صبحي حديديصفحات سورية

‘العشاء النووي’ في دمشق: تجارة التوافق والتنافر

null
صبحي حديدي
إذا كان اللقاء الثلاثي الذي شهدته العاصمة السورية مؤخراً، وضمّ بشار الأسد والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد والأمين العام لـ’حزب الله’ السيد حسن نصر الله، هو قمّة ممانعة (والبعض تحدّث عن ‘عشاء نووي’!)؛ فما الذي يمكن للمرء أن يصف به القمّة التي شهدتها دمشق، أيضاً، قبل أسابيع، وجمعت الأسد والعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز؟ قمّة اعتدال الممانعة، أم قمّة ممانعة الإعتدال، أم مزيج خاصّ فريد من السلوكين معاً؟ وهل تتناقض تلك القمّة مع هذه، كما يقول المنطق البسيط للإصطفاف وانتظام الاتفاق والاختلاف، أم تتكامل معها على نحو أو آخر، لا لشيء إلا لأنّ صخب الممانعة ليس أقلّ زيفاً من سكون الإعتدال؟ وماذا نقول في اجتماع الأسد مع معاون وزيرة الخارجية الأمريكية وليام برنز، قبل أيام قليلة في دمشق إياها، وتسمية سفير أمريكي جديد، بعد خمس سنوات على قطيعة دبلوماسية (من طرف واحد في الواقع، لأنّ السفير السوري في واشنطن ظلّ مقيماً هناك)؟
خير للمرء أن يلجأ إلى أصدق الثلاثة، أي الأمين العام لـ’حزب الله’، في توصيف حال ذلك العشاء: لقاء دمشق ‘ردّ على كلّ الرسائل الأمريكية’، الموجهة أساساً إلى النظام السوري كما يحقّ للمرء أن يفهم، حول الشروع في خطوات عملية لفكّ الإرتباط مع طهران، ومع ‘حزب الله’ استطراداً. ولأنّ الردّ كان يحتاج إلى زخم من نوع خاصّ، تهللت له صحيفة ‘الخبر’ اللبنانية وأطلقت عليه صفة ‘حرب الصورة’، فإنّ زيارة السيّد إلى دمشق كانت علنية هذه المرّة، على نقيض زياراته الأخرى المتكررة التي كانت تُحاط بالكتمان التامّ. وهذا لا يُبطل الرأي الذي يقول إنّ الردّ كان مرسلاً، أيضاً، إلى عناوين أخرى متعددة، عربية وإقليمية، إلى جانب المعنيّيَن أوّلاً بالرسالة، أي الولايات المتحدة والدولة العبرية.
وليس من باب التخيّل السوريالي أن يقود هذا السياق إلى عنوان المضيف نفسه، النظام السوري، من باب التذكير بطبيعة التحالفات القائمة بين دمشق وطهران، وطبائع المصالح التي تديم تلك التحالفات، فضلاً عن ‘مدوّنة السلوك’ الواجب اتباعها إذا شاء فريق اتباع مصلحة منفردة قد تكون، في كثير أو قليل، على حساب الفريق الآخر. وثمة سلسلة تطورات أخيرة، على رأسها الجهد السعودي لإعادة استرجاع النظام السوري إلى حاضنة الرياض ـ القاهرة، واعتماد سيرورة تدريجية لإعادة تأهيل نفوذ النظام في لبنان وتلزيمه بملفات في اللعبة السياسية اللبنانية الداخلية يمكن أن تضعه في وجه، أو حتى في مواجهة، المعادلة الإيرانية… هي التطورات التي اثارت قلق طهران من احتمال مضيّ النظام السوري أبعد مما ينبغي في اللعب على حبال ‘الممانعة و’الإعتدال’ معاً.
ولقد كان لافتاً، إذْ يصعب أن يكون محض مصادفة تلقائية، أنّ نصر الله لم يستخدم هذه المرّة عبارات ‘سورية الأسد’، أو ‘سورية بشار الأسد’ أو ‘سورية حافظ الأسد’، التي اعتاد استخدامها في السابق، وكانت تشكّل غصّة لدى الجمهور السوري، إذْ يأتي مديح نظام الإستبداد الوراثي من قائد حركة مقاومة شعبية، يعلن طهرانية التضحية وشرف الفداء. لم تكن أقلّ جرحاً، بالطبع، تلك الصورة الشهيرة التي تُظهر السيد وهو يهدي بندقية إسرائيلية من طراز ‘عوزي’، غنمها رجال المقاومة اللبنانية، إلى العميد رستم غزالي قائد الإستخبارات السورية في لبنان آنذاك. أمّا في هذه الأيام، فمن الواضح أنّ نصر الله يقيم اعتباراً خاصاً للقاموس الواجب استخدامه في توصيف العلاقة بين ‘حزب الله’ والنظام السوري.
وفي كلّ حال، لا يخفى إلا على السذّج أنّ عشاء دمشق ما كان سيتخذ هذه الجرعة العالية من العلانية، لولا أنّ الحاجة الماسّة إلى توجيه رسائل مكشوفة هي التي اقتضته، من جهة؛ كما أنّ الحرص على إشاعة أجواء من الصداقة المطلقة والتفاهم التامّ والمناخات الوردية كان، من جهة أخرى، يوحي بأنّ التباينات تعتمل خلف الكواليس، حول مسائل شتى: المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية، العلاقات السورية ـ الأمريكية الآخذة في التسخين، العلاقات السورية ـ السعودية واحتمالات المصالحة مع القاهرة، التزام النظام بضبط الحدود مع العراق، تحجيم أنشطة ‘حماس’ الإعلامية والتنظيمية على الساحة السورية، الإنفتاح المتبادل بين النظام والبيت الحريري في لبنان، وسواها من ملفات.
ولا يخفى، كذلك،أنّ حضور نصر الله على هذا النحو العلني كان، بدوره، رسالة إلى الولايات المتحدة والدولة العبرية، يشترك في إرسالها النظام السوري وإيران معاً، كلٌّ لكي يحسّن موقعه التفاوضي والدبلوماسي، ويرفع قيمة ما يمتلك من أوراق، أو يكشف عنها ويلوّح بها. ومن جانب طهران، كان في الرسالة بُعد خاصّ يذكّر الحليف السوري بأنّ ‘حزب الله’ هو ركن التحالف الأكبر والأهمّ، وأنه رقم يتوجب احتسابه في كلّ تقارب للمصالح بين دمشق وطهران، وفي كلّ تنافر لتلك المصالح أيضاً. وإذا كان النظام السوري يحتسب هذا جيداً، لأنه يدخل في صلب موازناته مع واشنطن والغرب عموماً، فإنّ مبادرة طهران إلى التذكير به بين الحين والآخر ينفع دمشق، ولا يضرّ سواها!
والحال أنّ المرء يمكن أن يبارك أيّ لقاء يمكن أن يسفر عن إضعاف شوكة الدولة العبرية، أو تأجيج روح المقاومة والإنتفاض ضدّ المهانات المتكررة، وجرائم الحرب والمذابح والحصار والتجويع، التي يتعرّض لها المواطن العربي هنا وهناك، سواء بفعل السياسات الأمريكية المباشرة في المنطقة، أو بسبب تواطؤ الانظمة وتبعيتها وتخاذلها وانحطاطها. غير أنّ لقاء دمشق جمع رأس نظام استبدادي وراثي، ورئيس دولة تعتمد على مبدأ ‘ولاية الفقيه’ غير الديمقراطي وغير العصري، وزعيم حركة مقاومة تؤمن بالمبدأ ذاته ولا تعفّ عن استخدام سلاح المقاومة في تطويع المعادلة السياسية الداخلية. هل يمكن لهذه ‘الخلطة’ أن تنتج ممانعة؟ وكيف يمكن أن يباركها المواطن إذا كانت تنقلب ضدّ الشارع الشعبي، في دمشق وطهران وبيروت، ساعة تشاء الحسابات السياسية؟
لعلّ من الخير التذكير بإشكاليات مثال ‘حزب الله’، إذْ تبدو الحال بالنسبة إلى النظام السوري ونظام ‘ولاية الفقيه’ الإيراني أوضح وأبسط، إلا عند عاصبي الأبصار والعقول عن سابق قصد وتصميم. ذلك لأنّ الحزب صعد، أوّلاً، على خلفية انتصار الثورة الاسلامية الإيرانية، ثم تبلور وجوده العسكري والعقائدي بعدئذ على خلفيات الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982، ومجازر صبرا وشاتيلا، واحتلال الجنوب اللبناني. وكان خطّه العقائدي العام مناهضاً على نحو راديكالي لـلامبريالية والصهيونية وعملائهما المحليين’ كما جاء في البيانات الأولى. وهو الخطّ الذي يظلّ ساري المفعول بدرجة عالية، خصوصاً بعد أن اتسع نطاق توصيفه لطبيعة الخصوم المحليين وشمل حركة ‘أمل’ والتيارات والمنظمات الشيعية التقليدية الأخرى.
كذلك يتمتّع الحزب بمرونة تحالفية عالية لأنه لا يُلزم المنتسبين إلى صفوفه بأية قواعد تنظيمية، وإنْ كانت تقاليد العمل الداخلية تجعله أقرب إلى مزيج من الميليشيا العسكرية والحوزة الدينية. وهو أقرب إلى تجمّع عقائدي عريض وليس منظمة سياسية واضحة المعالم، الأمر الذي أتاح له مرونة استثنائية في الانتشار الشاقولي، واحتضان قضايا ‘المعذبين’ و’المستضعفين’ و’الفقراء’. وإذا أضيفت إلى ذلك عناصر أخرى مثل الحميّة العقائدية الشيعية، وتقاليد إمامة الفقيه، وثقافة السعي إلى الجهاد والإستشهاد، فإن صيغة ‘حزب الله’ تصبح فريدة في التراث الحزبي العربي الحديث، وتغدو نسيج وحدها في ستراتيجيات التغطية الدينية للحركات التنظيمية.
المسألة الثالثة هي أنّ الحزب بدأ مع الثورة الإسلامية الإيرانية، وكان مجرّد نواة صغيرة في كتلة عريضة امتدّت ظلالها إلى مختلف أرجاء العالم الاسلامي. وإذا كانت صفحة تصدير الثورة عن طريق إيفاد ونشر الحرس الثوري (الإيراني إجمالاً) أو تشكيل فصائل عسكرية ـ عقائدية محلية من نوع ‘جند الله’ و’الجهاد’، قد طُويت مع التطورات الموضوعية اللاحقة التي شهدتها ساحات الصحوة الاسلامية إجمالاً، فإن ذلك كان في مصلحة حزب الله وليس العكس. لقد جرّد الحركة من طابع ارتباطها الصريح بالخارج، وزجّها مباشرة في عمق المعادلة الداخلية كفريق ينبغي أن يكون له برنامجه اللبناني والعربي والإسلامي المستقل.
والمسألة الرابعة، والأهمّ ربما، هي أنّ الحركة الشعبية في الجنوب اللبناني لا يمكن أن تظلّ مجيّرة باسم تنظيم سياسي واحد بعينه، وهي استطراداً ليست حكراً على طرف شيعي واحد بصفة امتيازية أو شبه امتيازية. إنها حركة معقدة للغاية، والعوامل التي أسهمت في بناء فرادتها تبدأ من الخصائص الإجتماعية والإقتصادية والثقافية للسكان، ولا تنتهي عند عقود احتكاكهم بالحركات السياسية والدينية (من الحزب الشيوعي اللبناني، إلى المقاومة الفلسطينية، مروراً بزعماء تاريخيين من أمثال معروف سعد والإمام الصدر)، وعقود عيشهم تحت الإحتلال الإسرائيلي ومقاومتهم له. لكنّ ‘غزوة بيروت’ في أيار (مايو) 2008، والفشل في تأمين أغلبية برلمانية بعد انتخابات حزيران (يونيو) 2009، والعجز عن الثأر لاستشهاد عماد مغنية في ما أسماه نصر الله ‘الحرب المفتوحة’ على إسرائيل، وعدم ترجمة مبادىء الميثاق الجديد إلى تطبيقات سياسية واجتماعية على الأرض، والصمت عن معارك الإصلاحيين في إيران أو التعاطف الضمني مع السلطة… كلّ هذه كانت عوامل تعيد ‘حزب الله’ إلى صياغات تأسيسه الأولى، وتضعه في قلب ارتباطات أحلاف الخارج، هذه التي لم يسبق له أن انفكّ عنها تماماً في الواقع.
غير أنّ أبسط حقوق التحرير على أبطال التحرير هو الإلتفات إلى البشر على الأرض المحررة، أو استكمال المهمّة عن طريق تحرير الآدمي المقيم على التراب المحرّر، ومنحه فرصة التمتّع بمغانم التحرير، وتلمّس المعنى الإنساني الملموس لفكرة التحرير، والامتناع عن امتداح الإستبداد وتجميل وجوهه القبيحة. هذا حقّ لا يُنازع أيضاً، وهو ثمن طبيعي مقابل التضحيات الجسام التي بذلها معظم اللبنانيين، أينما كانوا وبصرف النظر عن مواقفهم من ‘حزب الله’ أو حتى من خيار المقاومة بالمعنى العريض. والمراوحة هكذا في المكان، بعد المتغيّرات النوعية التي شهدتها المنطقة، لا تبخس اللبناني حقوقه فحسب، بل هي تستبدل معنى التحرير النبيل والإنساني بآخر أقرب إلى الإتجار بالمعادلات.
آخر جولات ذلك الإتجار كانت المحاصصة الفاضحة، والسقيمة، التي طرحها وزير الخارجية السوري وليد المعلّم، في حوار مع غابرييلا رفكند، من صحيفة الـ’غارديان’ البريطانية: ‘يمكن للإنسحاب من الجولان أن يتمّ على مراحل، تنطوي توقيتاتها على شكل من التطبيع. نصف الجولان يمكن أن يفضي إلى إنهاء العداء. ثلاثة أرباع الجولان، تفتح ممثلية لرعاية المصالح الإسرائيلية في السفارة الأمريكية. الإنسحاب الكامل سوف يسمح بسفارة سورية في إسرائيل’. وتسأله رفكند عن العلاقة مع إيران و’حزب الله’، فلا يقول إنها ‘خطّ أحمر’، كما يصرّح رئيسه هذه الأيام، بل يجيب: نتولى أمرها بعد الإنسحاب!
فعلى أيّ لحى تضحك هذه التجارة؟ وكيف لها أن تنطلي على أية مقاومة شعبية حقّة؟

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى