صفحات أخرى

كيف يدمّر الأثرياءُ العالمَ ؟

null
هرفي كامف Hervé Kempf
ترجمة : محمد صدّام
ماذا لو كان تلويث البيئة مرتبطا بالأزمة الاجتماعية في العالم ؟
فالذين يُمسكون بمقاليد الأمور السياسية والمالية هُمْ بالفعل – أيضا- مشجّعو نموذج استهلاك مفرط، ناسف لكوكبنا… لكنه مُحاكَى من قِبل الفئات الوسطى. يكفي أن يسلك أصحاب المرتبة الأولى في السُلـّم طريق التخفيض من الاستهلاك كي يكون مفعول تقليد ذلك الانخفاض مضمونا… ذلك أن صيانة كوكب الأرض تمرّ عبر المزيد من المساواة فيه.
تشكل الأجيال الثلاثة أو الأربعة، التي تعيش على عتبة الألفية الثالثة، الأجيال الأولى في تاريخ الإنسانية التي تصطدم بحدود المحيط الحيوي، منذ أن بدأ البشر يرتادون كوكب الأرض. هذا الالتقاء لا يجري تحت شعار التوافق و الاتساق، بل في ظل أزمة بيئية بليغة.
لنؤكّد على بعض مظاهر هذه الأزمة : أوّلها هو القلق الجديد الذي أصبح يعتري المهتمين بالمناخ. إنهم أصبحوا يفكرون منذ عدة أعوام حول فرضية لانعكاسية التغيّر المناخيّ. وكانت الفكرة السائدة إلى حدّ الآن هي أننا سنشهد ارتفاعا حراريا تدريجيا، ولكن، عندما تشعر الإنسانية بخطورة الوضع يكون في مقدورها أن تعود القهقرى وتستعيد التوازن المناخيّ من جديد. يثير المناخيون  اليوم احتمال بلوغنا نقطة اللاعودة أي نقطة يكون فيها النظام المناخي قد افلت من أيدينا وانزلق نحو فوضى لا يمكن الرجوع عنها. هناك سلسلة من المؤشرات تغذّي هذا القلق : فجليد الغرونلند هو بصدد الذوبان بسرعة أكبر مما توقّعه واضعو النماذج، والمحيطات يمكن لها امتصاص كمّيات أدنى من غاز الكربون والارتفاع الحراريّ يفعل فعله في التعجيل بتذويب هذه الطبقة الكثيفة من الأراضي المجمّدة الواقعة في سيبيريا وكندا وهو ما يهدّد بتسريح الكميات الهائلة من غاز الكربون والميتان التي تحتويها.
الملاحظة الثانية  هي أنّ الأزمة البيئية لا تـُختزل في التغيير المناخيّ. فهو لا يشكّل سوى الظاهرة الأكثر شيوعا لدى الجمهور، وليس إلاّ جانبا من الأزمة العامة، تضاهي أهميته بلا شك أهمية الانجراف الذي يحصل للتنوّع البيئيّ (biodiversité) والذي لا يمكن قياس فداحته بتعبير أحسن من تعبير الخبراء  الذين يتكلمون عن ” أزمة انقراض سادسة ” عندما يصفون الاختفاء السريع لبعض الأنواع الذي تشهدها الحقبة التي نعيشها. عِلما بأن الانقراض الخامس قد وقع منذ 65 مليون سنة وشاهد فناء الدينصورات من كوكب الأرض.
هناك جانب ثالث، أقل حساسية، ربما، أو أقل توليفا من إشكالية التغير المناخيّ، يتمثل في التلوث الكيميائي العام لمحيطنا وهو تلوث يأخذ مظهران منه بالخصوص شكلا مزعجا. فمن جهة نجد السلسلة الغذائية وقد تعفنت بالملوّثات الكيميائية، مهما كانت كمّيّاتها ضئيلة، ومن جهة ثانية يتجلّى اليوم بوضوح أكبر أن النّظام البيئي الأشمل لكوكب الأرض (أي مجموع المحيطات) الذي كنا نظن أنه يكاد يكون لا متناهيا في قدرته على إحياء نفسه، أصبح أكثر فأكثر ضعفا وهشاشة، سواء بمفعول التلوّث أو بمفعول تدهور هذا الجزء أو ذاك من أنظمته البيئية الفرعية.
هذا المدخل يحدّد الضرورة العاجلة للعمل السياسيّ لحقبتنا الحاضرة. غير أنّ تنبيه مجتمعنا لهذا الخطر ليس وليد اليوم ولا وليد الأمس بل تمّ منذ عشريات عديدة. فمنذ أن أطلقت “راشال كارصون”Rachel Carson صيحة الفزع عام 1962 في كتابه “الربيع الصامت” (Le Printemps silencieux) ومنذ أن دخلت المسألة البيئية بقوّة في الجدل العموميّ خلال السبعينات تراكمت كتلة من المعلومات عن طريق الندوات الدولية والمقالات العلمية والنضالات البيئية  لإثبات هذا الاتّجاه العامّ.
فلماذا لا تتجه مجتمعاتنا حقّا نحو السياسات التي تمكـّنها من تفادي تعميق الأزمة البيئية ؟ إنّها المسألة الجوهرية ! وللإجابة  عنها  يجب تحليل علاقات السلطة والنفوذ في مجتمعاتنا  وهي مجتمعات منظمة بالفعل بشكل يعرقل هذه السياسات الضرورية.
كيف يكون ذلك ؟ منذ عشرين سنة تقريبا تميزت الرأسمالية  برجوع ظاهرة الفقر في البلدان الغنية. لقد توقــّف التراجع الذي عرفته نسبة الفقر منذ نهاية الأربعينات في البلدان الغربية بل إن هذه النسبة قد ازدادت في بعض الحالات. وشاهدنا كذلك ارتفاعا مستمرا في عدد الذين أصبحوا في وضعية هشة، أي الذين هم فوق حدّ الفقر بقليل. من ناحية أخرى  وعلى مستوى عالميّ بلغ عدد الذين هُمْ في حالة فقر مدقع، أي الذين لا يتجاوز دخلهم الدولارين يوميا، ما يقارب المليارين، بينما تقدّر المنظمة العالمية للتغذية والزراعة  (FAO) عدد الذين لا يتغذون بما فيه الكفاية بـ820 مليون نسمة.
إن تفاقم عدم المساواة منذ عشرين سنة يشكل المظهر الآخر للأزمة الاجتماعية. وقد أثبتت ذلك العديد من الدراسات، نخصّ بالذكر منها دراسة مفيدة جدّا أشرف عليها خبيران في الاقتصاد ينتميان إلى جامعة “هارفارد”Harvard وإلى المجلس الاحتياطي الاتحادي(Reserve Federal Board ). لقد قارنت الخبيرة “كارولا فريدمان”(Carola Frydman) وزميلها “رافان.إ.ساكس”(Raven E.Saks) النسبة بين الأجر الذي يتحصل عليه  المسيّرون الثلاثة الأوائل لـ500 أكبر مؤسسة أمريكية والأجر المتوسط لبقية العاملين في هذه المؤسسات. فوجدا أنّ هذا المؤشر الذي يدل على تطور اللامساواة  قد بقي مستقرا  من فترة الأربعينات (بداية العمل بهذا المؤشر) إلى السبعينات :أي إن أجر المسيّرين في المؤسسات المعنية بقي يساوي 35 مرّة  الأجر المتوسط لأجرائهم طيلة تلك الفترة. ثم حدث انفصال بداية من الثمانينات، وارتفعت تلك النسبة بصورة مسترسلة لتبلغ 130 مرّة خلال سنوات 2000.
تثبت هذه الدراسات حدوث قطيعة كبرى في اشتغال الرأسمالية منذ ستين عاما. فخلال ما وقع تسميته “بالثلاثين سنة المجيدة” كان الإثراء الجماعي الذي سمح به ارتفاع الإنتاجية موزّعا بصورة شبه متساوية بين العمل والرأسمال، بحيث أن نِسب اللامساواة بقيت مستقرة. ومع مطلع الثمانينات أدت مجموعة من الظروف – لا مجال لتحليلها هنا – إلى انفصال ما فتئ يتوسع بين أصحاب الرساميل وبين جمهور المواطنين. فراكمت الأقليات الثرية  المداخيل والمواريث إلى درجة لم نشهد مثيلا لها منذ قرن.
من الضروريّ أن نهتم ّبالشكل الملموس الذي يستغلّ به أصحاب الثراء المفرط ثروتهم. فهذه الثروة لم تعد متخفية  كما كان ذلك ساريا  في زمن البورجوازية البرتستنتينية المتقشفة كما وصفها “ماكس فيبر”، إنها اليوم بالعكس من ذلك تغذي استهلاكا مفرطا ليُخوتٍ وطائراتٍ خاصة وإقامات فاخرة  وجواهر ورحلات أسفار مجلوبة وخليط برّاق وزائف من التبذير المسرف. وقد اكتشف الفرنسيون مع “نيكولا ساركوزي” مثالا مؤسفا لهذا التصرّف المبهرج.
فلماذا يكون هذا محرّكا للأزمة البيئية ؟ كي نفهم ذلك، يجب علينا أن نستعين بالاقتصاديّ الكبير”تورستين فيبلان”(Thorstein Veblen) الذي أعطى “ريمون أرون” لفكره نفس المرتبة التي أعطاها لفكر “كارل فون كلوزويتش”(Carl Von Clausewtz) أو”ألكسي دي توكفيل”(Alexis de Tocqueville). وبالرغم من النسيان الذي يشمله اليوم  فإنّ هذا الفكر لا يكف عن أن يكون ذا وجاهة أخّاذة.
لنلخّصه بغاية الاختصار: ماذا يقول Veblen ؟ يقول إنّ النزوع إلى المنافسة  ملازم للطبيعة البشرية. فكلّ منا ينزع لمقارنة نفسه مع الآخرين و يسعى من خلال هذه الخاصية الخارجية أو تلك إلى إبراز بعض التفوق وهو فرق رمزيّ تجاه الأشخاص الذين يعيش معهم. لا يدّعي Veblen أنّ الطبيعة الإنسانية تختزل في هذه السّمة ولا يُصدر عليها حكما  من وجهة نظر أخلاقية، إنه يقوم بملاحظة ذلك، ليس إلاّ. إنه يعاين، بالاعتماد على الشهادات العديدة لعلماء الأجناس المعاصرين له، أنّ هذا الشكل من المنافسة الرمزية متواجد في جميع المجتمعات.
يواصل Veblenقائلا إنّ جميع المجتمعات تنتج، علاوة عن ذلك، بلا عناء كبير ما يكفي من الثروة الضرورية لسدّ حاجياتها من الغذاء والسكن وتربية الأطفال والمؤانسة، الخ. إنها تنتج في الغالب كمية من الخيرات تفوق بكثير سدّ هذه الحاجيات. لماذا ؟ لأنّ الأمر يتعلق بتمكين أفرادها بأن يتمايز بعضهم عن البعض الآخر.
لاحظ Veblen بعد ذلك وجود عديد الطبقات داخل المجتمع، كل واحدة منها محكومة بنفس مبدأ المنافسة التفاخرية (المتباهية). وداخل كلّ طبقة يتّخذ الأفراد كنموذج (أو قدوة) السلوك المعمول به داخل الطبقة الاجتماعية الأعلى الذي يحدّد (معيار) الجيّد والأنيق الذي يقع اتباعه. والطبقة الاجتماعية التي يقع تقليدها تقلّد هي بدورها الطبقة التي فوقها على سُلـّم الثروة. وهذا التقليد يعاد إنتاجه من أسفل إلى أعلى بحيث أنّ الطبقة التي تحتلّ القمة هي التي تحدّد النموذج أو المثال الذهني (أو الثقافي) لما هو رائع وذو جاه ولِما يُفرض على الآخرين.
فماذا يجري يا ترى داخل مجتمع شديد اللامساواة ؟ إنه يُولـّد تبذيرا عظيما، لأنّ التّبذير المادّيّ لأصحاب الثراء الفاحش، الذين هم أيضا ضحية المنافسة التفاخرية، يعمل كمثال بالنسبة لكامل المجتمع. فكلٌّ من مستواه وفي حدود مداخيله يسعى إلى امتلاك الخيرات  والمظاهر الأكثر قيمة. فالوسائط والإعلانات والأفلام والمسلسلات  والمحلاّت الشعبوية  كلها وسائل وأدوات  لنشر وتعميم المثال الثقافيّ المهيمن.
كيف يعرقل إذن حكم الأقلية الثرية التطوّرات الضرورية التي تحول دون استفحال الأزمة البيئية ؟ يكون ذلك بصورة مباشرة طبعا عبر رافعات السياسة والاقتصاد والإعلام التي تتحكم بها وتستعملها هذه الأقلية للإبقاء على امتيازاتها. ولكن أيضا بصورة غير مباشرة – وهذا ما له أهمية مماثلة – عبر (هذا) النموذج الثقافي للاستهلاك الذي يطبع كامل المجتمع ويحدد به معياريته.
ونختم من جديد مع البيئة. إنّ استباق تعمّق الأزمة البيئية، بل إنّ الشروع في ترميم المحيط هو من ناحية المبدإ، على قدر من البساطة : يجب على الإنسانية  أن تخفف من وطأتها على الغلاف الحيوي للكرة الأرضية. إنّ تحقيق ذلك هو مبدئيا على قدر من السهولة أيضا: هذا يعني أن نخفّض من اقتطاعنا واستهلاكنا للمعادن والخشب والمياه والذهب والنفط… الخ وأن نخفّض من إنتاجنا للغازات ذات المفعول الدفيء وللفضلات الكيميائية والموادّ المشعّة  وبقايا موادّ التغليف والتعليب …الخ. إنّ هذا يعني التخفيض من الاستهلاك المادي العامّ لمجتمعاتنا.ومثل هذا التخفيض يشكّل رافعا أساسيا  لتغيير المعطى البيئيّ.
فمن المدعوّ لتخفيض استهلاكه الماديّ ؟ تشير التقديرات أنّ ما بين 20 و 30 بالمائة من السكان في العالم يستهلكون ما بين 70 و 80 بالمائة من المواد المستخرجة  سنويّا من الفضاء الحيويّ للأرض. إذن، التغيير يجب أن يأتي من هؤلاء الـ 20 – 30 في المائة، وهم في المقام الأول شعوب أمريكيا الشمالية وأوروبا واليابان، وداخل هذه المجتمعات (المتطوّرة بما يفوق الحاجة) لا نستطيع أن نطالب الفقراء وأصحاب الدخل الأدنى والشغالين من أصحاب الأجر المتواضع بالتخفيض  من استهلاكهم المادّيّ. غير أنّ هذا التخفيض لا يجب أن يقتصر فقط على الأثرياء المفرطين في الثراء، لأنه حتى إذا ما استغنى السادة ساركوزي وفانسان بلوري وألان مانك وبرنار أرنولت وأرنو لاقرديار وجاك أتالي ونظراؤهم  من القلّة الثرية عن استعمال سيارات الليموزين الفاخرة (بسائقيها) وعن الساعات البرّاقة  والتسوّق بعربات 4×4 في “سان تروبي”، فإنهم لا يشكلون جمْعا كثيفا من شأنه أن يغيـّر التأثير البيئيّ الجماعيّ بصورة مهمّة. إنّ عملية التخفيض من الاستهلاك المادي يجب أن تطرح (إذن)على الطبقات الاجتماعية الغربية المتوسطة.

نرى هنا أن قضية اللامساواة هي قضية مركزية : فالطبقات الوسطى لن تقبل أن تنحو نحو التنقيص من الاستهلاك المادي إذا ما تواصلت وضعية اللامساواة الحالية وإذا ما لم تعتمد التغييرات الضرورية بصورة عادلة. إنّ إعادة  إحداث شعور بالتضامن – الشرط الأساسيّ لإعادة توجيه راديكالي لثقافتنا – يفترض بديهيا أن نقلص بصورة حاسمة من اللامساواة، الأمر الذي من شأنه أن يغير النموذج الثقافي السائد.

إن اقتراح التخفيض من الاستهلاك المادي قد يبدو استفزازيا في إطار “الحمّام الأيديولوجي” الذي نحن فيه غائصون. غير أنّ الزيادة في الاستهلاك الماديّ العامّ لم تعد اليوم مقرونة بالزيادة في الرخاء الجماعي، بل إنها تستجلب بالعكس تدهورًا لِمستوى هذا الرخاء. فإذا ما اختارت حضارة أن تخفّض من مستوى استهلاكها المادي، فإنّها ستشهد – مقابل ذلك – انفتاح أبواب لسياسات أخرى. فإذا ما تزوّدت بأدوات انتقال الثروة – التي يوفّرها التقليص من الفوارق – فإنها تستطيع أن تحفـّز الأنشطة الإنسانية المفيدة اجتماعيا والسليمة بيئيا. وتشكل الصحة والتربية والنقل والطاقة والزراعة ميادين تبدو فيها الحاجيات الاجتماعية كبيرة
وإمكانيات الفعل والنشاط هامة. إنّ الأمر يتعلق (إذن) بتجديد الاقتصاد عبر فكرة المنفعة الإنسانية بدلا من هاجس الاستهلاك الماديّ وبتبجيل الرابط الاجتماعي على تلبية الرغبات الفردية : فأمام الأزمة البيئية يجب علينا أن نستهلك أقلّ كي نوزّع أحسن، وأن نعيش معا بطريقة أحسن عوض أن نستهلك على انفراد.

المؤلف : هرفي كامف Hervé Kempf
كاتب و صحفي فرنسي متخصّص في قضايا البيئة
نشر المقال بنشرية ” مانيار دي فوار”Manière de voir   التابعة إلى شهرية Le Monde Diplomatique  عدد 99  لشهري جوان وجويلية 2008
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى