أميركا وأوروبا في حقبة ما بعد الدفاع عن حقوق الإنسان
نشرت مجلة “نيوزويك” (عدد 2 آذار 2010) تقريراً مطولاً بعنوان “سقوط حقوق الإنسان”. منه نقتطف:
تطرق باراك أوباما خلال جولته في آسيا في تشرين الثاني، الى كل المواضيع الرئاسية المعتادة بما في ذلك التجارة الحرة والاستثمار والتحالفات الاستراتيجية، ما عدا موضوع واحد: حقوق الإنسان. ففي بكين وخلال مؤتمر صحافي طُرِحت فيه أسئلة مكتوبة، بالكاد جاء أوباما على ذكر الأمر. وفي شنغهاي، لم يوجه سوى انتقادات قليلة للحظر الذي تفرضه الصين على الإنترنت، قائلاً إنه “يدعم بقوة عدم الرقابة”. يشكل عدم تطرق أوباما الى حقوق الإنسان قطيعة واضحة مع نحو ثلاثة عقود من السياسة الأميركية. فمن انخراط إدارة أوباما مع المجلس العسكري الهمجي في بورما مروراً بقرارها تجنّب الدالاي لاما عندما زار واشنطن أول مرة خلال ولاية أوباما وصولاً الى صمتها عند اندلاع الاحتجاجات في إيران، اتخذت مقاربة أهدأ بكثير من تلك التي اعتمدها سلفا أوباما في الرئاسة، جورج دبليو بوش وبيل كلنتون، في ما يتعلق بالدفاع عن حقوق الإنسان.
ليس أوباما الوحيد الذي يتملّص من الكلام عن حقوق الإنسان. ففي مختلف أنحاء أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية، تخلّت ديموقراطيات عدة عن الدفاع العالمي عن حقوق الإنسان، ولا تأتي على ذكره إلا في خطب أو مناسبات من حين الى آخر مثل اليوم العالمي لحقوق الإنسان. ما عدا الاستثناء اللافت الذي تشكله كندا، يلوذ العالم المتقدم بالصمت. في مطلع هذا العام، سلمت الدول الأوروبية رئاسة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وهي من المنظمات الأساسية التي تقع على عاتقها ترويج حقوق الإنسان في أوراسيا، الى كازاخستان التي تتهمها مجموعات حقوق الإنسان بالتوقيف الاعتباطي والحجز والتعذيب. في اليابان، وعد رئيس الوزراء يوكيو هاتوياما بالشروع في حوار جديد مع كوريا الشمالية، بدلاً من ممارسة ضغوط على بيونغ يانغ كي تفرج أولاً عن اليابانيين الذين يُشتبه في أنها اختطفتهم. خلافاً لأسلافه على غرار جونيشيرو كويزومي، يفضل هاتوياما أيضاً اعتماد مقاربة ناعمة حيال الصين، ويدعو الى بناء روابط أوثق بكثير معها متجاهلاً مناخ القمع المتزايد في ظل حكومة هوو جينتاو. والحكومة الأسترالية التي كانت تُعرَف من قبل بانتقاداتها الحادة للصين وبورما والأنظمة الأوتوقراطية الأخرى، تتعاون الآن مع إندونيسيا ودول أخرى مجاورة لها لمنع اللاجئين من سريلانكا وبلدان أخرى من دخول البلاد، وتحتجز المهاجرين في معسكر شبيه بغوانتانامو في جزيرة كريستماس النائية. وقد امتنع رئيس الوزراء الأسترالي كيفن رود عن انتقاد الصين، حتى في مسألة اعتقالها مسؤولاً تنفيذياً أسترالياً يعمل في مجال التعدين في تهمة تجسس يعتبر مراقبون كثيرون أنها ملفقة. وفي فرنسا، لم يف الرئيس نيكولا ساركوزي بالوعد الذي قطعه في حملته الانتخابية بمناصرة حقوق الإنسان ووضع حد لروابط البلاد القديمة مع الدكتاتوريين الأفارقة. بدلاً من “العلاقة الجديدة” مع إفريقيا التي وعد بها ساركوزي، دعمت حكومته رئيس الغابون الجديد، علي بونجو أونديبما، على الرغم من المزاعم الواسعة عن حدوث تزوير في انتخابه، واستقبلت محمد ولد عبدالعزيز، الجنرال الذي شن انقلاباً في موريتانيا، استقبال رجال الدولة. وقد أقر وزير الخارجية، برنارد كوشنير، الذي شارك في تأسيس “أطباء بلا حدود”، وهي منظمة فريدة من نوعها تعنى بحقوق الإنسان، في مقابلة معه بوجود “تناقض دائم بين حقوق الإنسان والسياسة الخارجية للدولة”.
في العالم النامي أيضاً، انكفأت الديموقراطيات الشابة التي بدت من قبل جاهزة لنصرة حقوق الإنسان. بعد انتهاء الفصل العنصري، عقد عدد كبير من الناشطين آمالاً كبيرة على المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم في جنوب إفريقيا الذي أفاد من حركة ضغط عالمية عندما كان يحارب حكم البيض. غير أن المؤتمر استخدم تأثيره في الأمم المتحدة لحماية النظام الهمجي في زيمبابوي حيث تملك جنوب إفريقيا مصالح أمنية واقتصادية، وكذلك أيضاً المستبدين البعيدين جداً في بورما.
لقد انهار عصر الدفاع العالمي عن حقوق الإنسان، وحلّت مكانه حقبة من الواقعية لم يُشهَد لها مثيل منذ زمن (وزير الخارجية الأميركي الأسبق) هنري كيسنجر و(الرئيس الأميركي الأسبق) ريتشارد نيكسون. في الغرب، وإزاء فشل أسلوب المواعظ الذي اعتمده جورج دبليو بوش في ترويج الديموقراطية، ناهيك عن البراغماتية المستوحاة من الأزمة المالية العالمية، أصبح القادة أكثر تردداً بكثير في التحدث جهاراً في مسائل حقوق الإنسان. يقول المسؤولون في إدارة أوباما في مجالسهم الخاصة بأنهم تعمدوا تخفيف اللهجة بسبب الرفض العالمي لزعم بوش بأنه حارب في العراق من أجل ترويج قضية الحقوق الديموقراطية. لكن هذه الاستراتيجية التي حظيت في البداية بالتقدير من البلدان التي سئمت من بوش، يمكن أن تذهب أبعد من اللازم.
حالياً قد يحول ميزان القوى العالمي المتغير من دون اكتساب حقوق الإنسان الأهمية الدولية التي كانت تتمتع بها في تسعينات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي. في ذلك الوقت، كان القادة والمبشرون بالتكنولوجيا يقولون إن التكنولوجيات الجديدة سوف تتيح لمن يشنون حملات لدعم حقوق الإنسان التفوق على الحكومات القمعية. وحذر الرئيس كلينتون بكين من أن ضبط الإنترنت سيكون صعباً بقدر “محاولة تثبيت الجيلاتين على جدار” حسناً، لم يكن الأمر بهذه الصعوبة: فعلى الرغم من أن موقعي Twitter أو Facebook وأدوات أخرى ساعدت المتظاهرين الإيرانيين على نشر أخبارهم كي يطلع عليها العالم، فإن الأنظمة السلطوية نجحت في مراقبة الإنترنت وأدوات جديدة أخرى وحظرها. “الجدار الناري العظيم” في الصين واسع جداً الآن الى درجة أن الكثير من مستخدمي الإنترنت الصينيين ليس لديهم أدنى فكرة عن كمية المعلومات التي تفوتهم.
حالياً، أصبح في غياب الاهتمام بحقوق الإنسان شبه ممأسس في واشنطن وعواصم أخرى. قبل عقد، كان صانعو السياسات يرتقون عبر سلم البيروقراطيات مثل وزارة الخارجية الأميركية أو البريطانية أو الألمانية من خلال التركيز على حقوق الإنسان، أما اليوم فالدفاع عن الحرية العالمية لا يوصلك الى أي مكان.
المستقبل