كوابيس الطوائف
ساطع نور الدين
أخطر ما في معركة خفض سن الاقتراع أنها لا تكشف فقط عن استحالة تغيير النظام اللبناني، وهذا أمر معروف ومسلّم به، بل تبرهن على أن الحرب الأهلية مستمرّة بأشكال وأدوات أخرى غير السلاح، وتؤكد ان الطوائف والمذاهب تتربّص ببعضها البعض وتعتمد على حسها الطبيعي للاستنتاج ان الحقبة الراهنة ليست سوى مرحلة انتقالية قصيرة، ستنتهي قريباً الى توازنات داخلية جديدة، مستمدة، حسب العرف والتقليد، من تحوّلات خارجية تبدو وشيكة في نظر الجميع.
صحيح ان الصورة اختلطت بعض الشيء، ولم يتم الفرز خلال هذه المعركة بناء على خطوط التماس التقليدية بين المسلمين والمسيحيين، لكن الخوف المتبادل بين الطوائف والمذاهب كان أعلى من أي وقت مضى في تاريخ لبنان الحديث، الذي جرت استعادته خلال الاسابيع القليلة الماضية بكل ما فيه من اشتباكات واضطرابات وحسابات ديموغرافية متقلبة كانت وستبقى عصب الحياة السياسية اللبنانية وعنوانها الوحيد.
الخلاصات العامة لتلك المعركة باتت معروفة: المسيحيون استعادوا وحدتهم الداخلية المؤقتة، لمواجهة غلبة إسلامية كشفت عن انقسامها العميق على نفسها، وعلى رؤيتها للمستقبل الذي لا يمكن أن يصمد على اساس المناصفة المسيحية الاسلامية بل بات يعتمد على قوة الشيعة او السنة وتنافسهما الدؤوب، الذي افتتح في السنوات الماضية، على اكتساب غالبية مسيحية تساعد في تشكيل تحالف حاكم او وازن، ينهي الوهم السائد حالياً حول حاجة الحكم الى شراكة كاملة تضم الجميع من دون استثناء.. أسفرت عن ذلك الوضع العجيب الذي تضيع فيه المقاييس بين الموالين والمعارضين، حتى في قاعات مجلسي الوزراء والنواب.
ثمة خلاصة أكثر أهمية من وحدة المسيحيين العابرة، وهي ان الشيعة الذين وصلوا للتوّ الى داخل النظام بعد عقود من العمل ضده او خارجه، قدّموا مشروعاً للتطوير رفضه السنة بحجة التضامن مع المسيحيين والوفاء لاتفاق الطائف. وفي هذه الحالة يمكن الافتراض ان الطائفة الشيعية تعرّضت للصدّ من اركان النظام التقليدية، التي عبرت مرة اخرى وبطريقة مواربة عن خشيتها من عددها كما من تسليحها ومن تحالفاتها الخارجية، التي لم تكن بعيدة عن وقائع المعركة الأخيرة.. كما يمكن الزعم أن الحليف المسيحي تحوّل في تلك المعركة من قوة للشيعة او السنة الى عبء عليهما.
ثمة الكثير من العناصر المثيرة للسخرية في تلك المعركة، لكن الجزم في أن البلد كله في مأزق لا يثير الضحك أبداً. المضحك فقط هو الكلام الذي يتردد على بعض الألسنة عن ان النظام الطائفي برمّته استنفد، ولا بد من البحث عن بدائله، وهو ما لا يعبر فقط عن سذاجة سياسية تجهل ان الجمهور اللبناني بغالبيته الساحقة يعيد إنتاج هذا النظام أقوى من ذي قبل، بقدر ما يعكس ربما دعوة الى الخارج لتجديد الانتداب او الوصاية، واستكمال ما بدأه الفرنسيون يوماً او ما فعله السوريون في يوم آخر.
هي مرحلة انتقالية خطرة، لأن معركة خفض سن الاقتراع زادت من صعوبة التكهن في طبيعة الأحلام والكوابيس التي تراود مختلف الطوائف والمذاهب اللبنانية هذه الأيام.
السفير