعسر، وكنت أرجع بالليل الى داري، وأضع السراج بين يدي، واشتغل بالقراءة والكتابة، فمهما غلبني النوم، او شعرت بضعف عدلت الى شرب قدح من الشراب ريثما تعود الي قوتي، ثم أرجع الى القراءة (3). كما أن فيلسوفنا يذكر لنا انه قرأ ما بعد الطبيعة لأرسطو أربعين مرة ولم يفهم شيئاً، الى ان اشترى بالمصادفة من دلال شرح الفارابي ففتح الله عليه، القصة (4).
يرى الغزالي ان ذلك الشراب ليس شيئاً آخر غير الخمر، محتجاً بجواب ابن سينا على من اعترض عليه بتحريم أم الخبائث: “انما نهي عن الخمر لانها تورث العداوة والبغضاء. وانا بحكمتي محترز عن ذلك، واني اقصد به تشحيذ خاطري” (5). وهناك ما يدعم هذا الرأي ليس فقط لكونه أصيب بالقولنج لإفراطه في الشراب والجماع، وانما ايضاً لما ورد في كتاب يحيى احمد الكاشي من كلام عن مشاركة الرئيس بدار الأمير في مجالس الشراب بآلاتها ومغنيها، الخ (6). والمهم عندنا نحن هو أن نقر، مع غض الطرف عن كل تأثيم ديني، بدور الشراب المسكر وبايجابيته الدفعية التشحيذية وفي ولوج مجال ذهني مغاير وفتح منغلقه وتيسير متعسره.
ابن رشد نموذجاً
خلافاً لابن سينا والغزالي وابن حزم وابن منقذ وابن خلدون وغيرهم، لم يخلف ابو الوليد ابن رشد سيرة ذاتية او فكرية من شأنها ان تمدنا بمفتاح آخر لتعميق فهمنا بفيلسوف قرطبة ومراكش. وبالرغم من وجود نتف عن سيرته في مصادر معروفة لمؤرخين وتراجمة) الذهبي، ابن ابي أصيبعة، ابن الأبار، الانصاري.. (إلا انها اجمالاً لا تسعفنا حقاً في نيل ذلك المفتاح واستعماله. ولعل اهم العوائق والثغرات تثوي في بعض مواقف ابن رشد ووجوه سيرته، وكلها تسهم بنحو أو آخر في الحؤول دون استثمار حياته روائياً على شكل دينامي ثري؛ ومن تلك الوجوه والمواقف:
اتصاف ابي الوليد بقلة الحركة، اذ انه لم يتعد ثالوثه المتقارب الاضلاع: قرطبة اشبيلية مراكش؛ فلا حج قضاه ولا سياحة ولا سفارة ولا حضور في معارك حربية، اقربها اليه معركة سنتريم مع جيش الفونسو الثامن، التي قتل فيها ابو يعقوب يوسف سنة 580 هـ/1183 م وايضا معركة الارك التي انتصر فيها ابو يوسف يعقوب(المنصور) على القشتاليين في 591/1195.
حسب علمنا كان ابن رشد متزوجاً بامرأة واحدة وربما اكثر وله ابنان، ابو القاسم وابو محمد (أو عبدالله) كانا يشتغلان بالطب والعلوم الحكمية. لكننا بالكاد لا نعرف شيئاً عن حياته العاطفية في عشرة الأهل والنساء، ولو اننا في المقابل نعلم موقفه الايجابي، المتقدم على عصره، من النساء وما جبلت عليه بعضهن “من الذكاء وحسن الاستعداد، فلا يمتنع ان يكون لذلك بينهن حكيمات او صاحبة رياسة”؛ اما بقاؤهن دون مواهبهن وقدراتهن في الأندلس (وباقي البلاد الاسلامية) فلأنهن “اتخذن للنسل دون غيره وللقيام بأزواجهن وكذا للانجاب والرضاعة والتربية، فكان ذلك مبطلاً لأفعالهن (الأخرى)” (7).
– نفور صاحبنا من بعض الآلات الموسيقية، تتقدمها آلة الدف، وكذلك من الغلو التخييلي المعتمل في الاسطورة تخصيصاً، كما يمثل عليها بنموذج إير ER في مؤلفه “تلخيص كتاب السياسة” لأفلاطون (أي محاورة “الجمهورية”) بالمعاد ومصير النفوس في العالم الآخر، والواردة في الفصل العاشر، الذي أسقطه الملخص من عمله علاوة على فصول أخرى بدعوى تجريد الأقاويل العلمية الضرورية (!)
ـ نزوع صاحبنا الى التحفظ من أغراض في الشعر العربي كثيرة. ولم يكن يعرف سواه، اذ غالباً ما يصدر فيه أحكاما قيمية أخلاقية، مستوحاة اساسا من الموقف القرآني، فيذهب الى تأييد ما قرأه عند الفارابي: “وأكثر أشعار العرب انما هي كما يقول ابو نصر ـ في النهم والكريه. وذلك ان النوع الذي يسمونه النسيب انما هو حث على الفسوق. ولهذا ينبغي ان يتجنبه الولدان.. (8)؛ ولا يستثني من ذلك الا ما يسميه الشعر العفيفي”، المعرض عن القول المأثور “أعذب الشعر أكذبه”، ويستشهد في بابه بأبي الطيب المتنبي والى حد ما بأبي فراس الحمداني وابي العلاء المعري، ودونهم المحدثون ولو كانوا من صنف حبيب أبي تمام. ومعيار الشعرية عند ابن رشد هو التوفيق في التغييرات (بالتشبيه والابدال والموافقة والموازنة)، اي في اخراج القول غير مخرج العادة” وما خلا ذلك فليس في الشعر “من معنى الشعرية الا الوزن فقط” (9)
وقوف ابن رشد ضد التصوف، من دون تمييز، بسبب دعواهم الاقتدار على تحقيق الاتصال بالعقل الفعال بلا حاجة الى درس وعلم، وهذا عنده خرافة ووهم..
الحكمة
لكن، بالرغم من تلك العوائق والثغرات، هناك لحظات ومحطات في منحنى حياة ابن رشد قد تعوض عنها أوتهونها، بشرط اعمال منتج ذكي للافتراض التخييلي كلما دعت اليه الضرورة والحاجة. ولعل مشروعية هذا الاعمال تقوم في ظاهرة ضياع كثير من كتابات ابن رشد، بعضها، وهو قليل، استرجعناه في غير لغته الأصلية، اي بواسطة ترجمات عبرية أو لاتينية وبعضها ما زال في حكم الفقدان، ولا سبيل الى تلمسه وتمثله الا بالتكهن والافتراض والتخييل..
زمنية مفكرنا قروسطية بامتياز، دينيا وذهنية وحساسية، يراودها النزوع العقلي وتخالطها مناهج الحكمة، كما يتبدى ذلك من مسائل كتابه “تهافت التهافت”، رداً على “تهافت الفلاسفة” للغزالي، او بصفة أجلى من انضواء الخليفة الموحدي ابو يعقوب يوسف في تبيئة الفلسفة وتشجيعه على الخوض في شؤونها وطرائفها.
المكان، كما المحنا، يراوح بين قرطبة ومراكش واشبيلية (وليسيانة)؛ أما الشخصيات الحية المتحركة، فمن ابرزها: الصديقان ابن طفيل وأبو مروان ابن زهر وابن ابراهيم الأصولي، والزميل ابو بكر بن زهر (الأب) والتلميذ أبو بكر بندور، والى حد ما ابن عربي (في لقائه الخاطف العجيب مع فيلسوفنا)، وغيرهم؛ وايضا على واجهة أخرى: عبد المؤمن الموحدي وبالأخص ابنه ابو يعقوب الذي حرك ابا الوليد الى تفسير ارسطو في اجتماعه الشهير معه (10)، وكذلك ابن هذا الأخير، المنصور؛ هذا علاوة الى اموات افذاذ حاضرين بأعمالهم العابرة للأحقاب والثقافات: أرسطو والفارابي وابن سينا والغزالي، الخ. وأما النساء فلا نساء الا ما قاله ابن رشد في حقهن اعترافا وتكريما كما سبقت الاشارة. ويحسن العمل على تعويض هذه الندرة روائياً بما يجب من ذوق وترجيح سليمين.
بالطبع، لا مناص من ان تكون الرواية عن ابن رشد فلسفية، كما يقتضي المقام، ولكن بما ينسجم مع خصوصيات البناء السردي وتقنياته، منها مثلا: تحويل بعض المسائل والعقد الفلسفية، وحتى العويصة المتصعبة منها، الى كيانات أو كائنات حية متحركة متسلسلة (كقدم أو حدوث العالم ونظرية العقول وفكرة وحدة العقل، الخ). ومثيل هذا فعله مبدع الواقعية السحرية لويس خورخي بورخيس في قصته القصيرة مبحث ابن رشد (la busca de Averroes) في مجموعته “الألف”، حيث يركز على ارجاع مفسرنا الكبير مفهومي تراجيديا (tragodeia) وكوميديا (comedia) عند ارسطو في “فن الشعر” الى مفهومي المديح والهجاء عند العرب (11) ويساير الروائي هذه الأقلمة الرشدية بالمثل الملموس بالمثال وارادة التقريب في وسط لم يعرف فن المسرح والتمثيل، كما عرفه الاغريق.
الوقوف على شهية ابن رشد المعرفة (أو Orexi tis episteme بالتعبير اليوناني) وبالتخصيص محبته للفلسفة مشخصة في معاشرته المديدة الوفية حتى آخر العمر للذي “كمل عنده الحق”، وتصدق عليه الآية 54 من سورة المائدة ـ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ـ ، حسب ابي الوليد، وهو “واسع الجبهة، أحلج الراس”، ارسطو الذي يُروى ان الخليفة المأمون رآه وحاوره في المنام (كما في أخبار الحكماء للقفطي والفهرست لابن النديم). ان هذا الفيلسوف اليوناني الفذ الذي ظل تلميذ افلاطون في الاكاديمية مدة عقدين من الزمان، ثم استقل عنه بفتح مدرسته (ليكيون) لهو الأجدر والأولى بأن يشخصه تمثال المفكر للناحت الفرنسي اوغست رودان، فيما يظهر نصب ابن رشد بقرطبة ورسومه اللاتينية كرجل قراءة بامتياز؛ ولا بد للروائي ان يبرز عند ابي الوليد محبة العمل التحصيلي والبحثي وأخذه كتاب العالم عبرالنص الأرسطي بقوة الشوق والعزم والتفاني، اذ لم يشغله عن هذا الكتاب الا يوم زواجه ويوم وفاة أبيه، كما يروي ابن الأبار في التكملة..ولم تكن معرفة ابن رشد بلغة واحدة، لغته العربية، لتثنيه عن الخوض في ما لم يصله الا عبر الترجمة، فرأيناه في تلخيصاته وتفاسيره يستقبل مفاهيم ارسطية بعباراتها اليونانية، ومنها: الهيولي (المادة القابلة لحمل الصور)/الاسطقسات (العناصر الأربعة: الماء والهواء والتراب والنار) كاطيغوريا (المقولة) ريطوريكا (الخطابة، البلاغة)/ فيلوصوفيا ( فلسفة) موسيقوس (موسيقى) اوقيانوس ( بحر المحيط) نوموس (ناموس، قانون)/سوفسطيكي (سفسطائي)/سلجسموس (قياس منطقي)/أطرون (الشهواني، النزق)، الفبطوس (ابحدية)/أكاديميا (الخ. ولا ريب انه في تلخيص كتاب السياسة الضائع قد استعار من اليونانية الى العربية مفاهيم مثل: ديمقراتييا (حكم الشعب)/مونارخيبة (حكم ملكي)/بلوتوقراتييا (حكم الأغنياء)/أوتوقراتييا (حكم الاستبداد أو “وحدانية التسلط”)، بوليس (المدينة) الخ.
البرهانية

روائياً، لعل من ابرز الصور الرائعة المؤثرة عند صاحبنا هي تلك الواردة في تلخيص المجسطي الضائع اصله العربي (المنقول الى العبرية) ويرجع اذا الى مرحلة الجوامع الأولى (epitomes) وربما مرحلة التلخيصات، ومفاد الصورة في افتراض ابي الوليد ان حريقا شب في بيته، فحداه على الكد في انقاذ الضروري النافع، اي بالجمع المستطاع والتلخيص المخلص (12)، حتى ان البرهانية باتت عنده كغربال للتصفية والانتقاء. ولا ريب ان في تلك الصورة ما يوحي بأن ابن رشد كان يحس انه يعاني ويعيش اضطراب الوقت واهتزازه ونهاية مرحلة وعهد.
محطة اخرى في سيرة ابن رشد العلمية، وهي روائيا مادة خام قابلة للتفعيل: انها حسه السجالي بل الصدامي (البوليميكي) الفائق، الذي جعله في معارضة حادة لأغلب الفرق والأسر المذهبية، أهمها الفقهاء، “ومعظمهم، حسب حكمه، هكذا نجدهم، اي اهل رياء”، لا يقدرون الا على المكوث بين الفروع دون الأصول واعمال “القياس الظني” وحده؛ ثم المتكلمون الذين حسب تعبيره، في قلوبهم زيغ وفي قلوبهم مرض” (13) ويعارضهم بمنطق “البرهانية” الأرسطية) (اي يسفسطهم به)، وقد يبدو احيانا مستثنيا المعتلة، الذين يعترف في كتابه “الكشف عن مناهج الأدلة” ان مصنفاتهم لم تصل اليه، ونظريتهم في المبدأ الأول قريبة من نظرية الفلاسفة؛ أما جام غضبه فيصبه على الاشاعرة، اصحاب المذهب الذري والقول بنفي السببية، وهم الذين يمثلهم الغزالي وأصدر ضدهم ابن رشد الجد فتوى انتقاد وتعريض.. وحتى الفلاسفة كالفارابي وابن سينا فان ابا الوليد عموما يتهمهم بالخرص وتحريف كلام المعلم الأول الخ؛ بل وحتى الأطباء (“أطباء وقتنا”، كما يقول) فانه يذهب من باب الرصد الى انتقاد اكتفائهم بالطريقة “المناشية” التفصيلية الاجتزائية دون النظرية والكليات (14).
في مجمل تلك الميادين، لعل العينة التالية تعطينا فكرة عن ترسانة الكلمات السجالية الحادة في القاموس الرشدي: كتاب التهافت (الغزالي) أو كتاب التفاهة/التغليط/المعاندة/التخليط/التلبيس/الشناعات/العجز/الالغاز عن الحق/سفسطائية/التخرص/التخريف/القصور عن مرتبة البرهان/ هذيانات/سخافات/ضلال/تضليل، الخ.
نكبة ابن رشد
اخيراً، تجدر الاشارة الى ما اصطلح على تسميته “نكبة ابن رشد”: هذه النكبة، ولو انها اقل درامية مما قيل، نظراً لظرفيتها وقصر مدة نفي “المنكوب” جراءها الى قرية اليسانة اليهودية ببادية جنوب ـ غرب قرطبة، فلا بد ان تهم الروائي لحاجة في نفسه يريد قضاءها، لكن ليس على طريقة يوسف شاهين في فيلمه “المصير”، حيث تكثر الأخطاء والمغالطات التاريخية البليغة وتتناسل.
أعلم النكبة باسباب وتعلات رواها تراجمة ومؤرخون، بعضها يبلغ من الاحتمال والرجحان درجة مقبولة او مستساغة:
في تصنيف ابن رشد للحيوان ذكرالزرافة ومشاهدته لها “عند ملك البربر”، فاغتاظ ابو يوسف يعقوب (المنصور) لذلك واستوحش، ونقم على صاحب القول الذي اضطر للاعتذار اليه بكونه انما قصد “ملك البرين”، لا غير.
إتهام فيلسوف قرطبة بالشرك من طرف فقهاء ووشاة جهلة، متحججين بنص من شروحه يقول إن كوكب “الزهرة أحد الآلهة”، فنقلوا العبارة الى الخليفة المنصور خارج مناطها وسياقها بقصد النيل من عقيدته الدينية والتشنيع عليه؛ والغريب أنه لما أحضر أمام الخليفة بادر (ربما من فرط الانفعال والارتباك) الى إنكار خطه في كتابتها، فلعن وأُخرج على أسوأ حال والراجع في تقديرنا أنه إذ أخذ على حين غرة، اعتراه الاضطراب والارتباك، كما حصل له مراراً من قبل.
رواية نكرانه (والراجح أنها ملفقة) لوجود قوم عاد وإهلاكهم بريح عاتية، خلافاً لما تذكره الآية، من سورة الحاقة؛ هذا علاوة على ما حكي عن طرده وابنه عبدالله من مسجد قرطبة على أيدي “سفلة من العامة”، إلخ.
أما رواية تآمر ابن رشد مع أبي يحيى ضد أخيه المنصور أيام مرض هذا الأخير، فمردودة ولا تستحق الوقوف عندها، نظراً لانصراف الفيلسوف عن سياسة الدسائس والانقلابات الى ما هو أهم وأبقى: البحث الفلسفي والتأمل الفكري؛ وبالتالي فإنها من اختلاق خصومه والمتربصين به الدوائر؛ هذا على الرغم من أن ابن رشد لخص “كتاب السياسة” المذكور بطلب من الأمير أبي يحيى، وأن الرجلين ربطتهما علاقات ود وصداقة.
اختصاراً، إن نكبة ابن رشد أو محنته (وقد عرف مثلها الفقيهان أبو جعفر الذهبي وأبو عبدالله محمد بن ابراهيم) مهما يمكن كلامنا فيها وتأولينا لها، فلا مناص من استحضار الظروف والملابسات المحيطة بها، ومنها تخصيصاً: حرب الأندلس الدائرة رحاها بين جيش الحلف المسيحي والجيش الموحدي المغربي؛ الحروب الصليبية في المشرق التي عاصر ابن رشد حلقتين رئيسيتين منها (وإن كان لا يذكر عنهما شيئاً!)، وهما من جهة انتصار صلاح الدين الأيوبي (المتوفى سنة 589هـ/ 1193م) في معركة حطين (583هـ/ 1187م)، ومن جهة أخرى الحملة الصليبية الثالثة واحتلال باربروس لكونيا بآسيا الصغرى. وغاية أي تمثل للشرط التاريخي السياسي في هذا المقام إنما هي محاولة فهم ولا نقول بالضرورة تبرير موقف جمهرة الفقهاء، ومعهم بعض أولي الأمر وشرائح العامة، من ابن رشد وانشغالاته الفلسفية التي بدت لهؤلاء وأولئك خارجة عن دوائر التحصين المذهبي ونوابضه الذاتية المقاومة الممانعة.
ختاماً، إخال أن فيلسوف قرطبة ومراكش مات وفي صدره غصة، لكون الوقت لم يمهله لكي يضع كتاباً كان يحلم به ويحمله بالقوة، فلم يخرجه الى الفعل، وذلك لشدة انقطاعه الى تراث الإغريق (والأرسطية أساساً) وتفانيه في تلخيص نصوصه وتفسيرها؛ وأيضاً بسبب “الكُرب” و”اضطراب الوقت”، حسب تعبيره، وهو القائل بصريح اللفظ في “مختصر علم النفس”: “وإن فسح الله في العمر وأفرغ عن ضيق الوقت فسنكتب بقول أشد استقصاء…” هذا الكتاب الاستقصائي الإبداعي هو الذي مهّدت له كتابات ابن رشد التحصيلية والاستكشافية السالفة، ولكن لم “تمتخض زبدته” و”تسل شآبيبه على الفكر”، كما حصل لإبن خلدون بعد ابن رشد في قلعة ابن سلامه مع “المقدمة” و”العبر”؛ هذا الكتاب هو الذي على الروائي المفكر اليوم أن يتصوره ويتخيله حتى يكتب عنه أو شيئاً منه، آيته في ذلك الإسهام في إنجاز ما تمناه ضمنياً الشيخ الرئيس ابن سينا في إقراره بكون المشائي المسلم “مشغولاً عمره بما سلف، ليس له مهله يراجع فيها عقله، ولو وجدها ما استحل أن يضع ما قاله الأولون موضع المفتقر الى مزيد عليه وإصلاح وتنقيح إياه…”(15).

(*) ناقد أدبي وباحث من المغرب

[ هوامش

(1) V. Woolf, Workers, Educational Association, Brighton, mayo 1940
(2) أنظر رواية Gilbert Sinoé, Avicenne ou la route d-Ispahan, Paris 1989
(3) إبن سينا، الإشارات والتنبيهات، القسم الأول، دار المعارف، القاهرة، 1971، ص 87، (كما ورد في رواية الجوز جاني).
(4) شاعت تلك القصة حتى وصلت محورة الى علم الفيلسوف الألماني هيغل إذ انه نسبها الى الفارابي، أنظر دروس في تاريخ الفلسفة، الترجمة الفرنسية، ط. فران، باريس، 1978، ج5، ص 1033.
(5) الغزالي، المنقد من الضلال، طبعة اليونسكو، بيروت، 1959، ص 48.
(6) يروي الكاشي عن ابن سينا: “فكان يجمع كل ليلة في داره (الأمير) طلبة العلم، وكنت أقرأ من الشفاء نوبة، وكان يقرأ غيري من القانون نوبة، فإذا فرغنا حضر المغنون على اختلاف طبقاتهم، وهيئ مجلس الشراب بآلاته، وكنا نشتغل به. وكان التدريس بالليل لعدم الفراغ بالنهار، خدمة للأمير. فقضينا على ذلك زمناً”. (أنظر نكت في أحوال الشيخ الرئيس ابن سينا، القاهرة، 1952، ص 14).
(7) ابن رشد، الضروري في السياسة، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، نقله من العبرية الى العربية د. أحمد شحلان، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998، ص 125.
(8) ابن رشد، تلخيص كتاب أرسطو في الشعر، ضمن أرسطوطاليس، فن الشعر، ترجمة وتحقيق د. عبدالرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت 1973، ص 205.
(9) المراجع نفسها، ص 238 و243
(10) إن ذلك الاجتماع تم بواسطة ابن طفيل، طبيب الخليفة وصديق أبي الوليد، كما في رواية مشهورة، حسبنا منها في هذا المقام سؤال أبي يعقوب الى الفيلسوف: “رأيهم في السماء ـ يعني الفلاسفة ـ أقديمة هي أم حادثة؟” وكذلك ما ورد عن أبي الوليد بخصوص شكوى سائله من “قلق عبارة أرسطوطاليس أو عبارة المترجمين عنه وطلبه من يرفع غموضها ويفسر مقاصدها، قال: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس” والجدير بالإشارة ما روي عن المسؤول من قول: فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرره معه ابن طفيل”). أنظر عبدالواحد المراكشي، المعجب في تلخيص في اخبار المغرب، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1978، ص 353 ـ 354.
(11) يكتب ابن رشد نقلاً عن أبي بشر متى بن يونس القنائي، مترجم فن الشعر لأرسطو من السريانية الى العربية: “قال: فكل شعر وكل قول شعري فهو إما هجاء وإما مديح”، أي في الأصل اليوناني: إما كوميديا وإما ترا-وديا…، المرجع المذكور، ص 201.
(12) أنظر في S. Munk, mélanges de philosophie juive et arabe ص 433.
(13) ابن رشد، فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، تحقيق ألبيرنادر، بيروت 1981، ص 10.
(14) ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق محمود قاسم (ط2)، القاهرة، 1984، ص 208.
(15) ابن سينا، منطق المشرقيين، القاهرة، 1910، ص 3.

(*) قدمت هذه الورقة في الندوة الفكرية التي عقدتها مجلة العربي أخيراً في الكويت

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى