صفحات مختارةياسين الحاج صالح

وراء ثلاثة جدران فولاذية أو أربعة

null
ياسين الحاج صالح
في عشرينات أعمارهم، الفرق محدود بين شبان بلداننا وغيرها. يواجههم الطموح وطاقة الابتكار وروح الحرية نفسها المميزة لجيلهم في كل مكان. بعد حين تصطدم أنشطتهم بجدران صلبة. أولها هياكل السلطة الاستبدادية. هذا محتم بفعل غيريتهم ورغبتهم في الخدمة والعمل العام، وبفعل عدوانية وخبث وأنانية تلك الهياكل. ما ليس محتماً هو شكل الاصطدام ومحصلاته. يحصل أن يكون عنيفاً يحطم الشاب أو الفتاة، أو أقل عنفاً يعطِّله ويعزله، أو احتوائياً يقلبه على نفسه ويدفعه لاستبطان القيود التي فرضت عليه. حيال ذلك، يهاجر من يستطيع. ولا يكاد أحد ممن لا يستطيع، يحقق شيئاً من تطلعاته أو الحفاظ على معنوياته وإرادة العمل العام.
هذه خبرة متواترة في مجتمعاتنا، بتفاوتات محدودة. هناك سور صيني عال وغير مرن، يؤثر في حياة الناس جميعاً ولا يكاد يتأثر بجهودهم لزحزحته أو تعديله أو توسيع هوامش حياتهم فيه. وعلى رغم أن أسوار السلطة هذه أقل دموية في هذا العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مما كانت في العقدين الأخيرين الفظيعين من سابقه، إلا أن أساس ذلك هو أنها تواجَه بتحديات قليلة اليوم. ليس لدينا أسباب وجيهة لتوقع ألا ترد بقسوة مهولة لو واجهتها تحديات مماثلة. لن تفرط بملك طالت إلفتها به، ولم تعد تستطيع أو تتخيل العيش من دون عز أدمنته، وازدادت غروراً بفعل دوامه. في الأمر بلايين وبلايين قبل أي شيء آخر. الجنة وأكثر على الأرض.
وإلى «السلطة» كقوة جمود منيعة على التغير، يضاف التشكل المعاصر للدين، الأثر المجمل للتعاليم والتربية والمؤسسات الدينية الإسلامية اليوم. في صيغته الاجتماعية يطور الإسلام المعاصر مواقف محافظة تفصل بين الجنسين، وتثابر على التمييز بينهما (في الميراث وفي تعدد الزوجات…)، كما يرعى وعياً ذاتياً متمحوراً بإفراط حول الدين، وانعزالياً تالياً حيال شركاء الوطن غير المشاركين في الدين. وفي صيغته السياسية يتطلع إلى السلطة كلها، وإلى رد الشرعية إلى «الشريعة»، هذا حين لا يطمح إلى أسلمة كلية جديدة لمجتمعاتنا تحت لواء مبدأ «الحاكمية الإلهية». وهو في جميع أحواله محافظ على المستويات القانونية والتعليمية والثقافية.
هنا أيضاً تصطدم الجهود التجديدية والإصلاحية بجدار صلب غير مرن، لا يقف أمره عند عدم التأثر، بل هو يُدوِّخ أو يهمش أو يشل المبادرين إليها، من أمثال نصر حامد أبو زيد ومحمد شحرور وجمال البنا وغيرهم. جهودهم لا تقدر بثمن من حيث أنها تصنع شرعية إسلامية للاختلاف والانشقاق وحرية الاعتقاد والضمير، إلا أنها لما تحدث بعد ثغرة في الجدار الصلب، سياج الدوغما على قول محمد أركون.
هذا فوق أن قوة الجمود الدينية تعزز من جمود غريمتها وتصلبها، قوة الجمود السياسية، ما يتسبب في شعور عام بالانسداد، لا ريب أن له «فضلاً» عميماً في انتشار روح التشاؤم والخوف من المستقبل في بلداننا، وكذلك في حلم الهجرة الذي يتملك نصف شبابها على ما أظهر تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002. من دون أن ننسى أخيراً أن الطائفية نتاج امتزاج الدين مردوداً إلى الهويـة مع السياسة مجردة من المبدأ الوطني.
وبينما لا نقر بأن الطائفية عامل أولي مستقل في أي من مجتمعاتنا المعاصرة، إلا أن مسار التطورات السياسية فيها وحولها، والسوية الفكرية والسياسية والأخلاقية المتدنية لنخب السلطة والنخب السياسية عموماً في العالم العربي، يتجه نحو تعزيز الطوائف وتعزيز احتكار كل منها لولاء المنسوبين إليها. من ليسوا كذلك منا لا يجدون ثمرة لجهودهم ويهمشون. لقد سارت تطورات الوضع اللبناني خلال عقود ليس نحو مزيد من تمركز النظام اللبناني حول الطوائف، بل ومزيد من صلابة هذه مقارنة بأية صيغ انتظام اجتماعي مختلفة عنها. ويبدو أن الأمر مثل ذلك في العراق أو هو متجه في المسار نفسه. والأمر ليس مختلفاً كثيراً، حتى في مجال الثقافة العالمة، في بلدان المشرق كلها. في المحصلة تبدو الطائفية قوة جمود إضافية، ترفع الطلب على السلطة الاستبدادية وتحد من فرص الانشقاق والاستقلال الفكري والأخلاقي.
وفوق هذا كله ثمة جدار فولاذي رابع، يتمثل في اليد الطولى الإسرائيلية. هذا ليس محققاً في فلسطين وحدها التي تعاني من انكشاف أمني واستراتيجي واقتصادي مهول أمام إسرائيل، بل هو محسوس بكثافة في لبنان وسورية، وكذلك في محيط عربي أوسع على ما شهد التطاول على مواقع في العراق وتونس سابقاً، وأخيراً في دبي. إسرائيل قوة جمود جوهرية في المشرق العربي، لا تكاد تتأثر بجهود العرب الحربية والسلمية بفضل ما تحظى به من غطاء أميركي وغربي استثنائي، نوعاً وكماً. ولا يبدو أن هناك شيئاً مناسباً يفعله العرب حيال الواقعة الإسرائيلية بما يعطل أو يحد من تأثيرها التجميدي أو المقيد لتطورهم واستقلالهم. ولا ريب أن الأصل في ذلك هو أن إسرائيل انبنت على جريمة تحطيم شعب واقتحام لصوصي لمحيط غريب عليها ولا تقبل المساواة معه، فلا سبيل أمامها إلا المضي قدماً في حماية ما نالته بمزيد من الجريمة. وفي هذا هناك تماثل بنيوي عميق بين علاقة إسرائيل بمحيطها العربي وعلاقة نخب السلطة بمحكوميها في بلداننا. يوغل الطرفان في تحصين نفسيهما حيال المحيط (عموم العرب في حالة، وعموم المحكومين في حالة)، ولا يقبلان منه ما هو أقل من استسلام تام لا يقيدهما في أي شيء مع ذلك. هذا فوق أنهما يطوران عقائد تفوّق حضاري وثقافي حيال المحيط الواقع تحت رحمتهما، ونظرة تشاؤمية مفرطة إلى العالم من حولهما.
مطوقة بثلاثة أو أربعة جدران فولاذية كهذه، كيف لمجتمعاتنا ألا تكون مشلولة، وكيف لهذا الشلل ألا يطور التفاعلات الأشد سميّة وتدميراً ذاتياً فيها: الفساد والطائفية والتفكك العام وكره الذات والغير والعالم والتشاؤم المنتشر؟ الحلول الممتنعة تفسح المجال لتحلل متنوع الأشكال.
فإن كان لنا أن نتجنب التحلل المميت لا مناص من خرق هذه الجدران الفولاذية. وأولها الجدار السياسي، إلى أن نأتي عليه وعلى أشقائه من أصولها.
الشبان الذين كانوا في عشريناتهم مثل غيرهم في كل مكان، يمسون في بلداننا أدنى قدرة وأقل إنتاجية وأكثر إرهاقاً من غيرهم مع التقدم في العمر. ربما يصيرون أكثر «حكمة»، لكنها الحكمة التي تثبِّت خبرات الإخفاق والحصار وتدرجها في مخطط عمومي دهري. نتغلب على الخيبة بأن نستبطنها، بجعلها اسماً آخر للحياة.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى