لم نفعل شيئا، فَلِمَ العفو؟
المحامي أحمد المهندس
تسع سنوات في الجحيم امتدت دقائقها و ساعاتها وأيامها فتجاوزت حدود الزمان بثقلها ووطأتها فغدت أحقاباً و أحقابا.
كنت فتى في الخامسة عشر من العمر في المرحلة الثانوية عندما داهمت أجهزة المخابرات منزلي في الساعة الواحدة بعد منتصف ليل شتاء قارص، موكب حافل من السيارات الأمنية عناصر أشداء مدرعين مسلحين بكامل العتاد الشخصي والأسلحة الفردية والرشاشة.. لم أكن لأعلم بأن جبهة الجولان وسفوح جبل الشيخ تقع قرب سريري وطاولتي وكتبي ودفاتري و أقلامي وألواني….
تعزيز مملكة الخوف والرعب والصمت و استمرارها ودوامها وبقائها إلى الآن لم يكن ليتحقق لولا ممارسات زوار الليل والاعتقال التعسفي والقمع والقتل و الترهيب والذي نال الكبير والصغير ليبث الرعب والخوف في النفوس والقلوب وقد كان لهم ما كان، واستتب لهم الأمر على ما هو عليه الآن .
تعذيب وتنكيل لا لشيء سوى لأنك أصبحت معتقلا… قتل ودماء ودماء … كانت هذه ديدن سنوات السجن الطوال ..
أهوال وآلام وأمراض كانت من نصيب من كتبت له الأقدار أن يبقى على قيد الحياة … عشرات المرات شارفت فيها على الموت مبتسماً لعلها تكون لحظة الخلاص … ولكن إرادة الله شاءت أن أبقى لأكتب هذه السطور و أخط هذه الكلمات ….
بعد تسع من هذه الأحقاب تم نقلي إلى فرع المخابرات الذي قام باعتقالي وقد تعرضت للصفع والشتم وتم وضعي في زنزانة وكأنه اليوم الأول في الاعتقال , بعد يوم وليلة حالكة الظلام فتحت بوابة الزنزانة وأحضرت إلى مكتب رئيس فرع المخابرات كان والدي الذي لم تنل من صلابته غوغائية النظام و ترهيبه و الذي لم أره منذ اعتقالي ، كان جالسا في انتظاري بكل هدوء ورباطة جأش ، عندما دخلت الغرفة قال رئيس الفرع مخاطباً والدي: (هَي الرئيس عفا عنه) .
قفلت له وبصيغة الاستفهام : (ليش شو ساويت ليعفي عني..)
قال رئيس الفرع: (خلص، المهم الرئيس عفا عنك، وطلعت ..)
أردت بكلماتي أن يعلم والدي بأني لم أفعل شيء لأبتعد عن أسرتي ومدرستي وأصدقائي هذه السنوات الطوال ، أردت أن أعلنها صارخة بوجه سجاني ، أردت أن يعلم والدي ببراءتي قبل أن أقبل يده التي حرمني من عطفها وحنوها هذا النظام عبر عقد من الزمان …
أن تخرج من المعتقل بعفو رئاسي كونك مصاب بمرض عضال .. لمرض أصبت به داخل السجن نتيجة القهر و التعذيب و التنكيل الذي كان يمارس بشكل يومي ومنهجي على المعتقلين, عفو كان عن جرم لم أرتكبه ولم تنص عليه قوانين الأرض ولا السماء، عفو يدعو إلى التعجب ويثير التساؤلات.
وما أشبه اليوم بالأمس لقد كان اعتقال الأستاذ هيثم المالح والأستاذ مهند الحسني ومعتقلي الرأي الآخرين رسالة لذوي الشأن بأن سياسة النظام لم ولن تتغير مادام قائما فالاعتقالات والترهيب والوعيد ستنال كل من يفتح فاه بمطالبات الإصلاح سواء الطفل الصغير وحتى الشيخ المسنّ الكبير.
فلا مجال لسماع مطالبات محلية أو دولية حقوقية أو إنسانية باحترام حقوق الإنسان ولا مكان لإصلاحات سياسية أو تشريعية ولا لتنفيذ اتفاقات ومعاهدات صادقت عليها سوريا بمقتضى المواثيق والأعراف الدولية.
والآن الكل يسأل عن صدور العفو … من يعفو وعن من …
أعفو عن أشراف وحرائر ومناضلي سوريا…
أعفو عن معتقلي الرأي والضمير والحق والحرية في سوريا…
أعفو عن القاضي الأستاذ المحامي هيثم المالح الزميل الفاضل شيخ أحرار سوريا ومناضليها …
إنه صورة لشهيد سوريا الأكبر يوسف العظمة رمز الاستقلال والحرية والتضحية في رفضه الخنوع للظلم والاستبداد, فلم ترعب الأستاذ هيثم المالح معتقلات النظام ولا الزنازين وقد خبرها مرارا…
إنه رمز التضحية والوحدة الوطنية في علاقاته الوثيقة وصدقاته مع كافة إثنيات المجتمع وأعراقه ودياناته وطوائفه.
إنه مثال للعدالة والقانون في نزاهته في تضحياته في حبه لوطنه وأبناء وطنه وأرض وطنه.
قي الثمانين من العمر يقدم ويبذل ويضحي بكل ما يملك من أجل أن يعيش المواطن السوري في ظل دولة القانون دولة العدالة والمساواة.
يعاني الألم في جسده ولكنه يرسم الأمل من خلال تضحياته من أجل مستقبل لابد لأن يشرق في سماء سوريا الحرة.
ربما يستطيع السجان أن يحرمه من الدواء ولكن لم ولن يستطيع أن يمنعه من أن يحلم بالحرية له ولأبناء وطنه وشعبه.
ربما يستطيع السجان أن يغتال جسده الواهن ولكن روحه الطاهرة ستبقى خالدة مغردة بالحرية مادامت السماوات والأرض تلهم الأجيال من بعده…
استميحك عذراً أيها الشيخ المناضل في سبيل نصرة الحق والمواطنة وشرعة حقوق الإنسان…
استميحك عذراً أيها المعلم فليس بنو إسرائيل وحدهم من يقتلون الأنبياء ومن آمن بهم…
استميحكن عذراً يا حرائر سوريا الأبية فقد ماتت النخوة العربية …
استميحكم عذراً يا معتقلي الرأي والضمير والحرية ….
استميحك عذراّ وألف عذرٍ وعذر…
استميحكم عذراً ومغفرة وعفوا ….
فإننا لم نستطع أن نرفع الظلم عنكم …
كاتب المقال : المحامي أحمد المهندس ــ معتقل سابق ــ عضو جمعية حقوق الإنسان ــ سوريا
خاص – صفحات سورية –