صفحات العالم

معركة البرادعي نموذجاً: أنظمة تخشى وجود المنافس… وتحارب ظهور البديل!

محمد منصور
يبدو أن أكثر ما تخشاه الأنظمة العربية، التي استأصل معظمها فكرة تداول السلطة من ذاكرة أجيال تربت على زعيم واحد، ولم تعرف منذ دخولها الروضة وحتى تخرجها من الجامعة سوى صوت وصورة رئيس واحد، يبدو أن أكثر ما تخشاه حقيقة هو وجود بديل مقنع لهذا الرئيس، قادر على أن يكون منافساً قوياً، ولو في انتخابات رئاسية شكلية، لا تختلف في جوهرها وفي نتائجها عن حالات الاستفتاء على مرشح واحد لا ثاني له… ذلك أن أكثر ما تحرص هذه الأنظمة على فعله طيلة سنوات من القمع والمصادرة وكم الأفواه، ودك الناس في السجون كعقاب على مقال كتبوه، أو تصريح شفهي صرحوا به، أو مقابلة تلفزيونية ظهروا فيها، هي منع ظهور أي بديل أو منافس للرئيس يمكن أن يتبلور ليس خارج السلطة فقط، بل من حواشيها أيضاً، ولسان حالها في هذه السياسية التدميرية، أمام كل سيناريو تغيير قد يفرض نفسه: أين هو البديل الذي يمكن أن يملأ الفراغ فيما لو حدث… ويقود التغيير فيما لو اضطررتم إليه؟!
تذكرت هذه الفكرة التي سبق أن طرحتها قبل سنوات في كتابي (الصندوق الأسود للديكتاتورية) وأنا أتابع على قناة (دريم) المصرية الخاصة، اللقاء الاستثنائي الهام الذي أجرته المتميزة منى الشاذلي في برنامج (العاشرة مساء) وعلى الهواء مباشرة لأكثر من ساعتين، مع الدكتور محمد البرادعي، الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والذي عاد إلى بلاده، بعد انتهاء ولايته الثالثة في رئاسة تلك المؤسسة الدولية الهامة… ليعلن عن إمكانية ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة المصرية عام 2011، وليثير بذلك زوبعة من الهجوم العنيف ضده في الصحافة الرسمية المصرية، التي تعاملت مع الموضوع باعتبارها صحافة نظام، لا صحافة وطن وشعب، فراحت تشنع على (البديل الممكن) للسيد الرئيس، تارة تتهمه بأنه كان ما قبل الأخير في دفعته الجامعية… وأخرى تصفه بأنه (رئيس سويدي لمصر) للتشكيك في انتمائه للواقع المصري خلال سنوات اغترابه، وثالثة تغمز من أهمية المنصب الذي كان يشغله في المؤسسة الدولية، مرددة بلا كلل أو ملل أن بروز الدكتور البرادعي في جانب من السياسة الدولية، لا يجعله أهلاً لأن يكون رئيس دولة بحجم مصر.. بل يصل التشكيك فيه إلى القول بأنه كان يأتمر بأوامر أمريكا وإسرائيل حين كان رئيساً لوكالة الطاقة الذرية، وهو قول إذا صح- سوف يجعل من البرادعي من أقرب المقربين لنهج الرئيس مبارك نفسه!
وهكذا فكل المحاولات تجري الآن لمحاولة تشويه (صورة بديل)، لم يسمح النظام المصري بظهوره، ولم يفسح له المجال بالتأكيد لكي يبلور تجربته ويصنع جماهيريته… لكن من سوء الحظ أن السيد البرادعي استطاع باجتهاده وتفوقه ونبوغه أن يسوق نفسه دولياً، وأن يبرز كاسم مصري من خارج مصر، قبل أن يعود إليها ليذكر الآخرين بأن له حقا كمواطن مصري بالترشح لانتخابات الرئاسة… وخوض تجربة العمل السياسي في بلاده من دون التقييد بمواصفات اللعبة السياسية السائدة، حيث الاستزلام، والتلوث بالفساد، ومباركة القمع والديكتاتورية، ومناهضة الحريات وحقوق الإنسان، تحت شعارات مضللة، وتعديلات دستورية باطلة!
في مقابل ذلك… وجدت المعارضة المصرية والنخب المثقفة في الدكتور البرادعي، بديلاً يمكن تلميعه في وجه محاولات تشويه صورته التي يقوم بها النظام وأزلامه، فتحول في نظر الكثيرين إلى الأمل، والمخلص، وثمة من وصفه بالبرادعي المنتظر… لكن البرادعي رد على كل هذه الآمال في لقائه المتلفز في (العاشرة مساء) بالقول: (ما فيش حاجة اسمها مخلص… ما فيش حاجة اسمها منقذ… إذا كان هناك تغيير فهو الانتقال من نظام الفرد إلى نظام المؤسسات). وظهر البرادعي عبر إطلالة هادئة، ولغة بسيطة، كي يتحدث بلغة الأرقام لا الشعارات، وكي يناقش واقعاً قائماً، يرتبط فيه رغيف الخبز بالعملية السياسية على أعلى مستوياتها… ويغدو إشغال الناس بالبحث عن رغيف الخبز، هو إخراج لهؤلاء الناس من العملية السياسية بكل مستوياتها، ومصادرة لحقهم في المعرفة والمشاركة وتقرير مصيرهم وتحديد مواصفات من يحكم! لم يقدم البرادعي خطبة حماسية، ولم يندفع في جرأته في هجاء الأوضاع القائمة بلا تحليل يبرز مواطن الخلل في البنية القائمة… لكنه قال ما يوضح مواقفه، وما يشرح وجهة نظره ورؤيته، فبدا بحق- على الصورة المناقضة تماماً لما قالته عنه صحافة النظام، ولما حاول أن يشيعه عنه أزلامها ونواب حزبها الوطني الحاكم… الذين يظهرون في هذه الفضائية العربية أو تلك، وهم يكظمون غيظهم، ويخفون رغباتهم الدفينة في الردح، تحت ستار الغمز واللمز المبطن… عساه يفي بالغرض في المرحلة الأولى من المعركة!
في المحصلة… لا نتأمل كثيراً في نجاح البرادعي في خوض معركته الشرسة، فهذه الأنظمة الديكتاتورية العريقة في الفتنة، التي تخشى وجود البديل الداخلي، أكثر مما تخشى تهديدات أمريكا وعدوان إسرائيل، صارت خبيرة في اقتلاع البدلاء من أمام طريق الرئيس، وفي قتل الأمل الذي يمثله هؤلاء البدلاء في ليل الديكتاتورية والفساد الطويل… ومازال أمام البرادعي عقبات دستورية (مصطنعة) للترشح، ناهيك عن عقبات موضوعية قوامها حالة عدم تكافؤ فرص… إذ ثمة أجهزة ومقدرات دولة مسخرة لخدمة النظام القائم والدعاية له، والقول بأن لا بديل له سوى الفوضى والضياع!
لكن… حتى لو كان الأمل ضعيفاً أمام الدكتور البرادعي… فإن أهمية المعركة التي يخوضها اليوم، أنها تؤكد للشعوب قبل الحكام، أن هناك البديل دائماً لو بحثنا عنه وآمنا به… وأن هذه الشعوب والأوطان لم تصب بالعقم والإعاقة حتى ينحصر أملها كله في شخص حاكم أو سلالة أسرة واحدة… وآجلا أم عاجلا سيكسر الأمل كل ما يبنيه الطغاة من أوهام اليأس وكوابيس الاستبداد!
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى