صفحات مختارةياسين الحاج صالح

بعد قرن السياسة، أقرن للثقافة والدين في عالم العرب؟

ياسين الحاج صالح:
تشكل العالم العربي في القرن العشرين. كانت العقود الأربعة السابقة للحرب العالمية الأولى شهدت إحياء اللغة والثقافة العربية. وبعد الحرب التي انتهت بانفراط السلطنة العثمانية ووقوع ما بقي مستقلا من البلاد العربية تحت الاحتلال الغربي، أخذت ترتسم العروبة كمشروع سياسي وكاسم لإطار جغرافي سياسي، كان يقف في الغالب عند حدود مصر. وفي ثلاثينات القرن العشرين فقط ستبرز، في المشرق، فكرة “وطن عربي” يمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي. غير أن الفكرة المبتكرة هذه اجتهدت في إنكار جدتها، ولم ترتض لنفسها مرجعا أقل من “الطبيعة”. سيبدو لها “الوطن العربي” عودة إلى وضع “طبيعي”، ضدا على تجزئة “مصطنعة”. كانت تلزم “ثقافة” معاكسة تماما: “التجزئة” طبيعية، نتاج تفوق قوى عمياء، بيئية وتاريخية، في صنع حال العرب وأوضاعهم. بناء “الوطن العربي” أو “الأمة العربية” لا يمكن أن يكون ، بالمقابل، غير عملية اصطناع وتدبر واع ورفيع الثقافة. والحال، لقد كان حظ “الثقافة” كفاعلية صنع وتشكيل واعية بذاتها ضئيلا في سياسة قرننا العشرين، بينما كان حظ “الطبيعة” كبيرا.
باختصار، وضعت العروبة نفسها ضد الثقافة وفي صف الطبيعة. وسيتمثل هدف السياسة في “العودة إلى الطبيعة” أو إلى “الأصل”، وإلغاء “الاصطناع”، حدودا ودولا وكيانات سياسية. لا حاجة إلى القول إن هذا الموقف معاد للتاريخ ومناف للوعي التاريخي.
وخلافا لانطباع شائع، فقد كان التشكل العربي في القرن العشرين مختلا بالضبط بسبب تقدم التشكل السياسي على التشكل الثقافي. هذا بينما كانت الظواهر توحي بالعكس، بسبب النظر إلى السياسي والثقافي من وجهة نظر ما يقدمانه من فرص للتوحيد. في الواقع كان ثمة أجهزة عربية حديثة، وخطاب عربي حديث نسبيا وسياسة عربية معاصرة لزمنها إلى هذا الحد أو ذاك، لكن متن الثقافة العربية كان قديما، ولم يكن جوهره إلا الدين. لذلك كان تقدم السياسي معلقا في الفراغ.
إخفاق القومية العربية قاد إلى انكشاف هذا الجوهر، وصعود “الإسلام”. لكنه كان صعودا سياسيا بدوره. كان “الإسلام” الصاعد فاعلا سياسيا، ولم يكن حامل تشكيل ثقافي أو قوة توحيد ثقافي. هذا خلافا لما كانه الإسلام بالذات وقت انتشاره وتعميمه للغة العربية. وكذلك رغم أن مجتمعاتنا تغيرت كثيرا، فلم تعد تتوحد في الدين، أي دين؛ ورغم أن الدين عاد دينا، فلم يعد فعله التوحيدي المحتمل يتجاوز المؤمنين. ولعل إصرار التيارات الدينية على عمومية تتجاوز دائرة الدين والإيمان، مع ضمور البعد الثقافي في تكوينها وفاعليتها، هو ما جعل منها قوة تمزيق ونزع للاستقرار.
طوال ربع قرن من “الصحوة الإسلامية” كان الحضور السياسي والرمزي والعنفي لـ”الإسلام” ينمو ويتسع، لكن دون أن تواكبه حركة ثقافية وفكرية وروحية، حية وناهضة. بلى، كتب كثير وقيل كثير، لكنه ذو طابع دعوي أو تحريضي، مفرط التمركز حول الذات، يرفض المساءلة من غيره ولا يطرح نفسه للتساؤل. بل دون استعداد حتى للتفكير في الأمر. تكاد الحجة الجوهرية للإسلاميين تفيد في أن الإسلام “طبيعتنا”؛ انتهى النقاش. والشيء الأساسي الذي يرفض الإسلاميون تفكيره هو واقع أن الإسلام اليوم دين فحسب، لم يعد تفجر طاقة تاريخية وقوة تشكيل ثقافي وروحي وسياسي وحضاري أصيلة. هذا تطور “موضوعي” مواكب للحداثة، لا ينتظر الرأي به كي يتحقق، ونكرانه مولد حتما للتطرف والعنف.
وهنا أيضا يصح القول إن التشكل السياسي للإسلاميين غلب تشكلهم الثقافي، بل إنهم يظهرون استسلاما مطلقا على صعيد الثقافة، وإن تحت راية اكتفاء الإسلام بذاته واستغنائه عن غيره. ولعل نصيب السياسة يتقدم على نصيب الدين ذاته في الإسلامية المعاصرة، بقدر ما إن تجدد الدين متعذر دون تنشيط ثقافي من خارجه. وقد تعود غلبة المكون العنفي للسياسة على مكونها الفكري، في الحالين القومية والإسلامية، إلى شرط الضمور الثقافي ذاته.
في المجمل، كان التشكل العربي في القرن العشرين مختلا، فيه كثير من القوة و”السياسة الطبيعة” وقليل من الثقافة و”السياسة العقلية”.
وهكذا ولجنا القرن الحادي والعشرين وشكلنا “مُفشْكل”، يجتمع له الفشل وتشوه الشكل. وفي أساس “الفشكلة” ثمة قصور الثقافة، إقامتها على أشكال متقادمة لتنظيم الإدراك والواقع، غاية مطمحها أن تعتبر طبيعية.
وتحوز مسألة التشكل الثقافي أهمية إضافية اليوم من واقع تداعي الهويات الوطنية في معظم بلداننا وصعود الهويات الفرعية والجزئية، وما يواكبها من مخاطر التفكك الوطني والنزاع الأهلي. إن التشكل السياسي الموروث يتداعى، والدول الفاقدة لأسس ثقافية معرضة للانفراط إلى أجزاء “طبيعية” أصغر، تطابق “ثقافتها”. لقد كان أقصى طموح هذه الكائنات السياسية أن “تطبّع” نفسها، أن ترسي هوياتها على “الطبيعة”، إن على شكل قرابة دموية، أو عقيدة متعالية على التغير، أو تاريخ موغل في القدم والدوام. هذا يحذف كل مسألة البناء الوطني كعملية صنعية واعية من جهة، ويفسح المجال من جهة أخرى للسياسات “الطبيعية” بالفعل، سياسات الهوية والدم، العائلية منها والقبلية والطائفية. ولعله هنا، في تفضيل الدول أن تكون “تحفا” من صنع الطبيعة وحدها، أصل التوتر بين الدولة العربية الحديثة والثقافة. تأخذ الثقافة هنا معنى الاضطلاع الجاد والواعي بذاته بعملية اصطناع الدول والكيانات السياسية في المجال العربي. وهذا الاصطناع هو ما قد يفتح الباب لاصطناع آخر أوسع نطاقا وأشد تعقيدا: تشكيل عالم عربي متفاعل.
وهنا ربما تتقاطع وقائع السنوات الأخيرة، التالية لأيلول 2001، واحتلال العراق وتفجره، وتمزقات فلسطين.. وأوضاع متعسرة في معظم البلدان العربية الأخرى (لبنان وسورية ومصر والسودان..)، ربما تتقاطع هذه الوقائع مع حاجة أزف وقتها لدينا لفتح ملفات قديمة تخص الثقافة والدين بالخصوص. وفي هذا المقام لا يجوز للنقد المحق للخطط الأميركية وسياسات المحور الأميركي الإسرائيلي، وكذلك سياسات السلطات العربية، لا يجوز لها أن تخفي واقع أننا نعاني من أزمة ثقافية ودينية، مركبة وعميقة. ومنبع الأزمة فيما نرى هو “تطبيع” الدين والثقافة في مجتمعات لا تكف عن التبدل، في تاريخ لا يكف عن الحركة، في عالم يتغلب الصنعي فيه كل يوم أكثر من سابقه على الطبيعي.
كان القرن العشرون قرن السياسة في دنيا العرب، فهل سيكون القرن الحادي والعشرين قرن تشكل مختلف، تشغل الثقافة والدين موقعا تأسيسيا فيه؟ هذا ضروري. إن كان للثقافة العربية أن تعرف ازدهارا وتفتحا، فمن غير المحتمل أن تحقق ذلك دون تجديد ثقافي يتيح إصلاح الدين وإعادة اكتسابه. وحدها الثقافة التي تنجح في استيعاب الدين، نظريا وعمليا، تستطيع أن تكون ثقافة تاريخية كبرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى