كلهم عراة!
الياس خوري
حكاية الشريط المصور الذي بثته القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي لمدير مكتب محمود عباس، لا يزيد جديداً على ما يعرفه الجميع. فأخبار الفضيحة المخابراتية الفلسطينية معروفة منذ اكثر من سنة، لكن الصمت كان يلفها، لأن الصمت هو سمة المرحلة في الواقع الفلسطيني المتردي.
وسائل الإعلام احتفت بالفضيحة، وبصور رفيق الحسيني عاريا، بعدما قامت المخابرات الفلسطينية بتصويره في اوضاع جنسية. وبعد عملية ابتزاز واسعة يبدو انها تعثرت، قام فهمي شبانة التميمي بكشف الفضيحة على الهواء الاسرائيلي، وكشف معها سلسلة من فضائح الإختلاس المالية التي تمس مجموعة من مسؤولي السلطة الفلسطينية.
لا يستطيع المراقب الا ان يشعر بالأسى والغضب، اهذا ما تفعله سلطة لا تملك سوى سلطة اسمية؟ ماذا سيفعلون غداً اذا امتلكوا سلطة حقيقية؟
جرت محاولة تغطية الفضيحة عبر اللجوء الى حجتين:
تقول الحجة الأولى ان السيد فهمي شبانة، وهو ضابط امن فلسطيني، قد يكون عميلا مزدوجاً، وبهذا المعنى يكون الشريط الذي بثّه التلفزيون الاسرائيلي جزءا من الحملة على السلطة الفلسطينية بهدف تطويعها، واخضاعها في شكل نهائي. وهنا يذكّرنا اصحاب هذه الحجة بالحملة على الفساد في عهد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسرعرفات، وكشف الدور الذي لعبه خالد سلام على المستوى المالي. كانت تلك الحملة مقدمة للإجهاز على عرفات، لا لأنه يحمي الفساد مثلما يدعون، بل لأسباب سياسية لا علاقة لها بالموضوع.
اجد في هذه الحجة خللا على مستويين:
المستوى الأول هو المقارنة بين عهد قائد الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وبين العهد الحالي. فبمقدار ما رفض عرفات التنازلات، ولم يعر المطلب الامريكي بالخلاص من البندقية الفلسطينية اي التفات، فإن السلطة الحالية قدمت كل التنازلات المطلوبة، وتصرفت وكأن ‘حسن النوايا’ يكفي لإقناع اسرائيل بتسوية مشرفة وبالقبول بدولة فلسطينية مستقلة. بالطبع وقع ابو مازن في فخ تصديق الموقف الامريكي الذي وضع وقف الاستيطان شرطا لاستئناف المفاوضات. الامريكيون تخلوا عن شرطهم، ووجد الرجل بعد فضيحة الموقف من تقرير غولدستون نفسه عاجزا عن تقديم تنازلات جديدة.
لا شك ان هناك مصلحة اسرائيلية في بهدلة كل ما يمت الى الحركة الوطنية بصلة، وهذا ما يفسر احتضان التميمي من قبل الاسرائيليين، لكن المسألة في رأيي تقف عند هذا الحد. اي ان اسرائيل تتعامل مع السلطة بنفس طويل يراهن على انها ستتداعى من الداخل لأنها لم تعد تمتلك خيارات جدية.
المستوى الثاني، يقوم بمقارنة اداء جهاز المخابرات الذي قام بالتصوير بهدف الابتزاز، بأجهزة المخابرات في الدول العربية، التي تمارس الابتزاز والتصوير وترعى الفساد. وهذه مقارنة باطلة من الأساس، فالمشروع الوطني الفلسطيني قام واكتسب شرعيته في وصفه نقيضاً لهذا النوع من الممارسات، لأنه ابن قضية يحتضنها شعبها. اما ان تصل الأمور الى اعتماد الكاميرات من اجل الاعتداء على خصوصيات الناس بهدف الابتزاز والتشهير، فهذا يعني ان الجهاز الفلسطيني فقد كل صلة له بقضيته، وصار آلة قمعية، وبهذا المعنى فإن الانتهازية والتعامل مع الاحتلال، بل والخيانة تصير اكثر من احتمال، وتتحول الى احدى حقائق الحياة السياسية.
الحجتان باطلتان، ما جرى فضيحة مدوية، ابطالها معروفون ولا حاجة الى البحث عنهم. لا يكفي ان يبكي فهمي التميمي امام كاميرات التلفزيون، فالضابط المذكور يعيش اليوم في القدس، اي تحت الحماية الاسرائيلية المباشرة. ولم يكن اعتماده سلاح الفضيحة سوى اعلان صارخ بالافلاس السياسي والاخلاقي.
اما الجهاز الذي رتّب العملية، اي جهاز المخابرات العامة الفلسطينية، فإن محاولته التملّص من الجريمة لا تجدي، حتى لو ادعى انه طرد شبانة من صفوفه، وان هذا الأخير طبع نسخاً من الشريط واحتفظ بها، كي يبتز الناس.
السؤال هو عن مهمة الأمن الفلسطيني في مرحلة ما بعد الانتفاضة الثانية. نعرف ان اسرائيل قامت بتدمير الشرطة الفلسطينية والاجهزة الأمنية وإذلالها. وان العديد من رجال هذه الأجهزة قاتلوا الى جانب ابناء شعبهم في ظروف صعبة.
كما نعرف من جهة اخرى ان التنسيق الأمني مع الاحتلال نتجت عنه اختراقات كبيرة. لكن ما لا نعرفه اليوم، هو مهمات الأمن الفلسطيني، وخصوصا مهمات المخابرات. هل مهمتهم هي في تأمين الأمن للمواطنين ومعرفة مخططات الاحتلال ومقاومتها، ام انهم يملكون اجندة مهمات اخرى، تبدأ بالرشوة، وتنتهي بالابتزاز؟
كان مشهد العري الذي بثه التلفزيون الاسرائيلي مثيرا للشفقة. وبدلا من ان يعترف رفيق الحسيني بما جرى، حاول تلفيق الأمر. هل كان المشهد الجنسي جزءاً من استغلال السلطة، ام كان علاقة بامرأة؟ رغم الفرق الكبير بين المسألتين فإن الدفاع عن الأخلاق الحميدة ليس وظيفة المخابرات، وتصوير المشهد هو اعتداء فاضح على الخصوصية، والذي ركّب هذا الفيلم يجب ان يعاقب مهما علا شأنه.
اما حكايات الفساد، فصارت طويلة بحيث بات من المتعذر العمل على ايقافها. ‘هناك شيء يتعفن’، مثلما صرخ هاملت. العفن يحتل كل الزوايا، وهؤلاء العراة يحتلون المسرح من دون ان يشعروا بفداحة عريهم.
‘لقد هزلت حتى بدا من هزالها
كُلاها وحتى سامها كل مفلسِ’.
هزلت يا جماعة، وما على هؤلاء العراة سوى النزول عن خشبة المسرح، قبل ان تلتهم الحرائق كل شي.
القدس العربي