سوريا تجري مراجعة تجربة سنواتها في لبنان
نقولا ناصيف
على غرار المراجعة التي أجراها أكثر من مسؤول أو قطب لبناني للعلاقات اللبنانية ـــــ السورية، في المرحلة الجديدة التي تخلف كل ما شاب البلدين بين أعوام 2005 و2008، أجرت دمشق مراجعة مماثلة لم تكتفِ بالعلاقات الثنائية الرسمية، بل شملت مَن كانوا حلفاءها أو هم في طريق العودة إليها. في الوقت نفسه، قلّصت المراجعة الامتياز الذي كان قد أعطي لبعض مَن أضفى على نفسه صفة الحليف من سياسيي الصفين الثاني والثالث.
فحوى مراجعة القيادة السورية تجربتها مع لبنان ما يقرب ثلاثة عقود، بدءاً بدخول جيشها إليه عام 1976 وانتهاءً بخروجه منه عام 2005، أفضت إلى بضع ملاحظات:
1 ـــــ بات الملف اللبناني ـــــ وإن كان يحلو لدمشق تسميته «العلاقات المميّزة مع لبنان» ـــــ في يد الرئيس بشّار الأسد وحده. يتدخّل مباشرة في كل تفاصيله، ويتابع تطوراته ويرسم خياراته، وينيط بمعاونيه ومستشاريه تنفيذ السياسة التي يقرّرها لطريقة مقاربة سوريا العلاقة مع هذا البلد. آخر محطات هذا الملف، حتى الآن على الأقل، كانت زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري لدمشق ومصالحته الشخصية والسياسية مع الرئيس السوري. لم تمر هذه المحطة بوسطاء، بل عني الأسد بكل دقائق استعادة العلاقة مع الشارع السنّي اللبناني من خلال الحريري ومعه. اكتفى بأن عَهَدَ إلى مستشارته السياسية والإعلامية الوزيرة بثية شعبان أمر الترتيبات الإجرائية، وإلى الأجهزة الأمنية السهر عليها.
ما يلاحظه المطلعون على الموقف السوري، أنه لم يعد في القيادة مسؤولو ملفات متشعّبة من الملف اللبناني الأم، ولا مسؤولون سوريون يتقاسمون الأدوار بين ما هو أمني وما هو سياسي في هذا الملف، ولا مسؤولون يرتبطون بشخصيات لبنانية دون أخرى تتردّد عليهم، وآخرون بشخصيات سواها على نحو ما خبرته علاقات البلدين سنوات طويلة منذ عام 1976. حينذاك كان ثمّة سياسيون لبنانيون يُعدّون من حصة عبد الحليم خدام، أو من حصة حكمت الشهابي وناجي جميل أو مصطفى طلاس، أو من حصة محمد الخولي ورفعت الأسد، أو من حصة محمد ناصيف وعلي المدني وفاروق الشرع، وصولاً إلى الضباط الكبار الذين تعاقبوا على قيادة الجيش السوري المنتشر في لبنان، مروراً بضباط الاستخبارات كمحمد غانم وغازي كنعان حتى رستم غزالة. منذ عام 2005 أصبح الملف في يد الرئيس وحده، تعاونه لجان عمل تقدّم له المعطيات تمهيداً لاتخاذ الموقف أو القرار.
هكذا أوصدت الأبواب في وجه الجميع ما خلا استثناءين: العلاقة الوطيدة غير المسبوقة بين الأسد والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وأولئك الذين تجمعهم بالرئيس السوري علاقة عائلية وشخصية خاصة.
لم يعد في القيادة السورية مسؤولون عن الملف اللبناني يتقاسمون الأدوار بين ما هو أمني وما هو سياسي
2 ـــــ لا تريد دمشق التخلي عن خطين متوازيين في إدارة علاقتها بلبنان: أولهما تعاون البلدين من دولة إلى دولة، وثانيهما المحافظة على حلفائها الذين تلتقي وإياهم على خيارات تدخل في صلب مواجهة الصراع مع إسرائيل. ولأن لا حكم مركزياً في لبنان ينبثق منه ـــــ شأن ما في سوريا ـــــ قرار واحد، تجد دمشق نفسها في حاجة إلى إدارة نمطين من العلاقات المميّزة مع لبنان لم يُولدا مع نظام الرئيس حافظ الأسد واستمرّا مع نظام خلفه، بل رافقا حكمي البلدين منذ منتصف أربعينات القرن الماضي، وبلغت ذروة التداخل بين هذين النمطين من غير أن يتطابقا، في الخمسينات ثم الستينات. بعد سنوات الحقبة السورية التي اختلط فيها لدى دمشق دور السلطة اللبنانية بدور الحلفاء الذين راحوا يكوّنون تلك السلطة، استوعبت دمشق في الأعوام الأخيرة صدمات قاسية وموجعة أرغمت عليها، عندما واجهت القرار 1559 ثم عند سحبها جنودها من الأراضي اللبنانية، وصولاً إلى تبادل دبلوماسي بين البلدين كانت تعتبره مناقضاً لطبيعة الجوار.
في المرحلة الجديدة التي تلت اتفاق الدوحة، أرست مع رئيس الجمهورية ميشال سليمان نمطاً مختلفاً في علاقة دولة إلى دولة، لكنها عندما استقبلت الحريري كانت تدرك ـــــ مقدار ما كان هو يدرك ـــــ أنه لا يزورها بصفته رئيساً للحكومة اللبنانية فحسب، بل أيضاً كزعيم متوّج للشارع السنّي الذي يحتاج، مقدار ما كانت تحتاج دمشق، إلى مصالحة متبادلة تطوي صفحة الأعوام الأخيرة. الأمر نفسه يصحّ على الزيارة المتوقعة لرئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط لدمشق. لن يزورها كنائب ووزير سابق ورئيس حزب كان أقوى حلفائها، ولا كزعيم طائفة، بل لأنه يريد أخيراً ـــــ وفق ما يقوله على الأقل ـــــ التصالح مع خياراتها الإقليمية، بعدما قادته ظروف محلية ودولية إلى الانقلاب عليها، كالحريري، يريد مصالحة طائفته مع سوريا.
3 ـــــ منذ تطورات 2005، وبعد اعتراف الأسد بأخطاء ارتكبت في إدارة العلاقات اللبنانية ـــــ السورية، أخذت المراجعة السورية الجديدة في الحسبان عدم العودة إلى الأسلوب والأدوات والقنوات نفسها، وأخصّها الأمنية، التي رافقت الأعوام الماضية. وهي بذلك تأخذ في الاعتبار، على أبواب المصالحة مع جنبلاط، الدوافع التي قادت إلى الخلاف معه. بدأ عام 2000 بموقف سياسي هو المطالبة بإعادة نشر الجنود السوريين، وبلغ ذروته عام 2004 عندما رفع جنبلاط النبرة عالية احتجاجاً على محاولة حصر علاقته بالرئيس السوري الجديد حينذاك بقنوات أمنية، وكان صديقه اللواء غازي كنعان قد أُبعد عن منصبه في لبنان قبل ثلاثة أعوام. تنبّه الأسد لحساسية جنبلاط من هذا النمط في التعامل. الأمر نفسه رافق مصالحة الحريري مع النظام السوري. باتت العلاقة سياسية مع السياسيين، وأمنية مع الجيش.
4 ـــــ وضعت دمشق معيارين متلازمين لعلاقتها بلبنان الرسمي والسياسي: نظرة متكاملة إلى العلاقات المميّزة، وخيار المقاومة. كلاهما أكد رئيس الجمهورية والجيش ثم رئيس الحكومة والبيان الوزاري التزامهم إياهما، وكذلك جنبلاط. بهذا يبدو الخياران حتميين في تعاون البلدين واحترام أحدهما للآخر. إلا أن دمشق اتخذت سلفاً موقفاً مناوئاً من الوسطية التي تعني بالنسبة إليها لا أبيض ولا أسود، إذ لا تجد لها مكاناً عندما يتصل الموقف بالعلاقات المميّزة وخيار المقاومة والصراع مع إسرائيل، بل تجد في هذه الخيارات ضمانات استقرار العلاقة بها.
في دمشق يسمع المطّلعون على الموقف السوري أن لا وسطية في خيار المقاومة. إما معه أو ضده كونه يتعلق بموقع لبنان من الصراع مع إسرائيل من جهة، ولأنها ترى أن اتفاق الطائف لم يقل بحياد لبنان في هذا الصراع وإن سلّم باتفاق الهدنة. في الوقت نفسه تعتقد أن القرار 1559 ينقل لبنان من موقع إلى آخر.
المصالحة المؤجلة
في الواقع تستمد المصالحة المرتقبة بين دمشق وجنبلاط معظم عناصرها من هذه المراجعة:
آلية توقيت زيارة دمشق: من الأسد إلى نصر الله إلى جنبلاط
ـــــ عندما وضع العلاقة الجديدة بين يديه، لم يتوخّ الأسد جعل المصالحة مستحيلة في ضوء النعوت والاتهامات التي ساقها جنبلاط ضده بين 2006 و2008، بل لأن المراجعة الجديدة جعلت الملف اللبناني برمته عنده. وهو يسعى هذه المرة إلى التيقّن من صدقية عودة جنبلاط إلى الخيارات المشتركة مع سوريا لئلا يُواجه في ما بعد، في ضوء تقلّبات إقليمية محتملة، عودة لمرحلة 2005 ـــــ 2008. على مرّ الأشهر الأخيرة، بلغت إلى الرئيس السوري ردود فعل متعارضة حيال احتمال المصالحة. بعض أصحاب ردود الفعل السلبية كان من القريبين ومن الدائرة الصغرى المحيطة بالأسد، وتذرّعت حماستهم لرفض المصالحة بأن الزعيم الدرزي أهان الرئيس والشعب في آن واحد. إلا أن الرئيس حسم القرار أخيراً وقرّر استقباله،
باتت آلية توقيت الاستقبال كالآتي: من الأسد إلى الأمين العام لحزب الله السيّد نصر الله إلى جنبلاط.
ـــــ بعدما وُضعت المصالحة في عهدة نصر الله، أوعزت دمشق قبل أسابيع، وعلى نحو مباشر، إلى بعض السياسيين ممّن يتردّدون عليها عدم الخوض إعلامياً في علاقة الزعيم الدرزي مع سوريا، ولا مراجعتها هي في هذا الموضوع الذي أخرجته من بازار، كان بعض هؤلاء ممّن يبحثون عن دور أكبر من قدراتهم ينسبونه إلى أنفسهم، ويظهرون مظهر ناقل رسائل، الأمر الذي فسّر التزام هؤلاء أخيراً الصمت، وفي أحسن الأحوال الإدلاء بمواقف عامة لا تنطوي على أي إلمام بمسار العلاقة المتقدّمة بين جنبلاط والقيادة السورية.
ـــــ بات نصر الله يمثّل القاسم المشترك والحلقة الأقوى في علاقة الرئيس السوري بالزعماء العائدين إلى دمشق. فالرجل هو الوحيد بين المسؤولين والزعماء اللبنانيين الذي لا يحمل على كتفيه عبء تراكم سلبي في العلاقة بدمشق.
بعد اجتماعه بالحريري في كانون الأول، أطلع الأسد نصر الله على نتائج اللقاء. وفي الوساطة التي يقودها مع جنبلاط، يأخذ نصر الله في الاعتبار أكثر من عامل يودّ أن يصبّ في تحقيق عودة جنبلاط إلى الخيارات المتطابقة مع سوريا والمقاومة. يفسّر ذلك إصرار الأمين العام على رفض أي محاولة لإساءة التصرّف مع الطائفة الدرزية أو الإيحاء بإذلالها، ويفسّر حرصه المماثل على ردّ الاعتبار إلى احترام القيادة والشعب السوري، ويفسّر رغبته إلى جنبلاط في اجتماعهما الأخير في 14 شباط بطلب مزيد من الخطوات والتوضيحات في سياق إعادة تقويم المرحلة السلبية المنصرمة أكثر منها الاعتذار، ويفسّر سعيه إلى أن تكون مصالحة جنبلاط مع الأسد والنظام السوري إعادة وصل ما انقطع بينهما بين 2005 و2008، كي تكون عودة جنبلاط إلى دمشق أقرب إلى استكمال ما كان قد توقف عشية أيلول 2004.
الاخبار