صفحات مختارة

الإرهاب طريق إلى الجنة أم إلى الجحيم؟

جون فيفر
شياطين بأشكال عجيبة ومصاصو دماء تطارد الممثل الأسمر الوسيم ويل سميث في فيلم «أنا أسطورة». هو بهذا المعنى الهوليودي، البطل الذي سينقذ الكوكب من الزوال. يصل الفيلم إلى نهاية «مشوقة»: سميث محاطاً بالوحوش. يمسك البطل قنبلة يدوية. يشد قبضته عليها، ويشدهما إلى صدره. ثم يلقي بنفسه في «مرمى العدو»، في مشهد تضحية ملحمي.
يخرج المشاهدون من قاعة السينما يثنون على العمل البطولي الشهم. لا يخطر في بال أحدهم أن الرجل نفّذ للتو… عملية انتحارية. لم يقل قبل تفجير نفسه «الله أكبر»، ولم يردد الشهادة. لم يكن يضع عصبة الكاميكاز اليابانيين. لكن، مهلاً، أليس «البطل» ويل سميث واحداً منّا؟ «نحن» الأقوياء، المتحضرين. «نحن» الذين نتمتّع بقلق مبالغ به بشأن حرية الفرد وحقه في الحياة؟ «نحن» الذين نمثل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان الراهنة وروسيا من وقت لآخر. «نحن» الذين نملك، على ما يبدو، انتحاريينا.
هؤلاء الانتحاريون الذين يقومون بعمل بطولي من أجل وطنهم والديموقراطية.. تماماً مثل «شهدائهم».. مع فارق بسيط أن انتحاريينا لا ينتظرون 72 حور عين في الجنة.
البحوث عن الانتحاريين كثيرة ومتشعبة. غالبيتها تتمحور حول الأسباب التي تدفع هؤلاء إلى القيام بمثل هذه «الأعمال المريعة»، أحياناً ضد أبناء جلدتهم وإن كنا نحن المستهدفين في الأساس.
يقال إن الاستشهاديين الشيعة أو التاميل أو الشيشان ينظرون إلى مسألتي الحياة والموت بطريقة مختلفة تماماً. ولكن إلى أي مدى هي فعلاً مختلفة، طالما أننا، للأسف، نميل إلى قتل المدنيين خلال مغامراتنا العسكرية؟
الجهاد الغربي
خلال الحرب الأميركية الأولى ضد الإسلام، كنا نحن مَن استخدم أسلوب المفجرين الانتحاريين. كان ذلك في 4 أيلول 1804. كانت الولايات المتحدة تخوض حرباً ضد القراصنة المغاربة على طول ساحل شمال أفريقيا. وكان الجيش الأميركي يستميت لدخول دفاعات العدو. قائد الأسطول الثالث في البحر المتوسط كومودور ادوارد بريبل، اختار تكتيكاً غير اعتيادي: إرسال سفينة «يو.اس.اس انتربيد» مفخخة إلى شاطئ طرابلس، إحدى ولايات الامبراطورية العثمانية آنذاك، لكي تنفجر في أكبر قدر من سفن الأعداء. البحارة الأميركيون كدسوا 10 آلاف باوند من الذخيرة وعدداً من القذائف في الزورق.
عندما خاطب الضابط ريتشارد سومرز طاقم السفينة، عشية المهمة، سجّل أحد البحارة كلماته:
«لا رجل يحتاج لمرافق، لم يتخذ قرار تفجير نفسه، بدلاً من أن يُؤسَر». سمعت آنذاك هتافات تكررت مرات ثلاث. ثم تابع الرجل: «الفريق الشجاع يهب كرجل واحد، مسلّحاً بقرار التضحية بحياته، عاجلاً.. بدلاً من الاستسلام للعدو». بعدها، عبّت السفينة غمار البحر ودخلت الشاطئ المنشود. واختار البحارة تفجير أنفسهم على الزورق بدلاً من إضاعة الذخيرة سدى. لم تؤت المهمة ثمارها. الأضرار لم تكن جسيمة: انهارت سفينة ليبية واحدة. الفريق بكامله قضى نحبه، تماماً مثل الرجلَين اللذين فجرا سفينة «يو.اس.اس.كول»، في خليج عدن، بعد 200 عام.
رغم فشل المهمة، تلقى بريبل إطراءً على استراتيجيته. وقال قائد بحري بريطاني إنه «تمت التضحية بقلة من الشجعان، لم يكونوا ليقضوا من أجل قضية أكثر نبلاً». البابا ذهب أبعد: «القائد الأميركي، مع قوة صغيرة، تمكن في وقت قصير أن يقدّم للقضية المسيحية أكثر مما قدّمته أعتى الأمم المسيحية.. خلال أجيال».
ألا تشبه تكتيكات بريبل ما يحصل في يومنا هذا، حيث يستجدي «المتعصبون»، الذين يحاربون أعداء مماثلين، التضحية بأنفسهم من أجل القضية الإسلامية.
لماذا المهمات الانتحارية؟
بالطبع، لم تكن الولايات المتحدة من ابتكر المهمات الانتحارية. فتلك، لطالما كانت موجودة في التقليد الغربي. في الإنجيل، شمشون ضحى بنفسه عند تدمير الحصن فوق قيادة فلسطين، مردياً في موته أكثر مما قتل خلال حياته. الأسبارطة فجروا أنفسهم بالفرس، لعلمهم بأن جهدهم لن يردع الجيش الغازي طويلاً بما يكفي لمنح اليونانيين الوقت اللازم لإعداد دفاعاتهم. في القرن الأول قبل الميلاد، شن اليهود المتعصبون عمليات انتحارية ضد اليهود المعتدلين، لافتعال ثورة ضد الحكم الروماني.
لاحقاً، لعبت العمليات الانتحارية دوراً مفصلياً في التاريخ الأوروبي. ومع ذلك، تنحو «الكتب التي نشرت بعد أحداث 11 أيلول إلى وضع العمليات الانتحارية في سياق شرقي، فقط: هم متمردون ضد الحضارة»، كما كتب نيكولو كالدارارو في بحث عن المفجرين الانتحاريين. ولكن «البحوث في مرحلة ما بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تزخر بنماذج عن مفجرين انتحاريين وقتلة في قلب أوروبا»، بمن في ذلك قوميون أوروبيون، وثوار روس وغيرهم من ممارسي الإرهاب.
ومع وفرة المهمات الانتحارية في الثقافة الغربية، قد يصعب القول إن هذا التكتيك خاص بالمسلمين أو الأصوليين. ومع ذلك، يستمتع بعض الباحثين في رسم شجرة أصول مثل هذه المهمات، فيربطون «فصيل المجرمين» (الذي انبثق بعد مهمة صلاح الدين في المشرق في القرن الثاني عشر) بالمتمردين المسلمين في الفيليبين (في البداية ضد الأسبان، ثم ضد الأميركيين في بداية القرن العشرين). ثم يربطون هذه الشجرة بأحدث العمليات الانتحارية التي نفذها حزب الله وحماس والقاعدة والمتمردون المسلمون في الشيشان، ونمور التاميل في سريلانكا، وهؤلاء هم أبرز الانتحاريين غير المسلمين.
هجماتنا الانتحارية وهجماتهم، معاً، هي السبب وراء تفشي هذا النوع من الهجمات. ثمة ثلاثة عوامل مشتركة بارزة. أولاً، الهجمات الانتحارية هي «سلاح الضعيف» المصممة أساساً للتمهيد لميدان الحرب. ثانياً، هي غالباً ما تستخدم ضد قوة محتلة. وثالثاً، هي وسائل غير مكلفة وفاعلة بشدة.
من الشائع ربط المهمات الانتحارية بالإرهابيين. لكن الدول وجيوشها، عندما يفوقها العدو عديداً، تنفّذ، هي أيضاً، مثل هذه المهمات، كما فعل بريبل ضد طرابلس أو كما حاول اليابانيون قرابة نهاية الحرب العالمية الثانية.
ففي مسعى للتعويض عن خساراته التكنولوجية، أرسل النظام الإيراني وفوداً من المتطوعين الشباب، بعضهم غير مسلحين وبعضهم، كما قيل، فتيان في التاسعة من عمرهم، ضد الجيش العراقي المدعوم أميركياً، آنذاك، خلال الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات.
ويعد اللاعبون غير الحكوميين أكثر ميلاً لشن هجمات انتحارية ضد القوى المحتلة. «أزِلْ المحتل، تختفي الهجمات الانتحارية»، حسبما كتب روبير بابيه في كتابه «الموت من أجل النصر». بالتالي، ليس مستغرباً الاستنتاج بأننا، نحن المحتلون (الولايات المتحدة، إسرائيل، روسيا) لعبنا، بفعل أعمالنا، دوراً بارزاً في إثارة الهجمات الانتحارية التي نجدها حالياً منفرة للغاية وغير مفهومة في العراق وأفغانستان والشيشان ولبنان وغيرها.
الطراز الحديث للمفجر الانتحاري البدائي ظهر للمرة الأولى في لبنان في بدايات الثمانينيات، في رد على الاجتياح الإسرائيلي واحتلال البلاد. «المفجر الانتحاري الشيعي كان وحشاً خلقه بتأنٍ (وزير الدفاع الإسرائيلي) أرييل شارون». والتوصيف للكاتب مايك ديفيس في كتابه حول تاريخ السيارات الملغومة «بوداز واغون»، فـ«لم تخلق سياسات الاحتلال الإسرائيلي والأميركي الظروف التي أدت إلى انبثاق هذه المهمات، فحسب، بل قامت الولايات المتحدة بتدريب بعض منفذيها. الولايات المتحدة موّلت الاستخبارات الباكستانية لكي تدير مركزاً لتدريب المتمردين، قام بتأهيل 35 ألف مسلم أجنبي لمحاربة السوفيات في أفغانستان في الثمانينيات، لدرجة انه كان بالإمكان تسمية كتاب «حرب شارليز ويلسون»، الذي يحتفي بالمساندة الأميركية للمجاهدين، «المفجرون الانتحاريون الذين عرفناهم وموّلناهم».
في نهاية المطاف، «نجح» التكتيك. الانتحاريون يقتلون، في الهجوم الواحد، عدداً أكبر بـ 12 مرة من الإرهاب التقليدي، حسبما يقول المتخصص في شؤون الأمن القومي محمد حافظ. لطالما تباهى الجيش الأميركي بـ«دقة» سلاحه الجوي، و«ذكاء» قنابله وصواريخه. لكن، في الواقع، المفجرون الانتحاريون هم السلاح الأكثر «ذكاء»، لأن بإمكانهم التصويب على هدفهم بطريقة تعجز عنها الصواريخ، عن قرب وبطريقة قابلة للتصويب لضمان الدقة. بالإضافة إلى ذلك، بتفجير أنفسهم. ولا يمكن للمفجرين الانتحاريين أن «يفضحوا» تنظيماتهم أو تكتيكاتها، بعد تنفيذهم مهمتهم، بالتالي يحافظون على «أمن» مجموعتهم. فقط، عندما يصبح التكتيك بذاته أقل فاعلية، يبدأ تقهقره، كما يبدو أنه حصل حالياً بين الفصائل الفلسطينية.
الإرهاب والمدنيون
الصورة النمطية لمفجر انتحاري، في أيامنا الراهنة، تصوّر فتى أو فتاة، غالباً ما يكون عربياً، يسجّل شريطاً مصوّراً يعلن فيه إيمانه، مرتدياً فيه سترة محشوة بالمتفجرات، ثم يفجّر نفسه في محل مكتظ لبيع البيتزا أو في حافلة أو في سوق أو مسجد أو كنيسة. يتعين توسيع هذه الصورة. فمنفذو هجمات 11 أيلول استهدفوا مواقع ذات أهمية، بما في ذلك هدفاً عسكرياً: البنتاغون. انتحاري حزب الله فجر شاحنته في ثكنات المارينز الأميركيين في بيروت في 23 تشرين الأول 1983، مردياً 241 جندياً أميركياً. المفجرة الانتحارية من التاميل تينموزهي راجاراتنام اغتالت رئيس الوزراء رجيف غاندي عام 1991.
بكلمات أخرى، لقد استهدف الانتحاريون المدنيين والقواعد العسكرية وغير العسكرية ذات الرمزية المهمة، والقادة السياسيين. في الهجمات الانتحارية، ركّز حزب الله بنسبة 88 في المئة من الأوقات، ونمور التاميل (71 في المئة) والمتمردون الشيشان (61 في المئة)، عموماً، على الأهداف العسكرية والأمنية. في المقابل، ركزت حماس على المدنيين (74 في المئة من الأوقات).
في القرن العشرين، بدأت الجيوش في استهداف المدنيين كطريقة لكسر إرادة الشعب، لإسقاط قيادات دولة العدو. فظائع اليابانيين في الصين في الثلاثينيات، الحرب الجوية النازية ضد بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، قصف الحلفاء للمدن الألمانية واليابانية، الهجمات النووية ضد هيروشيما وناكازاكي، الأرض المحروقة في كمبوديا ولاوس، النهب الروسي لأفغانستان والشيشان، الخسائر المدنية الهائلة في حرب العراق.. كل ذلك جعل من فكرة الجيوش التقليدية التي تتحارب في ميادين بعيدة كل البعد عن المدنيين إرثاً عتيقاً من الماضي.
الهجمات الإرهابية ضد المدنيين، وخصوصاً هجمات 11 أيلول، دفعت المؤرخ كاليب كار لتأييد حرب بوش ضد الإرهاب، لأنه «لا يمكننا الرد على حرب سوى بحرب»، كما كتب في «دروس الإرهاب»، مضيفاً «سيكون إلزامياً علينا أن ننتهج نمط حرب أكثر ابتكاراً وحسماً، ومع ذلك أكثر إنسانية من أي شيء قد يبتكره الإرهابيون».
هذا النمط الأكثر ابتكاراً وحسماً وإنسانية اشتمل، في الواقع، على القصف الجوي العنيف وتعزيز الوحدات الخاصة (لكي تنفذ، في جزء من مهماتها، عمليات اغتيال حول العالم)، والاستخدام الحديث لطائرات التجسس على مدار 24 ساعة في سائر أيام الأسبوع في منطقة القبائل على حدود باكستان. وكتب كار أن «طائرات التجسس قد تصبح الرد العسكري العصري على الانتحاريين». وعليه، فإن القتلى المدنيين مجرد «خسائر جانبية».
وفقاً للباحث دانيال بايمن، طائرات التجسس تقتل 10 مدنيين مقابل كل مشتبه به واحد. أما توم انغلهاردت فكتب في موقع «توم ديسباتش»: «في باكستان، حرب الآلات المجرمة تثير بوضوح الرعب (والإرهاب)، والغضب والكراهية بين الناس الذين هم أبعد ما يكون عن الأصوليين. إنها جزء من زعزعة شاملة للبلاد».
إذاً، الفرق بين «حرب عادلة»، أو حتى مجرد حرب من أي نوع، وبين الحرب «غير العادلة»، الوحشية حيث يستهدف الإرهابيون المدنيين، لطالما كان «ضبابياً»، بفضل الخسائر المستمرة بين المدنيين، جراء الحروب التقليدية المعاصرة أو جراء الأهداف العسكرية الضيقة التي تحددها المنظمات الإرهابية.
النسبية الأخلاقية:
لدينا مفجرونا الانتحاريون، وندعوهم أبطالاً. لدينا ثقافة التلقين، وندعوها تدريباً أساسياً. نقتل المدنيين وندعو ذلك خسائر جانبية.
فهل هذه النسبية الأخلاقية التي تثير المحافظين؟ بالطبع، لا، لم أكن أقوم بهذه المقارنات لتبرير أعمال المفجرين الانتحاريين، ولكن للتدليل على الخبث في تصنيفنا «الأبيض والأسود»، بين نبل جهود«نا»، وأعمال«هم» الوحشية، بين أهدافنا التي تستحق التضحية ونهاياتهم الخسيسة. لقد تم تلقيننا على رؤية قصف هيروشيما نووياً على أنه هدف عسكري شرعي، في حين أن أحداث 11 أيلول على أنها جريمة شنيعة ضد الإنسانية.
لقد تم تدريبنا على رؤية السترات المفخخة على انها إشارة إلى التطرف، في حين أن الصواريخ التي تطلقها طائرات التجسس على أنها ذات حساسية متقدّمة. مَن قال إن إنهاء الاحتلال يقل نبلاً عن جعل العالم أكثر حرية وديموقراطية؟
الواقع يقول: علينا أن نوقف سياساتنا الاحتلالية، من أجل إزالة مفجريهم الانتحاريين. لكن السؤال: متى وكيف سنوقف ثقافة الشهادة لدينا؟
(بتصرف عن موقع فورين بوليسي ان فوكوس)
إعداد: جنان جمعاوي
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى