حدود الرعاية التركية للمفاوضات السورية الإسرائيلية
خليل حسين
مفارقة الرعاية التركية للمفاوضات السورية الاسرائيلية، تكمن في ظروف انطلاقها وامكانات نجاحها او على الأقل التوصل الى بيئة تفاوضية قابلة للحياة بين الجانبين على مستوى سياسي رفيع تنتج شيئا يمكن البناء عليه. فما في الظروف؟ وما هي امكانات النجاح؟، في الواقع ثمة ملاحظات كثيرة ذات صلة يمكن الاضاءة عليها ومنها:
في ظروف الانطلاق الاقليمية ثمة وقائع مغايرة ومختلفة عن السوابق التي تمت فيها لقاءات متعددة ومتكررة بين الجانبين. أولى المحاولات اللافتة كانت بعد انتهاء حرب الخليج الثانية التي تم فيها تحرير الكويت من العراق، والتي شاركت فيها سوريا بقوات رمزية بأبعاد سياسية، وصورت المفاوضات آنذاك كإحدى جوائز الترضية للانخراط السوري في سياق مسار اميركي طويل للمنطقة. ورغم تهيئة الكثير من العوامل المساعدة كإطار التفاوض المتعدد الأطراف والاغراءات المالية والاقتصادية لم يتمكن الجانبان من التوصل الى نهايات ثابتة ومؤكدة.
كما ان ظروف الانطلاقة آنذاك كانت مغايرة للظروف الحالية وبخاصة لجهة أوراق السياسة الخارجية الداعمة للموقف السوري في المفاوضات، وهي متصلة بواقع العلاقات اللبنانية السورية آنذاك عبر تلازم المسارين والمصيرين في عملية التفاوض والنتائج التي يمكن ان تترتب عليها.
في الرعاية الأولى اجتمعت أمم الأرض وهيئتها بدءا من الدول الخمس الكبرى مرورا بمنظمات اقليمية ودولية وصولا الى دول ذات وزن مالي اقتصادي على المستوى الدولي. وعلى الرغم من وضوح الرعاية الأميركية المباشرة وخفوت بقية الأطرف ظلت المظلة الدولية لها نكهة خاصة في رعاية المفاوضات أملا في قطف نتائج سياسية قابلة للتجيير الدولي والاقليمي.
في مقابل تلك الوقائع والظروف ثمة ما يعاكسها في ظروف الرعاية التركية والتي يمكن ان تؤثر في النتائج المرتجاة على الأقل ممن يرعاها ومن بينها:
ـ انطلقت المفاوضات بصورة غير مباشرة ويبدو أنها كانت جارية قبل الاعلان عنها بصرف النظر عن مستواها او نوعيتها او مداها او أهدافها، ثم تم الكشف عنها ليس بداعي الاعلان بقدر ما هو الاحراج لدمشق، وهو أسلوب مسبوق اعتاد عليه الطرفان في محاولات سابقة، ورغم ذلك لا تعتبر إشارة مشجعة للراعي التركي الذي يأمل وككل راع في مثل هذه الظروف إبقاءها طي الكتمان الى ان تصل الأمور الى مكان يستثمر عمليا.
ـ إن الوضع الاقليمي لسوريا في هذه الفترة ليس كسلفه فهي خارج لبنان وقد فقدت عمليا ورقة هامة في آليات التفاوض، وعليه ان قدرات دمشق التفاوضية ستتأثر بهذا الواقع، ولتفادي تلك الفجوات الاستراتيجية وطدت علاقاتها الاستراتيجية مع طهران لاعادة بعض التوازن حتى في المسارات التفاوضية بصرف النظر عن عدم وضوح نهاياتها.
ـ ثمة تباين في مرتكزات التفاوض، ففيما تعبر سوريا عن موقفها الواضح بالتمسك بمبادرة السلام العربية المقرة في قمة بيروت ,2002 تجري المفاوضات في اطر يمكن ان توصف خارج السياق الذي تفترضه المبادرة العربية السالفة الذكر، رغم وجود ما تبرره دمشق لهذه الفرضية.
ولو سلمنا جدلا بتجاوز تلك التباينات في الظروف بين الانطلاقة الحالية والسوابق المماثلة لها، ثمة شروط لنجاح الرعاية التركية وما تستلزم من شروط لاحقة لتخطي مبدأ الرعاية الى التدخل كوسيط عند اللزوم. وفي هذا الاطار يمكن إدراج ملاحظات من بينها:
ـ صحيح ان تركيا بدأت تنسج علاقات خارجية على قاعدة أنها دولة اقليمية كبرى تمكنها من بلورة اطار دبلوماسي للمساعدة في حل مشكلات لها انعكاساتها على الواقع التركي الجيو سياسي، الا انها في نفس الوقت ليست قادرة على لعب تلك الأدوار من دون تغطية من أطراف دولية فاعلة في النظام العالمي، وبالتالي افتقدت شرطا ضروريا ولازما لنجاح رعايتها وكما أسلفنا بصرف النظر عن حجم التوقعات والآمال المعقودة على تلك المفاوضات.
ـ إن مثلث العلاقات التــركية مع كــل من سوريا وإيـران واســرائيل يعطـيها ميزة الانطلاق لكنها ليست كافية، فحدود التأثير في مسارات التفــاوض وان كــانت من نوع الرعاية لا تمتلك قوة الدفع الكافيـة في منعــطفات التعثر، فعلى الرغم من ان الرعاية تتطلب قدرة الضغط المعنوي على الأطراف، إلا ان هذه الحالة ليست متوفرة بالقدر الكافي للدفع باتجاه التواصل. فقدرة أنقرة على جذب سوريا باتجاه المفاوضات وإبعادها عن طهران لا تمتلك مفاتيحه بشكل كاف، في الوقت الذي تمتلك طهران أذرع سياسة خارجية قادرة من خلالها على فرملة أي تجاوز لخطوط تعتبرها مؤثرة في سياق تحالفها مع دمشق ومدى إسقاطاته وتداعياته في الساحة اللبنانية مثلا. في مقابل ذلك ثمة قدرة اسرائيلية لا يستهان بها للتأثير في قدرات تركيا ومثال ذلك استثمارها لموقعها الدولي ومدى قدرته في محاكاة الحنين التركي لدخول الاتحاد الاوروبي الذي يستلزم من وجهة النظر الاسرائيلية رضا تل أبيب على أنقرة، ما يؤثر على حدود الرعاية التركية قبل الانتقال الى مرتبات تفاوضية أعلى.
ـ ان توقيت انطلاقة التفاوض ليس مناسبا لجهة الاستحقاقات في الدول المؤثرة في مثل هذه الحالات، فالادارة الأميركية المعنية اولا وأخيرا في هذا الملف وبخاصة من وجهة النظر الاسرائيلية قد دخلت عمليا في كوما الانتخابات الرئاسية، وفي أحسن الأحوال لن تتمكن من التدخل وإعطاء أي دفع إلا في النصف الثاني من العام 2009 بعد ترتيب ملفات سياساتها الخارجية.
ـ اضافة الى ذلك ان وضع رئيس الحكومة الاسرائيلية ايهود أولمرت ليس بأفضل حالاته، فهو يعاني من انهيارات سياسية متتالية على قاعدة اتهامات ذات أبعاد قضائية، وهو يترنح وقاب قوسين او أدنى من السقوط، الأمر الذي لا يؤهل تل أبيب للولوج في مفاوضات يعتد بها من الناحية المبدئية.
وعليه إذا كانت الأمور تؤخذ على محمل الجد فظروف نجاحها ليست متوفرة او أقله تستلزم المزيد من الشروط الاضافية. أما إذا كانت من نوع جس النبض السياسي بهدف تحضير علاجات لملفات أخرى فهي ايضا ليست مستوفية الشروط باعتبار ان بعض الملفات القابلة للمقايضة ليست من النوع القابل للدفع المسبق، وهي من الأمور القابلة للجر في ملفات وتداعيات كثيرة يصعب تصور نتائجها بوضوح ومدى أكلافها اذا ارتبطت بأطراف آخرين.
كثير من اللقاءات والمفاوضات عقدت بين سوريا واسرائيل، وقليل من نتائجها يمكن البناء عليه. اثنتا عشرة جولة ثنائية وأخرى متعددة، ومن ثم لقاءات على مستو سياسي وعسكري عال لم تنتج سوى «وديعة» سرعان ما تنكرت لها اسرائيل لاحقا رغم تواضع موضوعاتها مقارنة مع الشعارات والآمال التي كانت معلقة على اساس موضوع التفاوض.
من مربط خيل اللاءات الثلاث عام 1967 انطلق العرب لتحديد موقعهــم في مواجهة اسرائيل، ومع انطلاق سباق البدل في مشاريع التسوية سقطت الخيول العربية واحدة تلو الأخرى، ولم يبق منها سوى قلة لا تعرف أين تتجه، اضاعت البوصلة وحُملت رايات السلام شمالا، بينما الجنوب ينتظر، فأين انتم يا عرب؟ كأنهم في المريخ حتما!
استاذ جامعي
السفير