الممالحة والمصالحة
سليمان تقي الدين
تتوالى أمام اللبنانيين مشاهد المصالحات محدثة صدمات قوية في جمهور الأطراف المتنازعة المتصالحة. حجم التحريض العدائي وتشويه صورة الآخر بلغا حدوداً استثنائية. بين الرغبة بإلغاء الآخر ومعانقته تنكسر الأحلام والأوهام. وحدهم الزعماء يقدرون على ممارسة هذا الانتقال السريع أو التقلّب، لأن الجمهور بنظرهم قاصر عن الفهم وعن المحاسبة. هم يعرفون ما يفعلون وماذا يريدون، أما الجمهور فعليه أن ينصاع، وفي أكثريته ينصاع حتى الموت!
أقفلنا ملفات الحرب الأهلية ولم يحاسب أحد أحداً. لم نحدّد على المستوى السياسي والمعنوي المسؤوليات عن أي فصل من فصولها. أسدلنا الستار وبدأنا عملية منظمة من برمجة الذاكرة على قبول كل الأخطاء والمآسي. لم نسمح للضحايا بأن يقولوا كلمتهم ولا للموتى بأن يُدفنوا. لم نسمح بتنقية الذاكرة ولا للمصالحة الإنسانية والوطنية بنقد تلك التجربة ولا نقد الذات. يعود المكبوت ويظهر كل يوم في خطابنا السياسي وقراءة تاريخنا، نقمعه أحياناً ونرسله أحياناً أخرى. لكننا نريد أن نحوّل التسوية السياسية إلى تاريخ مشترك، وهو أمر مستحيل. إما أن ننتج ذاكرة وطنية واحدة نقدية، وإما أن نبقى بلا تاريخ. ما زلنا عملياً بلا تاريخ، شعورياً ونفسياً ووعياً عقلياً، لأننا لم ننتج كتلة تاريخية وطنية تستطيع أن توحّد البلد باتجاه مستقبل واحد لجميع اللبنانيين.
حروبنا طائفية وتسوياتنا طائفية، «وما نحن عليه نحن عليه». نظهر المجاملة ونبطن المكر ونعيد إنتاج روايات «التكاذب المشترك» تحايلاً على التوازنات والمعادلات والوقائع.
يتشارك زعماء الطوائف ويتواطأون عمداً على تغطية القضايا الخلافية الحقيقية لإعادة نبشها واستخدامها حين تدعو الحاجة. مثال واحد يكفي لمن لديه بداهة، كيف استخدمت رمزية «أجراس الكنائس» في قضية المهجرين للمتخاصمين والمتحالفين في هذه المرحلة أو تلك، مع هذا الفريق أو ذاك. يجري «ترميز» حياة الناس حتى لا تفتح الملفات الفعلية. كيف يمكن أن نعيش معاً كبشر في أجواء من الحرية والمسالمة بعيداً من الخوف ومن المكائد.
عملياً، بعد الحرب لم يعد لبنان جغرافيا واحدة. الفرز الطائفي والسياسي مستمر، والتأكيد على هويات المناطق مستمر، والحرب مستمرة كالجراحة من دون ألم. الاقتصاد الجديد، المال النظيف والمال السياسي والمال الذي ليس له رائحة يغيّر كل المعطيات الاجتماعية. لا نضرب مثلاً للتحريض بل للمعرفة. الساحل اللبناني بمدنه وثرواته يلغي ثقل الجبل الاقتصادي والسياسي. السياسات الطائفية والضجيج والاحتجاجات كمن يحاول إيقاف السيل الجارف بالمكنسة وحفنة من نشارة الخشب. فقد الجبل عناصر قوته بكل المعاني والدلالات التاريخية. أسطورة الجبل الذي تكوّن من حوله لبنان صارت خرقة ممزقة. لا خيار لهذا الجبل إلا أن يندمج في مشروع وطني وإنساني، وأن يعمل هو قبل غيره على بناء الدولة المدنية الحامية لحقوق الأفراد. لم يعد لهذه الجماعات التي لديها «وعي الأقلية» أو «الشعور الأقلوي»، أن تحافظ على وجودها كأقليات، فكيف لها أن تطلب «الامتيازات»!؟ هذا المأزق الذي يعبّر عن نفسه اليوم في التمسّك بالنظام الطائفي و«الضمانات» وبالمناصفة التي تضمر تحالفاً سياسياً قد لا يصمد طويلاً، أو المطالبة بالفدرالية التي هي الموت والانتحار، أو بأي شكل من أشكال البحث عن توازن، مرة بالاغتراب ومرة بالحماية الدولية ومرة بالحياد، وكلها خيارات تم تجريبها، لن يخرجنا منه إلا نظام المساواة في الحقوق والواجبات كمواطنين. ليس هذا متاحاً اليوم إلا لأن النخب السياسية في «الأقليات» ترتاح لسلطتها وامتيازاتها ولا تفكر حقيقة بجماعاتها ولا طبعاً بلبنان ككل. لا شيء مما يجري اسمه مصالحات وطنية، هذه لعبة تحالفات سياسية ظرفية طارئة لا تبنى على قواعد ثابتة.
هناك مرتكز أساس هو الذي يقرّر في نهاية المطاف: إنه الاقتصاد المسكوت عنه في تاريخ لبنان والعرب أيضاً. انهارت الإقطاعية الدرزية وصعد دور الموارنة في جبل لبنان بالاقتصاد. جاءت السنية السياسية إلى «اللبننة» والمشاركة والأرجحية بالاقتصاد. صعدت الشيعية السياسية بالاقتصاد لا بالسلاح. الاقتصاد المادي والبشري ودورة الحياة التي تفرز الكثير من الظاهرات السياسية والأيديولوجية وتشكل الجذر المخفي في أساس كل التحولات. الاقتصاد نظام لإنتاج الثروة، المال هو أحد تجلياتها، أو هو رمزها. الاقتصاد يغيّر العلاقات الاجتماعية، المال وحده يمكن أن يعيش في الخزائن. الطبقات الاجتماعية التي تستولي على الثروة استيلاء ولا تنتجها هي التي تحافظ على أشد العلاقات الاجتماعية وبالتالي السياسية تخلفاً.
الرأسمالية المنتجة جاءت إلى السلطة بتغيير قوانينها، أما السلطة التي ترسملت بالريع والامتيازات وبالسلاح والعنف والعصبيات فهي أخذت ثروة البلاد الوطنية وتصرفت بها. لن ننجز شيئاً مهماً في اتجاه التقدم ما لم نحدث تغييراً في بيئة الاقتصادين اللبناني والعربي. السياسة تكثيف للاقتصاد، لكن السياسة التي لا تتضمن بُعداً اقتصادياً محدداً لا تحدث تغييراً إلا في القشرة. جزء مهم من أزمة التغيير في لبنان ودنيا العرب أننا نمارس السياسة بأدوات غير حديثة وغير تقدمية. نخلط السياسة بالدين والعصبية وبالأهواء الشخصية والمصالح الفردية. الدين لا يستخدم بالمطلق بل بإعادة تكوينه كمشروع سياسي. الدين عندنا ـ وكذلك المذاهب لدى أصحابها ـ ليس محل إجماع على المفاتيح أو القيم أو القواعد، وإلا فلماذا يختلف اختلافاً عميقاً كل الذين يستحضرون الدين إلى ميدان السياسة. هناك ما هو أدهى حين يخرج زعماء طائفة مدنيون وغير مدنيين ويقولون آراء مختلفة في مصلحة طوائفهم. وهناك من يرى مصلحة طائفته تماماً حيث يقف هو ويبدّلها كما يبدّل ثيابه.
نحن بحاجة إلى وعي تاريخي نقدي لا إلى تفاهم أو تسوية، لا في التاريخ ولا حتى في السياسة. مصالحتنا الحقيقية الوطنية (أي الشاملة الثابتة) هي في أن نخرج من لغتنا القديمة وحجارتها المهشّمة. هل نجرؤ على رواية تاريخ حروبنا بالوقائع لا بالأفكار المسبقة، وبتنقية هذا التاريخ من الصفات الملحقة به.
هل نجرؤ على تحديد من أفاد من تلك الحروب، وماذا تغيّر فعلاً في مصلحة الناس، أكانوا أفراداً أم جماعات. وهل نقرّر يوماً أن نصنع تاريخنا من دون أن تسيل دماء!؟
السفير