اسرائيلصفحات العالم

حالة إنكار: روبرت فيسك يبحث عن السلام في إسرائيل

روبرت فيسك
هل يمكن تحقيق السلام في الشرق الأوسط في حين أن الإسرائيليين والفلسطينيين على السواء يرفضون تقديم تنازلات؟ روبرت فيسك يقوم برحلة في أرض منقسمة، من فيلا بن غوريون في تل أبيب إلى القدس وبيت لحم وقطاع غزة المحاصر.

ليس هناك حرّاس مسلّحون عند البوّابة في جادة بن غوريون 17 في تل أبيب، بل مجرد فيلا منهكة من طبقتين بعيدة عن الشارع وباب مفتوح يقود إلى مطبخ داكن وغرفة صغيرة مع سرير نقّال على الأرض.
يغطّي قرميدٌ النافذة التي تعلو السرير الصغير المرتّب – لحماية المالك وزوجته بولا من القذائف المصرية خلال الاجتياح الإسرائيلي لسيناء عام 1956 وحرب 1967 – لكن في الطبقة العلوية يقع المحور الثمين لهذا المنزل الصغير، مكتبة ديفيد بن غوريون التي تضم 20 ألف كتاب. تجوّلت في هذا العرين، وأنا أدوّن في دفتر ملاحظاتي كل القرائن التي تتيح التوغّل في ذهن القائد الأكثر إقناعاً بين القادة الإسرائيليين. معظم الكتب باللغة العبرية – حول الدين، وكتب تاريخ عن الحركة الصهيونية، وأبحاث عن “ارض إسرائيل” لكن صانع إسرائيل ورئيس وزرائها الأول كان أيضاً عالماً لغوياً. هناك ديموستين وهوميروس باليونانية، وكتاب تاريخ من ثلاثة مجلدات عن العالم الهلنستي، و”يوليوس قيصر” بالفرنسية، وLife of Tallyrand (حياة تاليران) لداف كوبر، والأعمال الكاملة لجورج برنارد شو، وكتاب تاريخ عن فرنسا في عهد فيشي، وHitler’s Table Talk (أحاديث هتلر على المائدة) لهنري بيكر (بالإنكليزية)، وفرويد حول البسيكولوجيا (بالألمانية)، وThe Dreyfus Case (قضية دريفوس) لغاي تشابمان، وكتب عن تاريخ إسرائيل (بما في ذلك كتاب من تأليفه)، وسلسلة عن “التأثيرات اليهودية على الحركات الإصلاحية المسيحية”. تعلّم بن غوريون الإسبانية كي يتمكّن من قراءة سيرة جديدة عن سرفانتيس. كان يحب سبينوزا.
ثم هناك الصور الفوتوغرافية. بن غوريون مع ديغول، ومع كينيدي، ومع تشرشل الحزين والواهن عام 1961. أراد بن غوريون قراءة مقال تشرشل شبه المنسي عن موسى؛ الرسالة التي وجّهها تشرشل إليه مرفقة بنسخة من كتاب Thoughts and Adventures (أفكار ومغامرات)، كلاسيكية. كتب تشرشل “لقد أعدت قراءته… ولا أرغب في أن ينطبع في الذاكرة بأنه أحد أعمالي الأدبية”.
لكن مجموعة الاقتباسات المأخوذة من بن غوريون هي التي لفتت نظري: تصاريح عن الأخلاقية الأزلية لدولة إسرائيل، رسائل من الرجل العظيم – الذي كان جسدياً صغير القامة جداً (فتحت الخزانة في غرفة نومه فوجدت سترات وسراويل بمقاس قزم تقريباً) – في زمن الحرب. فعلى سبيل المثال خلال حرب الاستقلال الإسرائيلية – النكبة العربية الفلسطينية –خشي بن غوريون أن تدمّر القوات اليهودية أماكن إسلامية مقدّسة في القدس، فوجّه البرقية الآتية في 15 تموز 1948 “تعقيباً على الأمر الذي أصدرته سابقاً بشأن المدينة القديمة – ينبغي على القوات الخاصة التي ستُعيَّن لحراسة المدينة القديمة أن تستخدم الرشاشات بلا رحمة ضد أي يهودي، ولا سيما جندي يهودي، يحاول نهب أي مكان مقدّس مسيحي أو مسلم أو تدنيسه”. وعام 1967، تفاخر بأنه خلال إنشاء دولة إسرائيل، “لم نلحق ضرراً بأي مسجد”. لكنه كان قد بدأ باختلاق الأساطير. وكتب في البيان نفسه أن المساجد غير المتضرّرة وُجِدت في قرى “ليس فيها مسلم واحد، فجميعهم هربوا خلال الانتداب [البريطاني] وقبل إعلان الدولة…”. وسط الأغراض التي خلّفها بن غوريون مثل نظارته ذات الإطار السميك، وحبر “كوينك” (“حبر أسود لا يُمحى”)، والأطباق ذات النقش الصفصافي، ورسم مارك شاغال الأصلي لعام 1951 الذي يظهر فيه حاخام مع قيثار (harp)، والراديو الترانزستور القديم في السقيفة – من دون أن نذكر ناب الفيل من رئيس الغابون – هناك تأملات حول الأخلاقيات وحول نبل سلاح إسرائيل ونقاوته. “مصير إسرائيل رهن بعاملَين: قوتها واستقامتها”. ومجدداً “لن يُحكَم على دولة إسرائيل انطلاقاً من ثرواتها أو جيشها أو تقنياتها، إنما انطلاقاً من صورتها الأخلاقية وقيمها البشرية”.
خلال الحصار الإسرائيلي الدموي لبيروت عام 1982، وهو حدث شكّل بداية انحدار تلك الاستقامة وتلك الصورة الأخلاقية، صوّر رسم كاريكاتوي لـ”دونسبوري” مؤتمراً صحافياً يسأل فيه مجهول ناطقة باسم الإسرائيليين “ماذا حل بإسرائيل التي كنا نعرفها ونحبها؟” وما هو الجواب الفوري رداً على السائل؟ “قل هذا لغيرنا، ياسر!” ففي ناحية من النواحي، لقد انضم عرفات إلى صنع الأساطير الذي كان يمارسه بن غوريون. في النهاية، انضم حتى إلى العمل على تحقيق السلام مع الدولة التي كانت قد استولت على 78 في المئة من الأراضي التي كان يعتبرها موطنه. كان إرهابياً كبيراً أصبح رجل دولة كبيراً ومن ثم – بعد رفض الإذعان في الاجتماع الأخير في كمب ديفيد – أصبح إرهابياً كبيراً من جديد.
الحقيقة هي أن إسرائيل دمّرت مساجد كثيرة، وأن الضحايا العرب الفلسطينيين الأصليين في حرب 1947-1948 لم يهربوا كلهم، كما لمّح بن غوريون؛ فعدد كبير منهم مثل الرجال والنساء في مجزرة دير ياسين، قُتِلوا في قراهم. بالنسبة إلى بعض من شاهدوا بيننا الجيش الإسرائيلي في ساحة المعركة، إنه مجرد غوغاء، ولا يختلف كثيراً عن الجيوش العربية في الشرق الأوسط. كانت أعداد المدنيين الذين لقوا مصرعهم في غزة مثيرة للغضب بقدر مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982 عندما كان الجنود الإسرائيليون يتفرّجون – بالمعنى الحرفي للكلمة – بينما كانت الميليشيات اللبنانية التي أرسلوها إلى مخيمات اللاجئين تنزع أحشاء المدنيين الفلسطينيين في الداخل. لا يزال الصحافيون الأجانب يثرثرون بشأن النقاوة المزعومة للجنود الإسرائيليين.
كتب أحد هؤلاء الصحافيين، روبرت فولفورد، في “كاناديان ناشونال بوست” في كانون الثاني من العام الماضي، في أوج المجزرة في غزة، حتى عندما أقرّت تسيبي ليفني أنه سُمِح للجنود الإسرائيليين بأن “يجمحوا” – كتب إذاً الحماقة الآتية: “لقد أثبتت إسرائيل أنها الدولة الأكثر ضبطاً للنفس في التاريخ. لقد سجّلت رقماً قياسياً في ضبط النفس”. لا يزال المراسلون اليمينيون في إسرائيل يصفون العالم الخارجي بأنه كوكب مظلم وحاقد حيث ينبع كل انتقاد لإسرائيل من عداء متأصّل للسامية، وحيث لم تمت النازية في جَمر برلين عام 1945. تقرع  صحيفة “جيروزاليم بوست” طبول العنصرية بصورة شبه يومية. “أستاذ الدراسات عن المحرقة في برلين يتعرّض لانتقادات شديدة لأنه دافع عن معلّمه النازي”. “مركز ويزنثال ينتقد بشدّة منح جائزة أوكرانية لقومي مرتبط بالنازيين”. “درشوفيتز: غولدستون خان الشعب اليهودي”.
لا شك لدي في أن الحركة القومية الأوكرانية بزعامة ستيبان بانديرا كانت زمرة مراوغة من العنصريين – وكان أعضاؤها الأوائل بالفعل قتلة معادين للسامية في الحرب العالمية الثانية – لكن أين ينتهي هذا؟ فمركز سايمون ويزنثال – الذي سُمّي تيمناً برجل محترم جداً التقيته ذات مرة في فيينا عندما كان يشن حملة من أجل ضحايا النازيين من غجر ويهود – هو المنظمة نفسها التي تقترح الآن بناء “متحف للتسامح” فوق مقبرة إسلامية قديمة في القدس الغربية. وريتشارد غولدستون المسكين، وهو قاضٍ يهودي ومحترم أيضاً التقيته في لاهاي عندما كان يحقّق في جرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة، هو “خائن” لأنه قال إنه ربما ارتكب الجنود الإسرائيليون جرائم حرب في غزة؛ بعبارة أخرى، كان يجدر بغولدستون – فهذا هو المقصود – أن يسمح لأصوله الإتنية بأن تحكم لمصلحة إسرائيل بدلاً من أن يتقيّد بسيادة القانون.
الأسبوع الماضي [في مطلع شباط]، حضرت في منتجع هرتسيليا الراكد، الجزء الأكبر من المؤتمر الواسع الذي عقده العظماء والأخيار في إسرائيل – أو على الأقل المجموعة المتنوعة اليمينية في معظمها – لمعرفة كيف ينظرون الآن إلى البلاد التي أسّسها بن غوريون قبل 62 عاماً في خضم ذلك الخطر الكبير. وقد تكرّرت القصة نفسها.
“الفلسطينيون هم جبهة الرفض الآن” – هذا الكلام صدر عن “المستشار الأمني” لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، عوزي أراد – وتقرير غولدستون هو جزء من حملة غادرة ضد إسرائيل، في محاولة لـ”نزع الشرعية” (هذا هو الكليشيه الأحدث) عن الدولة. كانت هناك مقاطعات للسلع الإسرائيلية. وأُحرِقت المنتجات الإسرائيلية. قال أراد “لا أعرف أحداً لا تنقلب أحشاؤه” عند رؤية هذا المشهد.
أعلن مايكل هونلين، نائب رئيس مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأميركية الأساسية النافذ جداً، أن “انخراط” أوباما مع سوريا وإيران قد فشل. أظهرت إدارة أوباما “دعماً” في موضوع تقرير غولدستون (أي إنها أظهرت خمولاً جباناً في انتقاد تقرير لم تقرأه حتى). أدرك أوباما أن عليه العمل مع إسرائيل. وكان هناك توافق بالإجماع في مجلس الشيوخ الأميركي حول العقوبات على إيران. لم يأتِ أحد على ذكر المستوطنات أو المستعمرات. تذكّرت ما قالته حنة أرندت بأنه من شأن مؤتمر الفرع الأميركي من منظمة الصهيونية العالمية الذي انعقد في تشرين الأول 1944 أن “يؤيد قيام فلسطين كاملة، غير مقسَّمة وغير منقوصة”. وتابعت “إنها نقطة تحول في التاريخ الصهيوني… هذه المرة لم يأتِ القرار بكل بساطة على ذكر العرب، مما يتيح لهم بوضوح الاختيار بين الهجرة الطوعية أو المواطنية من الدرجة الثانية”.
في نظر أرندت، عكس مؤتمر أتلانتيك سيتي “الأهمية المتزايدة إلى حد كبير جداً لليهودية الأميركية والصهيونية الأميركية…”. وكانت النتيجة خسارة أي فرصة بالتحاور مع العرب، “مما ترك الباب مفتوحاً على مصراعَيه أمام حلول قوة خارجية مكانهم”.
ويستحق الأمر عناء الاقتباس من جديد عن حنة أرندت: “إذا استمر الصهاينة في تجاهل شعوب المتوسط والاكتراث فقط للقوى الكبرى البعيدة، فسوف يبدون وكأنهم أدوات في أيدي هذه القوى، عملاء لمصالح أجنبية ومعادية. يجب أن يعي اليهود الذين يعرفون تاريخهم أن هذا الوضع سوف يؤدّي حكماً إلى موجة جديدة من الكراهية لليهود؛ سوف تؤكّد معاداة السامية في المستقبل أن اليهود لم يستغلوا فقط وجود القوى الأجنبية الكبرى في تلك المنطقة بل خطّطوا له في الواقع ويتحمّلون تالياً الذنب في التداعيات المترتبة عنه”.
في هرتسيليا، بدا وكأنه لا وجود لكلمات أرندت. سمعنا مراراً وتكراراً أن المسؤولين الإسرائيليين قد لا يتمكّنون من السفر خوفاً من ملاحقتهم في تهم ارتكاب جرائم حرب – مما يشير إلى أن تقرير غولدستون فعل فعله. من الواضح أن داني أيالون، نائب وزير الخارجية الإسرائيلي، الذي تصرّف بطريقة عبثية الشهر الماضي وأجلس السفير التركي إلى كنبة منخفضة، اشتم رائحة الهزيمة في رسالة أوباما في القاهرة التي تضمّنت استرضاء للمسلمين وانتقاداً لإسرائيل. فقد قال لنا إن العلاقات الإسرائيلية-الأميركية “لم يسبق أن كانت في حال أفضل”. تعهّد أوباما منح إسرائيل 30 مليار دولار في غضون عشر سنوات، كما أعطت أميركا ضمانات أمنية “مدرَّعة” لإسرائيل. سوف يبلي مناهضو إسرائيل بصورة أفضل عندما “يدرك الجانب العربي أنه ليس هناك وضوح بين إسرائيل والولايات المتحدة”.
أعلن رون بروسور، السفير الإسرائيلي في لندن، أنه في حين كانت بريطانيا تحكم الأمواج من قبل، ها هي الآن تحكم الموجات الهوائية. فساحة المعركة هي الآن في الجامعات البريطانية، في ليدز ومانشستر وكلية الدراسات الشرقية والأفريقية، في مؤسسات تعظ “الطلاب من مختلف أنحاء العالم” الذين يدخلون “طاحونة” يسيطر عليها “اليسار الليبرالي”. أعلن إيهود باراك – ذو اليدين الصغيرتين، لا بل شبه المصغَّرتين، اللتين تلوّحان باستمرار أمام وجهه، إنما صاحب الشخصية المتجانسة بطريقة غريبة، أي من النوع الذي ترغب في أن يجلس بقربك إلى مائدة العشاء – أن إسرائيل “تواجه تهديدات معقّدة من القريب والبعيد”. المقصود بالتهديد “القريب” هو الفلسطينيون، وبالتهديد “البعيد” إيران بالتأكيد.
لا يمكن أن تكون هناك دولة ثنائية القومية – هل رغب أحد في بوسنة أو بلفاست جديدة في الحلم الصهيوني؟ تحدّث باراك، وزير الدفاع ورئيس الوزراء السابق و – الأهم من ذلك – رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، بأسلوب خطابي: “قلت لعرفات… قلت لأبو مازن (محمود عباس) ‘قراراتكم الأصعب يجب أن تأخذوها مع شعبكم، لا مع نتنياهو’…”. واقتبس عن باربرا توشمان عبارة “استبداد الظروف”، وعن روبرت فروست قوله إن “السياج الجيد يصنع جيراناً جيدين”، كما اقتبس عن تشرشل قوله “المتشائم يرى صعوبة في كل فرصة”. ثم جاء دور سلام فياض، رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، الذي يبدو أنه اعتقد أنه سيشارك في نقاش بدلاً من أن يلقي خطاباً. وقد طالب بوضع حد لبناء المستوطنات – لم يستعمل كلمة “استعمار” – ولـ”التوغّلات” الإسرائيلية ولم يأتِ مطلقاً على ذكر كلمة “حماس”. وفياض هو رجل مطيع وصالح، يستطيع الإسرائيليون أن “يتعاملوا” معه لأن “يداً واحدة لا تصفّق”، كما يردّد باراك وأصدقاؤه في الحكومة الإسرائيلية على مسامعنا باستمرار.
وظهرت تسيبي ليفني لتقول لنا إنه في الأعوام الأربعين الماضية “خُلِق واقع معيّن على الأرض” – قصدت بذلك المستوطنات – “لا يأخذ سوى القليل جداً من مساحة يهودا والسامرة”. كان هذا استثنائياً. زعيمة المعارضة الإسرائيلية تعتبر أن استعمار الضفة الغربية “لم يأخذ سوى القليل” من الأراضي. وبما أن المنطقة “ج” – الجزء الذي تحتله إسرائيل في الضفة الغربية – ضاعت أصلاً، لا يبقى لفياض ورفاقه في “السلطة” سوى أقل من عشرة في المئة من الأراضي التي كانت تتشكّل منها “فلسطين” في مرحلة الانتداب. وقد عارضت ليفني أيضاً “الدولة الثنائية القومية” معلّلة ذلك بالقول “أشك في أن يتمكّن اليهود من العيش في تلك الدولة”. أظن أن تسيبي ليفني محقة في ذلك، لكنها أضافت أن “لا أحد سيرغب في تسليم مفاتيح دولة فلسطينية إلى حماس”. هذا صحيح جداً. لكن ألا يقع على عاتق الفلسطينيين لا إسرائيل، انتخاب قيادتهم؟ المايجور جنرال بيني غانتز هو الذي أدهشني. بيني هو النائب العسكري لرئيس الأركان في إسرائيل – وكل من يعيش في هذا “المحيط الصعب” (أستعير عبارة باراك) يأخذ أمثال بيني على محمل الجد إلى حد كبير.
أعيش في لبنان الذي تزوره القوات الجوية الإسرائيلية بانتظام، ولذلك نظرت إلى هذا الضابط الأنيق والنحيل – ذي الشعر الذي بدأ يخطّه الشيب وغُرّة يوليوس قيصر – بقلق شبه قاتل. فقراراته – وعلى الأرجح أنه سيكون رئيس الأركان المقبل في إسرائيل – قد تكلّفني أو تكلّف أياً كان في لبنان، غالياً جداً. كانت حرب غزة التي يطلق عليها معظم الإسرائيليين اسم “عملية الرصاص المصهور”، وكذلك “حرب لبنان الثانية” – في إشارة إلى النزاع مع “حزب الله” عام 2006 والذي كان في الواقع حرب لبنان الخامسة التي تخوضها إسرائيل (الحروب السابقة وقعت في الأعوام 1978 و1982 و1993 و1996) – جزءاً من “عملية تعلّم” خضعت لها إسرائيل وأعداؤها. كان واضحاً أن إيران هي هدف بيني الأول.
قال إن إيران “تواصل تطوير مشروعها النووي”، وإن إسرائيل تراقب “قدراتها النارية المخضرمة… والتمارين والتدريبات والمناورات” والتأثير “الانتشاري” لهذا كله على “المنظمات الإرهابية”. لم تستطع إسرائيل تجاهل هذا الوضع. “يجب أن نكون مستعدين… لكن بالتأكيد لن أتوسّع في هذه النقطة”.
بالفعل، لن يرغب بيني في التوسّع في هذه النقطة – أي شن هجوم إسرائيلي على المنشآت النووية الإيرانية – التي لا تشكّل كابوساً للشرق الأوسط وحسب إنما أيضاً لإدارة أوباما. لكن في المواضيع التي تحدّث فيها بصراحة، أصاب الهدف إلى حد كبير. لا يحصل “حزب الله” اللبناني على أسلحة مهرَّبة وحسب. “ليس هذا ‘تهريباً’ بل إنه نقل حقيقي للسلاح”. وقال إن هذه الأسلحة الجديدة تُنشَر في قرى سوف تصبح قواعد لشن عمليات في حرب مستقبلية. وسوف تُحمَّل الحكومة اللبنانية – التي تضم وزراء من “حزب الله” – المسؤولية. هكذا وصف بيني غانتز المذبحة المقبلة في الشرق الأوسط؛ إذا كان فلسطينيو غزة مسؤولين عن حمام الدماء قبل عام – هذا ما يقوله الإسرائيليون – فسوف يكون اللبنانيون مسؤولين عن حربهم المقبلة.
بالفعل، سوف يدفعون الثمن. وفي حال ظنّ أحدنا أن حرب غزة قد تجعل الجنرالات الإسرائيليين يقلقون قليلاً بشأن توقيفهم بتهمة ارتكاب جرائم حرب خلال تمضيتهم العطلة في أوروبا، فقد قال المايجور جنرال غادي إيزنكوت، قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي، أمام مؤتمر في تل أبيب إن لإسرائيل الحق “المعنوي” بأن تشنّ هجوماً غير متكافئ على “معاقل” “حزب الله” في القرى اللبنانية. ولمّح إلى أن 160 قرية شيعية في المنطقة الخاضعة لسيطرة الأمم المتحدة هي الآن عبارة عن مستودعات لتخزين الأسلحة – وهذا مجافٍ للحقيقة بصورة ملموسة، كما تعلم الأمم المتحدة – وإلى أن القرى الواقعة أكثر نحو الشمال تُحوَّل “ساحة معركة”، وهذا أقرب بكثير إلى الحقيقة.
لكن أليس هناك بلد آخر في الشرق الأوسط يحصل على “نقل حقيقي للأسلحة”؟ ألم يعلن نائب رئيس “لوكهيد مارتن” الشهر الماضي – وفي البحرين تحديداً – أن شركته تأمل في توقيع اتفاق مع إسرائيل لتزويدها بمئة مقاتلة “إف-35” جديدة لتحل مكان مقاتلات “إف-16” التي ألحقت أضراراً كبيرة بغزة؟ وأضيف أن باتريك ديوار أمل في بيع مزيد من هذه الطائرات لبلدان الخليج – أي السعودية – مع أنها لن تكون مجهّزة بالتأكيد بالقوة الهجومية المتطوّرة جداً التي تتمتّع بها الطائرات التي تباع لإسرائيل. وإسرائيل نفسها تصنع مزيداً من دبابات “ميركافا” وناقلات الأشخاص المدرّعة من طراز “نامر”، وتستكمل سرباً جديداً من طائرات “هيرون” غير المأهولة إنما التي تطلق صواريخ ويبلغ باع جناحها 26 متراً – كما في طائرة “بوينغ 737” – وأقصى ارتفاع لها 45 ألف قدم، كما تشتري طائرات “سي 130 هرقل” جديدة، وتعمل على تحسين مروحيات “أباتشي” بواسطة إمكانات رادارية واستهدافية متقدّمة جديدة.
لكن مؤتمر هرتسيليا كان في نهاية المطاف تكراراً للقصة القديمة نفسها. إسرائيل محاطة بأعداء، وهي دولة صغيرة وهشّة – وكأنه لا وجود لرؤوسها الحربية النووية التي يُقدَّر عددها ب264 – تتعرّض للهجوم من العالم لأنها تجرؤ على الدفاع عن نفسها.
في القدس، كان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يشرب نخب ذلك النذل، سيلفيو برلوسكوني، الذي كان قد أعلن “حلمي الأكبر هو ضم إسرائيل إلى بلدان الاتحاد الأوروبي”. وقال إن إسرائيل وإيطاليا فخورتان بأنهما جزء من ثقافة يهودية-مسيحية هي أساس الثقافة الأوروبية. كان هذا مبالغاً فيه بعض الشيء. كان الحكم الروماني الاستعماري في يهودا والسامرة محطة همجية في التاريخ اليهودي، ولم يُذكَر حاكم إيطاليا الفاشي – الذي يتشارك معه برلوسكوني أحياناً شبهاً جسدياً مثيراً للدهشة.
وصف نتنياهو رئيس الوزراء الإيطالي بـ”القائد الشجاع الذي هو نصير عظيم للحرية وداعم عظيم للسلام”. كان هذا شبيهاً بعض الشيء بمؤتمر هرتسيليا: ملحمة في خداع الذات.
هناك قاسم مشترك بين سيلفيو برلوسكوني وبيني: كلانا نحب ذلك الفندق الممتاز، فندق الملك داود، فموظفوه هم من الأكثر تهذيباً ووداً في العالم. لا أقول هذا فقط لأنهم كانوا يسمحون لي باستخدام الكمبيوتر المحمول الخاص بهم في غرفة الاستقبال عندما يغلق الوسط التجاري أبوابه يوم السبت، بل لأن رئيس المحاسبة الملتحي سألني ذات مرة إذا كان يشبه عناصر “حزب الله” (وقد أجبته بالإيجاب). حتى إن الفندق أنتج شريط فيديو يعرض بتباهٍ كيف فجّره شخص أصبح لاحقاً رئيساً للوزراء – مناحيم بيغن (حيث لقي 92 بريطانياً وعربياً ويهودياً مصرعهم). لكنني أجد الآن كتيباً جديداً في غرفتي بعنوان Jerusalem – Step by Step (القدس – خطوة خطوة) لباتيا وأفيغدور كورنبويم، ينتقد الفنادق الأخرى. وقد ورد فيه عن فندق “أمريكان كولوني” في القدس الشرقية: “قد يتبيّن أن قربه من المسجد والمؤذّن الموجودَين في الجوار هو أمر مثير للإزعاج”.
حسناً، أجل، أظن أن هذا قد يكون “مثيراً للإزعاج”، على غرار تلك المآذن المزعجة التي قرّر السويسريون عن حق الاعتراض عليها. أو الجدار – الأطول والأعلى من جدار برلين، فلنسمِّه إذاً الجدار – الذي ينساب كما الأفعى عبر الضفة الغربية المحتلة ويسرق مزيداً من الأراضي العربية ويضمها إلى إسرائيل. صحيح – هذا واقع – أنه أدّى إلى خفض عدد الانتحاريين في إسرائيل، لكنه مثير للغضب، فهو غير قانوني دولياً كما أنه ندبة قبيحة ومغشية للبصر على وجه الأراضي المقدّسة. وصحيح أن العثمانيين بنوا جدراناً حول القدس، تماماً كما بنى البروتستانت جدراناً حول مدينة ديري، غير أن هذا الجدار ورم غريب، فهو ليس دملة الأمير تشارلز على وجه صديق محبوب، بل هو جدار غيتو كبير جداً. لكنني لست واثقاً من هو داخل الغيتو، هل هم الفلسطينيون أم الإسرائيليون. إلا أنه نصب للفشل، إثبات حاسم على أنه لا سلام في الشرق الأوسط. بالفعل، إنه إثبات على أنه لن يكون هناك سلام بين “فلسطين” – غير الموجودة، كما نعلم جميعنا – وإسرائيل.
توجّهت إلى بيت لحم، إلى المنطقة “أ” التي تسيطر عليها – هذا إذا كان لهذه العبارة مغزى في الشرق الأوسط – “سلطة فياض الفلسطينية”، وهناك، في المقهى البائس خلف كنيسة المهد وجدت صلاح التعمري، الحاكم السابق لهذه البلدة الصغيرة (لم يعد حاكماً لها لأسباب يلفها الالتباس)، وفي حياة سابقة، رئيس 12000 سجين في معتقل أنصار الشهير في لبنان. التقينا من قبل – مع أنه لا يتذكّر – وقد أقام التعمري صداقة عام 1982 مع قائد المعتقل الإسرائيلي، الكولونيل مير روزنفلد، الذي كان يعيش في الناصرة (يصر أصدقاؤه الإسرائيليون على أنه لا يزال على قيد الحياة)، وكان “رجلاً شجاعاً ومستقيماً – لقد ماتت عائلته في أوشفيتز”. المحرقة جزء من قواعد اللغة في إسرائيل. أخبرنا غانتز أن والدته التي توفّيت قبل ثمانية أشهر، هي من الناجين من المحرقة. “عندما سقط صاروخ قرب منزلها [خلال حرب غزة]، قالت لي عبر الهاتف: ‘لا تكفّوا عن إرسال الطعام لهم – لكن لا تكفّوا عن قتالهم”.
وتذكّرت والدتي (التي لم تكن من الناجين من المحرقة لكنها انضمت إلى القوات الجوية الملكية عام 1940) التي طلبت مني خلال الحصار الإسرائيلي لبيروت عام 1982 أن أبقى في المنطقة الغربية من المدينة، لأنه إذا غادر الصحافيون العاصمة اللبنانية – كما كان الإسرائيليون يصرون – فسوف يتيح ذلك للجيش الإسرائيلي قتل مزيد من المدنيين. أظن أن أمي كانت محقة. وبيني غانتز اعتبر أن أمه كانت محقة. لكن لنعد إلى صلاح التعمري. قال لي “ليس أوباما سلطاناً في واحة معزولة ومهجورة. لا يمكنه السير عكس الإستابلشمنت. هل يمكن أن تنضج “حماس” و”فتح”؟ النضوج يعني الابتعاد عن البراءة. أنا ضد “حماس”، أيديولوجياً وفكرياً… لقد أداروا ظهرهم لإرثهم كفلسطينيين. ظنوا أن بإمكانهم تحويله حكما إسلاميا. أنا أؤيّد الانتخابات. فلتحكم “حماس” إذا استطاعت ذلك. بصفتي عضواً في “فتح”، لقد طالبنا دائماً بحل الدولة الواحدة حيث نعيش مع الإسرائيليين مع التمتّع بحقوق متساوية في دولة ديموقراطية واحدة. أظن أنه أمر محتوم، ربما بعد خمسين أو مئة عام. السلام محتوم. أعرف أن الإسرائيليين يفقدون صوابهم عند الحديث عن حل الدولة الواحدة. لكن ذات يوم قد يأتون إلينا ويقولون ‘لنوقف هذا النزاع الدموي. لنعش معاً’. حل الدولتين لا يعمّر طويلاً”.
أتأمّل في هذه الفكرة. لا أؤمن بحل الدولة الواحدة. أظن أن ليفني محقة في هذا الشأن. لكن ميرون بنفنيستي يقول في صحيفة “هآرتس” إن “الوجود المصطنع للدولة الفلسطينية في ذاته يؤدّي إلى إطالة أمد الاستاتيكو لأنه يعزّز الوهم بأن الوضع موقّت وبأن ‘عملية السلام’ ستضع حداً له قريباً”. ويتابع بنفنيستي أنه تم فعلياً ضم نصف الضفة الغربية المحتلة “مما يترك السكان الخاضعين للاحتلال مع أراضٍ غير مترابطة ومن دون وجود قابل للحياة. التفسير الوحيد للمشروع الاستيطاني الكبير والاستثمارات الطائلة في المساكن والبنى التحتية التي تُقدَّر بمئة مليار دولار هو وجود استراتيجيا لإرساء حكم دائم”. صحيح أن المشروع الاستعماري الضخم – يكفي النظر إلى الأراضي الشاسعة التي تؤخَذ من الفلسطينيين وتعطى لليهود، واليهود فقط، كي نفهم هذا الأمر – دائم. هذه هي “الوقائع على الأرض”. يتجاهل بنفنيستي فكرة أن كندا وسويسرا فقط أثبتتا أنهما قادرتان على إنجاح النموذج الثنائي القومية. يريد حدوداً داخلية “ناعمة”، كما في الدول الفيديرالية والكونفيديرالية.
لجأت إلى التعمري كي ينقذني من هذه الحجة. قال “أنا من بيت لحم. يعني هذا شيئاً. يعني إيماناً عميقاً بحتمية السلام والعدالة. أعتقد أن تركيزنا يجب أن ينصب على وحدة مجتمعنا… علينا تمكين مؤسستنا المدنية وعلينا أن نكون جزءاً ناشطاً في مجتمعنا البشري”. يقول التعمري إن إسحق رابين قُتِل بسبب معارضته للمستوطنات اليهودية، وإن التفجيرات الانتحارية التي ينفّذها الفلسطينيون جعلتهم خاسرين على الصعيدَين الإسرائيلي والدولي. ويضيف “كنت جزءاً من السلطة الفلسطينية… الآن نبلي جيداً، لكن لا يمكننا أن نبني سلطتنا في ظل الاحتلال، بوجود 11000 شخص في السجن”. ينظر التعمري إلى البعيد. ويتحدّث عن معتقل أنصار والجرافة الإسرائيلية التي قطعّت أوصال أربعة سجناء كانوا يختبئون في المعتقل. يقول “لم يكن هناك مخبرون في المعتقل. أصدرت بياناً قلت فيه للسجناء إنه إذا كانت لديكم أي معلومات عن أي سجين، يجب أن تُعلموا قيادتنا”. لكن معتقل الأنصار اشتهر بمخبريه. التقى التعمري جون لو كاريه في صيدا في كانون الأول 1981 وأخبره “الجانب الآخر من القصة”، كما يقول. لكن ما هو “الجانب الآخر”؟
تجوّلت في المنطقة “ج”، هذه المنطقة الشاسعة – أكثر من 60 في المئة – من الضفة الغربية التي خسرها الفلسطينيون، ونظرت إلى الجدار. يتسلّل عبر بساتين الفاكهة، وعبر القرى، وفوق الهضاب مثل وحش، ضرب احتيال، إدانة كبيرة للإخفاق السياسي. هل وُجِد ليبقى؟ أم أنه موقّت، كما يزعم نتنياهو؛ مما يعني أنه قد ينتقل أكثر نحو الشرق، نحو نهر الأردن لا بعيداً عنه؟ وتوجّهت إلى غزة. إنها سيئة بقدر ما يقولون. تنزلق المدارس والفنادق والشركات إلى نظام حماس “الإسلامي”. نساء محجّبات، تعليم متشدّد للأولاد في المدارس، لا نقاش سياسيا جدّي. عندما سلّمت جواز سفري للسيدة من حركة “حماس”، لفت نظري التحذير المعلّق على الجدار وراءها: “بناءً على تعليمات وزارة الداخلية يحظر كل أنواع الكحول (كُتِبت هذه الجملة بالأحرف العريضة بالإنكليزية)، تُصادَر على الفور وتُتلَف وتُراق محتوياتها أمام أصحابها”. يا إلهي! فلسطينيو غزة محاصَرون؛ إنهم يخضعون للعقوبات الأكثر فظاعة؛ عليهم بناء منازلهم من الطين. ويهدّدون الكفّار بإتلاف الكحول؟ أمام عيون أصحابها؟ هل فقدت “حماس” بوصلتها الأخلاقية؟ أم أن هذا جزء من القانون المعتوه الذي يجب أن نؤمن به الآن؟
في غزة، وجدت فلسطينيين يعيشون في خيم قرب منازل دُمِّرت في الحرب قبل عام، وآخرين يعيشون في منازل من الطين بنتها الأمم المتحدة. حيّتني عائلة وسط بركة من المياه والوحل، وكانت المرأة تخوض في القذارة في حذائها البلاستيكي. فعائلتها المؤلّفة من 11 ولداً فقدت منزلها بسبب مالك أراضٍ جشع أراد الحصول على مزيد من المال؛ ليس هؤلاء ضحايا حرب بل إنهم لاجئون من المجتمع. كانوا بدواً. بالفعل، قدِمت عائلتهم، آل مغاصب، من قرية قرب بلدة سديروت الإسرائيلية – أجل، تلك القرية الصغيرة التي تحبّها صواريخ “حماس” كثيراً، واسمها الأصلي دير البلح على الرغم من أننا لا نأتي على ذكره الآن – وقبل النكبة، كانوا يعيشون هناك، في خيمة. في خيمة قبل أن تحل الكارثة بهم، وفي خيمة بعد حرب غزة. عدت إلى السيارة وأنا أشق طريقي في الوحل، لكنني كنت على موعد مع وكيل وزارة الخارجية لدى “حماس”، أحمد يوسف. أثار حذائي قلق سائقي أشرف. فغسل الفردة تلو الأخرى بواسطة خرطوم مياه في مرأب، ثم نظّف المطاط في أرضية السيارة.
وعندما وصلنا إلى منزل أحمد يوسف، “بيت الحكمة” – ويمكن ترجمتها أيضاً “بيت التأمل” – فهمت السبب. تُخلَع الأحذية عند الباب. الأريكة والوسائد ناصعة، والأرض الرخامية خالية من أي بقعة. يجب ألا يلطّخ الوحل من خيمة آل مغاصب هذا المكان. وكان نبيل شعث، ابن السلطة الفلسطينية، هناك في زيارة. تحدّثا عن رفع العقوبات وإعادة إعمار غزة (إنهما يحلمان!) وعن استعداد “حماس” للسماح للفلسطينيين الموالين للسلطة بالعودة “إلا إذا كانوا متورّطين في صدامات دموية”. يا للغرابة. يرفض الإسرائيليون الإفراج عن السجناء الفلسطينيين الذين “تلطّخت أيديهم بالدماء”. والآن تستعمل “حماس” المصطلحات نفسها في الحديث عن أعدائها. هذا أشبه بمطالبة الحكومة الإسرائيلية بأن تنزع الحكومة اللبنانية سلاح “حزب الله” – وهي فكرة من شأنها أن تقسّم الجيش اللبناني وتؤدّي إلى اندلاع حرب أهلية جديدة. تماماً كما يطالب الفلسطينيون بتفكيك كل المستعمرات اليهودية في الضفة الغربية – الأمر الذي لن تفكّر فيه الحكومة الإسرائيلية خوفاً من الحرب الأهلية بالذات. لدى “حزب الله” والمستوطنين قواسم مشتركة أكثر مما يدركون (وكما يعلم على الأرجح رئيس المحاسبة في فندق الملك داود).
ترتسم ابتسامة عريضة على شفتَي يوسف. أجل، يستطيع محمد دحلان، مسؤول الأمن في منظمة التحرير الفلسطينية الذي تكرهه “حماس”، أن يعود إلى غزة – لكن يجب أن يستخدم عناصر الأمن التابعين لحركة “حماس” لحمايته. أراد أن يعود مع حمايته الخاصة – لكنهم لم يستطيعوا تقبّل ذلك. “لم يوافق على أن تتولى حماس حمايته أمنياً. أراد أن تهتم فصائل سياسية أخرى بأمنه”.
سألت عن قتل “حماس” للمتواطئين خلال حرب غزة قبل عام. لقد قتلوا 35 فلسطينياً، أي حوالى ثلاثة أضعاف عدد الإسرائيليين الذين لقوا مصرعهم في الحرب. يثير هذا بعض الخوف لدى يوسف. قال إن الشرطة والسلطات الأمنية تعرّضت لهجمات. أراد أفراد الانتقام لمقتل أحبائهم. وفي بعض الحالات، انتظروا في منازل المتواطئين لقتلهم. يقول “الثأر جزء من ثقافتنا هنا. في غياب القانون والنظام، يطبّق الناس أحياناً القانون بأنفسهم”.
هذا استثنائي. وكيل وزارة الخارجية لدى “حماس” يقول لي إن الثأر هو جزء من “الثقافة” الفلسطينية. لكنه يعود فيتكلّم عن التفاوض مع الإسرائيليين – وهذا بالتأكيد ما فعلته “حماس” قبل أن تصبح “مركز الإرهاب العالمي”. يقول يوسف “يأخذك الإسرائيليون دائماً إلى هذه الغرفة الكبيرة من التفاؤل. لكن سرعان ما تكتشف أن هناك بعد الضوء في آخر النفق نفقاً آخر ثم ضوءاً، ثم نفقاً تلو الآخر”. وهل باستطاعة طوني بلير المساعدة؟ وهنا راودني شعور بأنني قد أتعاطف مع يوسف – وهذا ما حصل بالفعل. قال “إنه رجل منافق جداً. يقول شيئاً اليوم، وفي اليوم التالي يقول شيئاً آخر”. هذا هو فعلاً الرجل الذي شاهدناه يتكلّم أمام لجنة تحقيق شيلكوت قبل بضعة أيام.
وبالتأكيد، يتلخّص ذلك كله بالآتي. النزاع العربي-الإسرائيلي هو نزاع على الأرض. إنه نزاع على المستعمرات والجدران والدول الثنائية القومية والدولتين و-في نهاية المطاف – حول من يملك السلطة. الإسرائيليون مع الأميركيين، داعميهم الأزليين؟ أم الفلسطينيون المقسَّمون والغارقون – في غزة على الأقل – في الفساد والمحاباة إلى درجة ميؤوس منها؟ الأنفاق التي تمدّ غزة بمتطلّبات العيش تسيطر عليها “حماس” التي تستحوذ على صفوة الإمدادات بهدف تحقيق الأرباح.
لكن ماذا عن كراهية الروح؟ ذهبت إلى الخليل ورأيت الكلمات التي كتبها المستوطنون اليهود للسياح الأجانب على الجدران “التوراة، لطف وسعادة”. ثم في الناحية الأخرى من الطريق، في المكان الذي يُطرَد إليه الفلسطينيون ولا يغامر السياح بدخوله، هناك كتابات أخرى على الجدران. فقد كُتِب بالعبرية “هذا المكان للعرب”. ورُسِم خنجر تحت العبارة. القوة والاستقامة، الصورة الأخلاقية والقيم البشرية. كيف كان بن غوريون ليتصرّف؟
“الإندبندنت”
ترجمة نسرين ناضر

(•) تنشر “قضايا النهار” العنوان والمقدمة كما وردا حرفيا في “الاندبندنت”
(مراسل صحيفة “الإندبندنت” البريطانية في الشرق الأوسط )
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى