مفاوضات المسار السوري.. بين الغموض والاختراق
د. محمد السعيد إدريس
يبدو أن الأيام القليلة التي فصلت بين انتهاء جولة الرئيس الأميركي جورج بوش للمنطقة ضمن مشاركته في احتفالات إسرائيل بما أسمته عيد تأسيسها «الستيني»، وبين التوقيع على اتفاق الدوحة وانفراج الأزمة اللبنانية والإعلان عن استئناف المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وسورية قد شهدت الكثير من التطورات المثيرة وأحدثت ما يمكن اعتباره «اختراقاً» في معادلات التفاعلات الإقليمية، وجعلت حديث الحرب سواء كان ضد إيران أو سورية خارجاً عن كل الحسابات والسياقات، لكنها، رغم ذلك، لم تستطع إزالة غموض النوايا بقدر ما أدت إلى تعاظمها وتعقدها.
أحاديث الحرب والسلام
حديث الحرب كان العنوان الرئيسي في جولة بوش، وإن لم تكن الحرب فهو العداء الصارخ لسورية وإيران. فقد اعتبر بوش في هذه الزيارة أن السماح لإيران بالحصول على أسلحة نووية «سيكون خيانة لا تغتفر للأجيال القادمة»، ودعا إلى عزل سورية وإيران قائلاً: «كل دولة محبة للسلام في المنطقة من مصلحتها معارضة طموحات إيران لامتلاك أسلحة نووية». هذا الموقف المتشدد شجع صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية على نشر خبر على لسان من وصفته بأنه «مسؤول إسرائيلي» مفاده أن مسؤولاً أميركياً رفيع المستوى في الوفد المرافق للرئيس الأميركي خلال زيارته تلك لإسرائيل قال إن الرئيس الأميركي يرى أن ضرب إيران أمر ضروري، وأن ما يؤخر هجوماً على إيران هو تردد وزير الدفاع روبرت غيتس ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، وأن بوش ليس ملزماً بالحصول على تأييد غيتس أو حتى الكونغرس من أجل تنفيذ هجوم كهذا، لكن المشكلة أن هذا الأمر (ضرب إيران) سيضر بالمرشح الجمهوري للرئاسة جون ماكين.
وعلى الرغم من حرص المتحدث باسم البيت الأبيض على نفي هذه المعلومة والقول بأنها «لا تساوي قيمة الورق الذي كتبت عليه» وأن واشنطن مازالت تركز على الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية على إيران حتى تغير تصرفاتها وتوقف برنامجها لتخصيب اليورانيوم، فإن هناك معلومات أخرى أكدت أن التنسيق الإسرائيلي– الأميركي بخصوص مواجهة إيران بلغ «ذروته» في أعقاب سفر بوش من المنطقة عقب انتهاء جولته تلك، حيث ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن رئيس الأركان المشتركة للجيش الأميركي الأدميرال مايكل مولن التقى نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال دان هارئيل في العاصمة البلجيكية بروكسل وتباحثا في «التهديد الإيراني»، وأنه خلال اللقاء الذي عقد في إطار اجتماع رؤساء أركان جيوش حلف شمال الأطلسي أطلع هارئيل الأدميرال مولن على معلومات جديدة حول جهود إيران في المجال النووي من شأنها إلغاء استنتاجات التقرير الأخير للاستخبارات الأميركية بخصوص إيران والذي جاء فيه أن طهران أوقفت مساعيها لإنتاج سلاح نووي منذ العام 2003.
لم تكتف الصحيفة الإسرائيلية بذلك لكنها نقلت عن مصادر سياسية إسرائيلية قولها إن إسرائيل والولايات المتحدة اتفقتا على القيام بنشاط حثيث ضد البرنامج النووي الإيراني مضيفة أن «معالجة التهديد الإيراني ستكون أفضل عندما توضع جميع الخيارات على الطاولة، وأنه على الإيرانيين أن يكونوا قلقين أكثر الآن». وأوضحت أنه خلال اجتماعات عقدها الرئيس الأميركي جورج بوش مع رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت «تم الاتفاق على أمور ذات أهمية عليا لن يتم الكشف عنها أبداً».
مثل هذه الجدية في الإعداد لمواجهة إيران تداعت أمام دفاع إيهود أولمرت عن مشروعه للتفاوض المباشر مع سورية وهو يدرك تماماً أن طموحه للتفاوض مع سورية لا يمكن أبداً أن يكون على حساب علاقات التحالف السورية مع إيران، حتى لو كان الثمن هو الجولان.
عودة الوعي التاريخي
فقد دافع أولمرت باستماتة عن هذا المشروع أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي (البرلمان)، وأوضح أنه بدأ مرحلة من التفاوض غير المباشر مع سورية منذ فبراير 2007 عبر الوسيط التركي، ونفى أن يكون هذا التوجه نحو سورية محاولة منه لتجاوز التحقيقات التي تجري معه حول اتهامات بالفساد المالي.
ما يلفت الانتباه في دفاع أولمرت عن مشروعه للتفاوض مع سورية هو الوعي الذي انطلق منه، وهو وعي تاريخي مازال غائباً عن القيادة الإسرائيلية منذ مفاوضات كامب ديفيد مع مصر التي أجراها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحم بيغين مع الرئيس المصري أنور السادات (1978 – 1979). أولمرت قال ما نصه: «ما رجح كفة الميزان لإجراء مثل هذه المحادثات هو مسألة معرفة ما إذا كنا سننجر بسبب خطأ في التقدير إلى مواجهة مع سورية»، وقال أيضاً: «في مثل هذه الحالة كان سيوجه إليَّ حتماً السؤال عن كيف يمكن أن يكون السوريون سعوا إلى السلام، وأنني لم أدرس هذا الاحتمال».
إلى أي حد يمكن تصور جدية هذا الوعي التاريخي الذي أفاق عليه أولمرت هكذا فجأة وهو يدبر لحرب ضد إيران؟، وإلى أي مدى يختلف تقدير الحرب مع سورية عن تقديره مع إيران؟، هل التقييم مختلف أم أن القضية زائفة من أولها إلى آخرها، وأن هناك أهدافا أخرى ليست لها أية علاقة بهذا الوعي التاريخي الزائف والانتقائي؟
السؤال مهم لأسباب كثيرة أولها أن بقاء أولمرت نفسه على رأس السلطة في إسرائيل أضحى مشكوكاً فيه في ظل التطورات المتسارعة في القضية المتهم فيها بالفساد المالي، وفي ظل التفجر السريع لمعركة خلافة أولمرت داخل حزب كاديما خاصة بين كل من تسيبي ليفني وزيرة الخارجية، وشاؤول موفاز وزير النقل وكل منهما ليس متحمساً لمثل هذا المسار التفاوضي مع سورية، كما أن بقاء الحكومة في ظل استقالة أو إقالة أولمرت لم يعد مأموناً، والأرجح أن تجرى انتخابات نيابية جديدة قد تأتى باليمين المتشدد وعلى رأسه بنيامين نتنياهو الذي يتزعم الآن حملة التشهير بأولمرت سياسياً بسبب التفاوض مع سورية ومالياً بسبب الاتهامات الموجهة ضده بالفساد والرشوة.
تفكيك محور دمشق ـــ طهران
السبب المهم الثاني هو ذلك الرهان الإسرائيلي الصعب على إمكانية تفكيك علاقة سورية مع كل من إيران وحزب الله وحركة حماس كثمن لقبول التنازل عن الجولان أو التفاوض حولها. وزير البنى التحتية الإسرائيلي بنيامين بن أليعازر يطمع في أكثر من ذلك فهو يرى أن السلام مع سورية «سيقلب الوضع الاستراتيجي في الشرق الأوسط، لأنه سيعزل إيران ويسكت حزب الله».
أما السبب الثالث والأهم والكفيل بإزالة أي غموض في الموقف الإسرائيلي من السلام مع سورية والحرب ضد إيران فيتمثل في ما نقله أودي سيجل المعلق السياسي للقناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي عن مصادر عسكرية رفيعة المستوى في تل أبيب بقولها: إن الحرص الإسرائيلي على فتح قناة تفاوضية مع سورية جاء لـ«إقناع دمشق بعدم المشاركة في عمليات انتقامية من المؤكد أن طهران ستقوم بها إذا تعرضت منشآتها النووية لضربة عسكرية أميركية»، وعلى ذلك فإن المنطق وراء استئناف إسرائيل المفاوضات غير المباشرة مع سورية يقوم على محاولة إطالة أمدها حتى تتجاوز الوقت الذي تتعرض فيه إيران للضربة العسكرية بحيث يكون وقتها من الصعب على دمشق المشاركة في عمليات انتقامية ضد إسرائيل في الوقت الذي تجري فيه مفاوضات معها. ويكشف هذا الاستنتاج الذي أكده أمنون ايراموفيتش كبير المعلقين في قناة التلفزيون الإسرائيلي الثانية عن أن «كل التقييمات الاستراتيجية التي قام بها الجيش الإسرائيلي مؤخراً تدل على أن آلاف الإسرائيليين سيقتلون في أي مواجهة عسكرية مع سورية»، واعتبر أنه «على الرغم من إدراك إسرائيل أنها ستحقق نصراً في النهاية، فإن هذا النصر سيكون قاسياً جداً، وسيؤدي إلى سقوط آلاف الإسرائيليين».
أولمرت يراوغ إذن؟
ربما يكون هذا هو الأرجح خصوصاً وأن هذه المراوغة تفيده في مراوغة أخرى لا تقل أهمية، وهي الهروب من استحقاقات التفاوض مع الفلسطينيين كما تريد إدارة بوش، فهو يريد أن يلعب بكل الأوراق بما فيها ورقة استمراره في السلطة من خلال الظهور بمظهر القائد القادر على تحقيق السلام لإسرائيل، لكن غموض القبول السوري بهذا التفاوض مع إسرائيل والإصرار فى الوقت نفسه على التحالف مع إيران، بل والتوقيع على مذكرة دفاعية جديدة خلال زيارة قام بها وزير الدفاع السوري العماد حسن تركماني لإيران تزامنت مع الإعلان السوري والإسرائيلي عن استئناف المفاوضات غير المباشرة في تركيا، لا يقل إثارة، أما المثير حقاً فهو الدعم الإيراني لهذا التفاوض السوري مع إسرائيل في وقت يؤكد فيه الطرفان الإيراني والسوري على دعم خيار المقاومة، وأن العلاقات الوطيدة بين إيران وسورية قد أحبطت وأربكت التهديدات التي استهدفت خط المقاومة في المنطقة، ناهيك عن تأكيدات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بأن سورية «ستبقى في خط المواجهة الأمامي».
هذا الغموض يكشف الحرص السوري – الإيراني على كسب الوقت والحيلولة دون تمكين الرئيس الأميركي من التورط في حرب ضد إيران قد تمتد إلى سورية في الأشهر القليلة المتبقية من ولايته خصوصاً في ظل الإدراك الأميركي بمرارة الهزيمة في لبنان بعد اتفاق الدوحة على نحو ما كشفته تحذيرات ريتشارد بيرل أعتى صقور المحافظين الجدد الأميركيين من أن اتفاق الدوحة أضفى الشرعية الدولية على حزب الله كقوة سياسية في لبنان، وأنه سيمكن إيران من إطلاق ما أسماه بـ«النموذج اللبناني» في دول أخرى بالمنطقة، وعلى نحو ما أوضح مارتن انديك مستشار الأمن القومى الأميركي الأسبق لشؤون الشرق الأوسط من أنه لم يعد بالإمكان التعامل مع سلاح حزب الله بسياسات محلية (لبنانية) وأن المعالجة تكون في «إطار ترتيبات إقليمية ودولية أوسع».
إشارات غامضة بمواجهات جديدة لا تستبعد الحرب لكن يبدو أن الاختراق الذي حدث في الدوحة ومفاوضات السوريين مع الإسرائيليين في تركيا سيكسب الرهان، وبالذات الرهان على الوقت حتى رحيل إدارة بوش مع تأكيد فرنسا ورئيسها ساركوزي على دعم ما أسمته باريس بـ«الحفاظ على الدينامية» المتولدة من اتفاق الدوحة والمفاوضات غير المباشرة بين دمشق وتل أبيب.
كاتب من مصر
رئيس وحدة دراسات الخليج في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية