سيناريوهات الحل البديل
جهاد الرنتيسي
تحتفظ السيناريوهات البديلة لحل القضية الفلسطينية بعدة اوجه ، رغم موسميتها ، وسرعة تبدلها ، وتحويراتها ، وقصر عمرها الزمني ، وسط زوابع السجال العقيم حول المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية ، والدور الاميركي المطلوب في الضغط على اسرائيل ، وضرورات تصليب الموقف العربي .
فهناك ما يكفي من المؤشرات ، للاعتقاد بوصول خيار الدولتين الى طريق مسدود ، الامر الذي يتطلب طرح خيارات بديلة ، تعمل الاطراف المعنية بالنزاع على بلورتها ، فالطبيعة تكره الفراغ .
ويدور معظم مشاريع الخيارات البديلة ، التي تطرح بين الحين والاخر ـ لتثير جدلا يتسع ويضيق ، حسب الظروف المحيطة ـ حول محورين ، يتمثل احدهما في خلط الاوراق الاقليمية ، من خلال اعطاء دور للاردن في الاراضي الفلسطينية ، في الوقت الذي يأخذ المحور الاخر منحى وضع قطار الحل على سكة الدولة ثنائية القومية .
كما تتعدد استخدامات هذه المشاريع بين محاولة طرف من الاطراف الضغط على الاخر ، و الخروج من المأزق السياسي الذي لم يعد يقتصر على طرف بعينه، و ايجاد طريق التفافية ـ ليتحقق بالطرق السلمية ما لم يتحقق حربا ـ وباوسع مشاركة اقليمية ودولية .
وغالبا ما تتشكل مواصفات هذه المشاريع من الخلفيات الفكرية والسياسية لواضعيها ، فتظهر بصماتهم واضحة على اشكالها ، وجوهر الافكار المطروحة فيها ، وابعادها الانسانية والاخلاقية .
مع توفر هذه الاوجه وغيرها ، يمكن الحديث حول نمطي تفكير ، تعبر عنهما البدائل المطروحة لحل الدولتين ، وان اختلفت هذه البدائل ، وتشعبت تفاصيلها ، والاليات المقترحة لتنفيذها ، وامكانيات تحويلها الى حقيقة على ارض الواقع .
فالامكانيات المتاحة للفرز والتصنيف ، تتجاوز مربع الاستحالة ، بمجرد تحييد الجوانب الانفعالية والاتهامية من عملية التفكير ، والشروع في محاولة القراءة الواقعية للمشاريع المطروحة .
يمثل احد هذين النمطين الدراسات التي تطرحها بين الحين والاخر مراكز الابحاث الاسرائيلية والافكار التي تتفتق عن اذهان بعض السياسيين واساتذة الجامعات الاميركية والغربية المتأثرين بوجهة نظر اليمين الاسرائيلي .
و تعبر الدراسة ، التي اعدها مؤخرا رئيس مجلس الامن القومي الاسرائيلي السابق غيورا ايلاند ، ووجدت ردود فعل متأخرة بعض الشئ ، في الاوساط العربية ، عن هذا النمط من التفكير .
فهي تنطلق من نقطة تصدير الازمة الاسرائيلية لاطراف عربية واقليمية من خلال تحميل اعباء التسوية المفترضة للاردن واعفاء الجانب الاسرائيلي من تقديم اية متطلبات .
وبناء على هذه الرؤية ظهرت الاعباء المطلوب من الاردن والسلطة الفلسطينية القيام بها مكاسب للجانبين .
يتمثل العبء المراد تحميله للاردن في مطالبته بتفكيك المملكة واعادة تركيبها بالشكل الذي يتناسب مع فكرة الكونفدرالية ذات الاقاليم الثلاثة ـ شرق الاردن والضفة الغربية وقطاع غزة ـ المقترحة لطي ملفات القدس واللاجئين والمستوطنات التي يعيق الخلاف حولها احتمالات قيام دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل .
ولتمرير هذه الفكرة يضخم ايلاند الافرازات الناجمة عن الاحتلال كوجود ابناء غزة في الاردن لتصبح القضايا الاساسية المطلوب حلها ولا يضع اية اعتبارات لوجود الاردن كدولة لها هويتها .
كما يبذل جهدا تنظيريا لتقزيم هدف قيام دولة فلسطينية باعتبار الدولة في حال قيامها غير قابلة للبقاء والاستمرار متجاهلا الهوية الوطنية الفلسطينية التي تبلورت عبر كفاح متعدد الاشكال استمر عقودا من الزمن .
وبقصد او بغير قصد لم يلتفت رئيس مجلس الامن القومي الاسرائيلي السابق وهو يسوق رؤيته للحل البديل الى حق الاردنيين والفلسطينيين في التوجه الى صناديق الاقتراع لاختيار شكل العلاقة الذي يريدونه بعد قيام الدولة الفلسطينية .
ففي ذهنية الجنرال ايلاند الذي ساهم ـ بين من ساهموا ـ في محاولات تطويع الفلسطينيين لاجبارهم على التخلي عن حقوقهم يقتصر حق تقرير المصير على الاسرائيليين دون بقية شعوب المنطقة .
والواضح ان هذا الحق في آلية التفكير المتبعة لدى المسؤول الامني الاسرائيلي السابق ـ الذي ورد اسمه اكثر من مرة بين اسماء المطلوبين لمحاكم اوروبية على خلفية ارتكاب جرائم حرب ـ مرتبط بموازين القوى على الارض دون اي بعد اخلاقي .
لكن في الاكتفاء بقراءة سيناريو الحل الذي يطرحه ايلاند من زوايا التحريض والتقليل من الاهمية قدرا كبيرا من التسطيح .
ففي مداخل مشروع محاولة الهروب من استحقاقات التسوية ، ما يوحي باتباع منهج علمي ، تفتقر اليه تصورات وخيالات اصحاب الصوت العالي ، في المنطقة العربية .
كما يستخدم ايلاند في مشروعه المبني على فكرة اعادة رسم الخارطة السياسية لاخراج اسرائيل من مأزقها لغة سياسية تتناسب مع مجريات العصر ولم يصبها التخشب كما هو حال اللغة التي يستخدمها المشدودون الى الوراء .
فاللغة المستخدمة لغة المصالح والمغريات وتجاوز الازمات التي يواجهها المشروع الوطني الفلسطيني والدولة الاردنية وصعوبات الاوضاع الاقتصادية التي تمر بها المنطقة وانسداد الافق امام اللاجئين .
ولا يخلو الامر ، من محاولة اعطاء المشروع بعدا تكامليا بسد الثغرات ، التي يمكن النفاذ منها ، لانتقاده ، وقطع الطريق على المنتقدين .
الا ان المنحى الابتكاري ـ المبني على خيال محكم ،لا يستعصي على التنفيذ ، في منطقة وصفها الرئيس الاميركي الاسبق بيل كلنتون بان حدودها قابلة للتغيير في اي وقت ـ يبقى عاجزا عن التعامل مع جوانب اخرى في المعادلة .
فهناك مراعاة واضحة لبعض الجوانب حين يتعلق الامر باليهود تغيب فجأة حين تتعلق المسألة بالعرب .
وتظهر هذه النظرة العنصرية بوضوح، في امكانية نقل العرب من مكان الى اخر، لانجاح فكرة تبادلية الاراضي .
فقد كان بامكان ايلاند ان يتبنى طرح اخلاء المستوطنات في الاراضي المحتلة ورحيل المستوطنين ليتجنب عبء اعداد مشروعه ويجنب المنطقة اعادة رسم خرائطها السياسية وطرق ملاحتها ومراكزها الاقتصادية .
وعلاوة على عنصرية التفكير ، تكشف نظرة ايلاند ، عن وعي استشراقي ، اذا وضع في عين الاعتبار البعد الديني في شخصية العربي ، ونظرته للمكان .
في المقابل يجد نمط التفكير الاخرـ الذي تظهر ملامحه بوضوح لدى بقايا التقدميين العرب وانصارهم في مناطق مختلفة من العالم ـ بعض تجلياته في فكرة “الدولة ثنائية القومية” المطروحة فكرتها منذ عقود ، ويعاد الحديث حولها، بين حين وآخر .
ويقوم هذا التفكير على ارضية اخلاقية اساسها العدالة بين مواطني الدولة المفترضة من اليهود والعرب .
ولا تفتقر فكرة الدولة ثنائية القومية للعمق التاريخي لا سيما وانها ارتبطت ببدايات الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة ، حيث تبنتها منظمة التحرير في العام 1968، بمعنى انها سبقت حل الدولتين ، الذي تم تبنيه بعد اقرار المجلس الوطني الفلسطيني لبرنامج النقاط العشر .
كما يستند هذا الطرح الى تجارب ناجزة يمكن البناء عليها بعد مرور سنوات على زوال حكم التمييز العنصري في جنوب افريقيا .
الا ان هناك فوارق يصعب تجاهلها بين طارحي الخيار الذي من شانه تعميق المأزق الاسرائيلي وانتشال الفلسطينيين من مازقهم المتشعب بين ازمة داخلية ، وغياب توازن اقليمي ، وانحياز دولي .
فمن جانبه يتعامل المثقف العربي مع الدولة ثنائية القومية من منطلق استراتيجي باعتبارها الحل الوحيد الممكن لازمات المنطقة .
وفي المقابل يرى فيها السياسيون ورقة للضغط على الجانب الاسرائيلي وتذكيره بالمصير الذي ينتظر الدولة الاسرائيلية في حال فشل خيار الدولتين .
لكن فجاجة النظرة للدولة ثنائية القومية واحدة من العقبات التي تعترض طرحها بجدية وليس جميعها .
فلم تزل الفكرة رغم قدم طرحها بحاجة لتصورات حول الروافع السياسية واليات التنفيذ التي يفترض العمل بمنهجية لوضع تصورات لها حتى لا يبقى ترويج المشروع قائما على جوانب العدالة والابعاد الاخلاقية وحدها .
وانطلاقا من ضرورات تجسير هذه الفجوة يجد الجانب العربي نفسه معنيا بالانتقال من منطق الصراع بين ذهنيتين مدينية اوروبية وعربية مشتتة بين فلاحية وبدوية كما كان قائما في النصف الاول من القرن الفائت الى منطق المواجهة في عصر العولمة الذي لا يرحم المشدودين للميثولوجيا والمرتهنين للتاريخ .
الحوار المتمدن