سكان الجولان المحتل… وحق المواطنة
د. سميح الصفدي
باستثناءات قليلة ومحددة يمكن القول أن نضالات سكان الجولان ضد الاحتلال كانت مرادفة دوماً لـ “مقاومة الإغراءات”. وفي هذا يمكن استثناء شبكة المقاومة اوائل أعوام الاحتلال والحركة الأسيرة منذ منتصف الثمانينات وبعض المبادرات المتفرقة التي تجاوزت أو رفعت سقف النضال الشعبي ودفعت ثمن نضالاتها أسراً وسجناً أو استشهاداً.
ولا يستثنى من فضيلة “مقاومة الإغراءات” تلك الإضراب الكبير عام 1982 والذي جاء رفضاً لامتيازات “المواطنة” التي كانت “ستؤمنها” الجنسية الإسرائيلية للمواطنين المحتلين بعد فترة حكم عسكري قاسية، حتى الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال والتي كان الاحتلال يأمل في فرضها على سكان الجولان لا تشذ كثيراً عن هذا الحكم، فبوجه من وجوهها (دون نفي الوجوه الأخلاقية الأخرى للموضوع) تشكل الخدمة في جيش الاحتلال وملحقاته إغراءً مادياً، ولا ننسى أن نسبة كبيرة من العائلات العربية الدرزية في الجليل والكرمل ونسبة أقل من الطوائف العربية الأخرى في الداخل الفلسطيني عموما يعتمدون في دخلهم الأساسي على رواتب الجيش وخدمات الأمن والشرطة وحرس الحدود وغيرها من الوظائف.
إذن فخيار رفض الإغراءات كان بجوهره خياراً لرفض المحتل، وهو يرتكز بالتالي على مرتكزات أخلاقية وعقلانية، وعلى حالة وعي وطني نادرة ارتضت “الخسارة الآنية” مقابل الحفاظ على هويتها وانتمائها وكرامتها ومصالحها العليا… وذلك بفعل ضمير وطني صادق صنعته طليعة مناضلة منذ أوائل الاحتلال وشكلت الرافعة للعمل الوطني منذ أيام الإضراب الكبير عام 1982.
لكن.. لم يعد خافياً على أحد أن هذا الوعي وهذا الالتزام الأخلاقي قد بدأ يترنح في السنوات الأخيرة، وذلك طرداً مع تردي الأوضاع الاقتصادية لسكان الجولان السوريين وتراجع مدخولاتهم من الزراعة والتي شكلت حصناً منيعاً حتى نهاية التسعينات من القرن الماضي، كذلك مع تنامي عدد السكان والنمو النسبي الهائل في عدد الأكاديميين وبالتالي نمو قطاع الوظائف والخدمات المرتبط قسرياً بالدولة المحتلة ومؤسساتها، زد على ذلك الانتصار البديهي لصالح قيم حديثة وعلى رأسها “المنفعوية” و “الاستهلاك” مقابل ذبول قيم تقليدية مثل مفاهيم الصمود والكرامة والحفاظ على العرض والأرض والهوية.
ومع هذا التهاوي عادت الإغراءات الإسرائيلية لتفرض نفسها بقوة على الساحة الجولانية متلبسة ثياب البراغماتية والعملانية.. “الخدمات” و “تحقيق الأحلام” و “توفير الفرص” على الأخص للأجيال الشابة، كما بدأت الدعوات لإنهاء ملف “الجنسيات الإسرائيلية” وحل مسألة المقاطعة الدينية والاجتماعية التي فرضت على المجنسين منذ عام 1982، وبدأنا نسمع الدعوات لشرعنة المجالس المحلية والتصالح معها وربما انتخابها في المستقبل القريب.
ورغم أن في هذه الحاجات والمطالب والقضايا جزء ليس باليسير من الضرورة إلا أن أول ما تتطلبه هو وجود حركة وطنية قوية وواثقة.. ذلك حتى يعود المجنسين للمجتمع (إذا عادوا) بشروط هذا المجتمع لا بشرطهم أو بشرط واقع الاحتلال، وحتى نصل الى صيغة وطنية مقبولة لآلية التعامل الضروري مع المجالس المحلية أو سواها..
والحال أن الحركة الوطنية المحلية اليوم تخوض معركة غير متكافئة أمام هذا المد المنفعي، حيث تتحول القيم والمثل والأخلاق إلى “لغو” أمام قيمة المصلحة الآنية.. وحيث تتحول بعض المؤسسات والتجمعات المحلية إلى شلل من المنتفعين على ظهر التضحيات والأمجاد الوطنية الماضية.
ويبقى خيار التضحية هو خيار أصحاب الضمائر الوطنية الحية مقابل انعدام الوضوح وضبابية مشاريع الدعم الوطني الحقيقي والتي باتت من الضرورة في منتهاها. ويبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى أن القابض على المبادئ كالقابض على الجمر..
من هنا يستمد المرسوم الرئاسي الأخير كامل أهميته.. كذلك المراسيم التي سبقته.. وكذلك ما يؤمل من مراسيم لاحقة..
وبرأيي إن الحرص على أية صلة أو أية نافذة للدعم الوطني واحترامها مهما كانت ناقصة أو مهما كان يشوبها التمييز هو أمر في غاية الضرورة مرحلياً، وليس من المناسب وضع العراقيل أمام هذه المبادرات بأية حجة كانت.. سواء قلة العدل أو عدم شموليتها أو تجاهلها لشرائح معينة أو غير ذلك.. وليس في هذا المجال أكثر سوءاً من حجة “قبض الثمن”!! حيث يروج البعض أحياناً بطيبة قلب وغالباً بلؤم وسوء نية أن الجولانيين “لا يريدون قبض ثمن وطنيتهم”.. وبرأيي إن هذا الكلام لا يصب إلا في مصلحة إسرائيل وفي مصلحة إبقاء رقاب الجولانيين تحت سلطة مؤسساتها ومخابراتها وتأمينها الوطني. وهنا لا بد من التأكيد على أن علاقتنا مع الوطن يجب أن يحكمها مبدأ المواطنة الكاملة وحقوق المواطنة والتي ليست منة من احد وليست ثمناً لأي شيء إلا للمواطنة ذاتها… فكيف يستوي عند البعض قبول أو شرعنة الإغراءات الإسرائيلية مقابل رفض وإدانة الالتفاتة الوطنية لهموم الجولان والتي بدأت في الآونة الأخيرة تتعامل مع الجولان كهموم إنسانية وكبشر من لحم ودم.. لا كمشاريع شعاراتية، وكيف يدفع البعض باتجاه إدارة الظهر لدولتنا الوطنية بالذات في الوقت الذي بدأت فيه بالالتفات إلينا واستشعار حاجاتنا ومطالبنا.. وذلك تزامناً مع سباق محموم وخطير نحو الأسرلة قد يصل في الأمد المنظور الى نقطة اللاعودة إذا لم يتم تداركه..
إن الطابع الوعيوي والأخلاقي لنضالات الجولانيين والتي صبغت وتصبغ رفضهم للمحتل يجب ألا تطغى على مواطنيتهم وحقوقهم كسوريين يرزحون تحت حكم الاحتلال الإسرائيلي منذ أربعة قرون، وواجب دعمهم ومدهم بكل سبل العون يجب أن يكون مكفولاً بالمواطنة وبوفاء الوطن لهم.
وإلى الماضين في حمل رايات “الهجاء” و “المعارضة” هنا في الجولان المحتل لا بد من القول أن حق المعارضة المشروع نظرياً يجب ألا يعميهم عن الحقائق والمتغيرات، وعن مستلزمات المرحلة الراهنة، والتي تنذر بمشاريع إسرائيلية قديمة/جديدة لأسرلة المنطقة ودرزنتها، وأن كل قطع لأواصر الارتباط بين الجولان ووطنه الأم، سواء على مستوى المجتمع أم على مستوى الدولة، يتم استغلاله بخبث لصالح هذه المشاريع وفي خدمتها، وان المضي في تحطيم الأحلام الوطنية لا يقابله إلا بناءً لمشاريع إسرائيلية..
لقد آن الآوان لأن نفتش عن مواطن الخلل في بنيتنا الإجتماعية والسياسية المحلية والتي تفتقد إلى الحد الأدنى من التنسيق أو التمثيل، وقبل أن نقفز الى الأحكام والنتائج يجب أن نفتش عن آليات جديدة… وعن وسائل التخاطب الصحية بين الجولان والوطن، وعن صيغة تمثيلية شرعية وموحدة بدلاً من الرسائل المتناقضة التي تصل الى المسؤولين هناك من كل حدب وصوب.. وأن نحول نقدنا للخلل في السياسات الوطنية تجاه الجولان إلى نقد بناء يتجاوز لغة الهجاء أو المدائح إلى الحوار والتفتيش عن الحلول والمخارج..
مجدل شمس – الجولان المحتل
خاص – صفحات سورية –