صفحات سورية

إعلان دمشق في سورية: ما يخشاه النظام وما فات عن البعض

null
محي الدين قصار
تدور على صفحات الإعلام المتعددة الوجوه كتابات كثيرة حول دور الإعلان خلال السنوات القلية الماضيات. وفي مراجعاتنا لكثيرمن المشاريع ولا سيما في الحقل الإجتماعي السياسي، يصبح حالنا كحال المثل الشعبي القائل أن ‘حساب السوق لا ينطبق على الصندوق’. فأحيانا تقتل الأحلام الكبيرة ابداعات الممكن الحقيقية، كما أن التوقعات الحالمة تخلق أوهاما حول حالة فشل غير حقيقي. ويسقط بعض مراجعي إعلان دمشق بهذا الفخ الذهبي، فيكون الطلب منه ما يتجاوز قدرته الحقيقية وما يتجاوز غرضه الأصلي الممكن، فهناك دوما البرزخ بين المثال الذي يطمح له في تنظيم المعارضة وبين الواقع الممكن.
فإعلان دمشق أتى إلى صحراء سياسية قاحلة وانبت فيها بعض النباتات التي يكاد المدافعون عنها يقتلونها حبا. فالذي يمكن ان ينتج من إعلان دمشق يختلف تماما عن الذي يرجى منه، فهناك خلافا بين الطموح والممكن، فالأمل في حركة شعبية متحدة تستطيع أن تحرك الجمهور وتزج بهم في الشارع يختلف عن امكانات الإعلان ودوره الحقيقي الممكن، ومن الخطأ أن ندع الممكن يقتل الطموح أو أن نجعل غياب تحقيق الطموح سببا في ترك الممكن. فالقاعدة تقول: (ما لم يدرك كله لا يترك جله).
ما زال الموحِد غائبا:
فكما هو معروف بأن الـ’حركة الشعبية’ تلتحم حول فكرة بسيطة موحِدة (بكسر الحاء) أما اعلان دمشق فهو تحالف لمجموعة قوى سياسية مختلفة تحت مظلة واحدة. وتحالف الأحزاب لا يعني أبدا تحالف قواعدها ولا التحام الجماهير بها، فهناك دور محدد لمثل هذه التحالفات، هذا الدور هو فتح أفق امكانيات التغيير امام المجتمع وأقول ‘امكانيات التغيير’ ولا اقول ‘التغيير’؛ فالتغيير يتطلب تصوراً موحِداً (بكسر الحاء) يتفاعل معه المواطن في شارعه، والمعارضة السورية ما زالت بعيدة عن هذا التصور الموحد في سورية؛ وذلك ليس لعجزها، بل أن هذا الموحِد يحتاج فترة لابأس بها من الحضانة لينمو ويترعرع في حضن المجتمع ويعشش في عقلية المواطن.
ومن هنا تأتي اهمية دور الإعلان، فالتصورات الموحدة لا بد لها من حاضنة تقوم بخلق الأفق الممكن لهذا التصور، فأي تصور مهما كان جيدا سيعجز عن التحول إلى فكرة متكاملة ما لم يكن هناك آفاقا تجعله طموحا ممكنا، هذه الحاضنة ـ هي كحاضنة الأطفال الذين ولدوا وما زالوا بحاجة للرعاية- ستؤمن عدة عوامل لتحقيق الموحِد:
أولها: ستجعله أملا وطموحا ممكنا على الأقل على مستوى التصور، طالما لا أمل هناك فلن يكون هناك نمو. والنظام في سورية همه الأول والأخير لمايقارب من نصف قرن اليوم في أن يقنع الشارع باستحالة تغييره والدكتورة وفداء حوراني والدكتور أحمد طعمة ورياض سيف علي العبدالله وأكرم البني ورفاقهم لا جريمة لهم سوى أنهم حاولوا قتل هذه القناعة واثبات أن التغيير ممكن.
ثانيها: ستؤمن فضاء يتفاعل فيه الموحِد مع القوى المختلفة في المجتمع سواء هذه القوى على مستوى الأحزاب والهيئات والأفراد، حتى مستوى أجهزة النظام ومجموعاته، فهذا الموحِد ليس جامدا إذا؛ فلا بد له من أن يُختبر من قبل كل هذه العناصر والقوى، وبمقدار قرب هذه القوى من النظام بمقدار ما يكون الاختبار للموحِد قويا وشديدا، وعمليات الاختبار هذه ليست سلبية بالمطلق، فهناك تغذية راجعة من هذه الاختبارات تقوم بصقل الموحِد وتأهيله لكي يكون أكثر مناسبة وتوفيقا للمجموع المجتمعي. فلنأخذ مثالا فلو أن الموحد هو ‘العلمانية’ ـ على سبيل المثال ـ فالحاضنة هنا ستسمح لنا بصياغة نوع العلمانية التي نريد وستسمح لجمهورنا ببناء تصور حول حياتهم في ظل هذه العلمانية التي تتطور في حاضنتنا. فهناك عملية قبول من الجمهور تتم كما أن هناك عملية اعادة صياغة للموحد بما يناسب هذا الجمهور.
ثالثها: قلما يكون هناك موحِد وحيد، بل سنصاب كحراك سياسي في مجتمعنا بالفقر لو كان هذا صحيحا، ففي الظاهرة الإجتماعية يكون هناك العديد من هذا ‘الموحِد’ لا بد لها جميعا من فضاء يتم فيه صهرها في بوتقة واحدة متكاملة.
فإذا حددنا أن دور إعلان دمشق هو تقديم هذه الحاضنة علمنا بالضبط مالذي علينا أن نطالب الاعلان بانجازه. فإعلان دمشق استطاع أن يؤكد للجميع أن هناك أملا بالحل وأن آليات حركية وضعت لفتح حوار وطني حقيقي، فمن هذا القبيل كان البعثيون والعلويون من جماعة النظام يحضرون محاضرات ونقاشات الأتاسي في دمشق؛ فإن كان البعض اتى لمحاولة التشويش ولكن أغلبهم أتوا ليروا آفاق دورهم الممكن في الفضاء السياسي القادم. وقد أدركت بعض الأحزاب أهمية اعلان دمشق في قدرته على اعادة الحوار الوطني إلى الطاولة، وأنا اعطي مثالا واحدا هنا، فلولا نقاشات منتدى الأتاسي وحركة احياء المجتمع المدني ولجانه – برأيي المتواضع – لما كان عندنا ما يسمى ‘الميثاق الوطني’ الذي اصدره الأخوان المسلمون، وأنا لا اقييم هنا هذا الميثاق، وسواء كان الأخوان استجابوا لطروحات هذا الحراك السياسي الجيد أم أنهم انفعلوا لها. ولكن فتح الحوار الجديد جعلهم يشعروا بالحاجة لطرح أفكار جديدة حول الموحِد. كما أن الإعلان دفع الأحزاب الأخرى لاقامة بعض المراجعات الذاتية لأطر عملها ومرجعياتها الفكرية. وهذا هو حقيقة دور الإعلان ومصدر نجاحه إن تستمر هذه المراجعات.
قاسمة وعاصمة:
إعلان دمشق مثله مثل أي دواء آخر لمشكلة مستعصية له آثاره الجانبية، فالأحزاب والحركات وأشباه الحركات المنضوية تحته تحتاج لمرونة عالية ورؤية شاملة لكي تتمكن من الخروج من نظرتها التقليدية وممارساتها الحزبية التي درجت عليها إلى حقيقة دور الإعلان، فضبابية دور الإعلان في فكر هذه الأحزاب جعلها تنقل اهتماماتها من التفاعل الجماهيري إلى التفاعل داخل الإعلان، فالاعلان يهدف أن يحفز كل حزب لاعادة توجهاته مع قواعده، فعلى كل حزب أن يجدها مناسبة لاعادة تفعيل القواعد، وبكل أسف عوضا أن أن يكون التجاذب الذي من المفروض أن يدور ضمن قواعد الحزب ومختلف طبقاته القيادية وأن يسموا بالحزب نحو مستوى أعلى من الحركية، نجده انتقل هذا التجاذب إلى صفوف الإعلان.
وكما وضعنا سابقا شرط نجاح الإعلان أن تستمر أحزابه وحركاته بمراجعاتها، ولكن ما يصلنا في كل يوم عن هذه الأحزاب أن عملية المراجعات الداخلية تراجعت بشكل ملحوظ داخل هذه الأحزاب، وكما أنه من المفروض أن يؤدي الأفق الجديد الذي فتحه إعلان دمشق لتوسع في قواعدها، علينا أن نطرح عليها اسئلة فيما إذا حصل هذا التوسع للقواعد أم أن الحراك الجديد لم يكن ذوعدوى قوية كافية لتنتقل إلى الجماهير أو للحزببين الواقفين على الأطراف. بل ما يذكر في هذا السياق أن حركة ‘مؤسسة’ للإعلان ارتكست عن موضوع المعارضة كلها وعلقتها.
ولكن هذا يجب ان لا يمنعنا من أن نرى أفق التطور الممكن في صفوف الإعلان فيمكننا تصور اعلان دمشق كحاضنة تفعيل لكل ما يسمى بالمستقلين، في الحقيقة يعتبر المستقلون أمل أحزاب الإعلان بملء الفراغات الفكرية بينهم، وهم القادرون على اعادة صياغة بعض هذه الأفكار التي فشلت في الاختبارات الجماهيرية عبر عشرات السنين، والتي ما زالت بعض الأحزاب تعاني منها. فإذا كان تعريفي للحزب السياسي بأنه ‘فكرة تحولت إلى مؤسسة’ أو أنه ‘فكرة تمأسست’ وهو تعريف لا تعرفه أغلب الأحزاب في العالم العربي اليوم ولا سيما التي تدور حول الأشخاص، فهناك أمل بأن تتولد قريبا بعض الأحزاب – حسب تعريفنا السابق- من تجمعات المستقلين داخل الإعلان، والأمل فيها أن لا تكون شخصانية بل أن تكون هذ التجمعات حول أفكار – تجريبة على الأقل- عن ‘الموحِد’ المذكور في مطلع مقالنا. ومن هنا تنبع مصدر اهمية المستقلين في إعلان دمشق. ولكن رغم أهميتهم يبقون الحلقة الأضعف فيه؛ فمصدر ضعفهم هو ناتج من تكوينهم الفردي الذي يسهل تهديده وتحييده لعدم توفر الحماية له في مواجهته مع الدولة مقارنة مع الحزبي، وإن كانت هذه الحماية نسبيا قد يملكها الحزبي. فدور الحزبي في الإعلان لا يغيب مع تغييبه في السجن، إذا يتابع الحزب دور السياسي المغيب بينما يغيب دور المستقل مع غيابه في السجن. وبكل اسف كانت السلطات أوعى لهذه النقطة فقد استطاعت أن تزج بالعديد من هؤلاء المستقلين في السجن من قيادات الاعلان.
لقد أسال تقييم الإعلان مداد الكثير من الراضين والساخطين ولا سيما في محاولات تقييمه الأخيرة، والإعلان انجاز نوعي في السياسة السورية في لحظة تاريخية حرجة، ولو مات في يوم من الأيام سيبقى نجاحا نوعيا ‘لا ينتطح به عنزان’. ونجاح الإعلان واستمراريته المستقبــــلية تتعـــلق بشكل مباشر بإدراك سياسيه لحقيقة دوره والتمــــيز بين دور الإعلان ودورهم الحزبي والشخصي. واختم بقصة قد تكون لسان حال الإعلان، يحكى ان بعض الوشاة أوغروا صدر الخليفة على رجل فاستدعاه واتهمه بأنه يقوم بالدعوة لذاته في البدو، فأجابه الرجل يا مولاي أنا ذهبت أدعوهم للصلاة والصوم والعمل الصالح، فأجابه الخليفة هذه جيدة ولكن كيف تدعو الناس للصلاة أربع مرات في اليوم (عوضا عن خمس كما في الاسلام)، فقال الرجل:’يامولانا أنا ذهبت لهؤلاء البدو فما كانوا يصلون أبدا، اليوم اقنعتهم أن يصلوا اربعة صلوات يوميا، الآن كل الذي عليك أن تقنعهم ان يصلوا الخامسة’.

اقتصادي وأكاديمي سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى