ما هو محلُّ الأكراد من الإعراب في حال اندلاع الحرب الشرق أوسطيَّة؟

هوشنك أوسي

الأكراد، شأنهم شأن العرب في الشرق الأوسط، كانوا من ضحايا الحرب العالميَّة الأولى (1914 ـ 1918)، وانقسم وطنهم القومي “الافتراضي” كردستان، بين الدول الأربع الحاليَّة (سورية، العراق، تركيا، إيران) على خلفيَّة اتفاقيَّة “سايكس ـ بيكو” سنة 1916. وعليه، هذه الاتفاقيَّة الاستعماريَّة “الملعونة والمكروهة” عربيَّاً، يعود لها الفضل في إنتاج دول المنطقة، التي تعتبر نظمها هذه الحدود، بأنها “مصطنعة”، الهدف منها إضعاف العرب وتفرقتهم. وتقول عنها أيضاً: بأنها “مقدسَّة”، لا ينبغي المساس بها، إن تعلَّق الأمر بالدولة الكرديَّة المستقلَّة التي يطمح الأكراد الى تأسيسها!. وكذا، تنحو غالبيَّة النخب العربيَّة والفارسيَّة والتركيَّة منحى نظمها الحاكمة، حيال تعاطيهم مع الكيان القومي الكردي الافتراضي، في مسعى زيادة منسوب الممانعة والعرقلة حيال هذه الكيان، بداعي أنه سيغيِّر ما أسَّسه لهم مارك سايكس وجورج بيكو من دول وحدود وسيادات قوميَّة ووطنيَّة!
والحاصل، خرج الأكراد من الحرب العالميَّة الأولى، مقسمين على دول، وما زالوا. في حين، أن العرب خرجوا من هذه الحرب مقسمين ضمن دول مستقلَّة، وما زالوا!
وبعد أن وضعت الحرب العالميَّة الثانيَّة أوزارها سنة 1945، أوشك الحلم الكردي في الدولة القوميَّة المستقلَّة أن يتحقق. وأقصد تجربة جمهوريَّة كردستان في مهاباد سنة 1946، والتي دامت أحد عشر شهراً. إلاَّ أن ستالين تخلَّى عن دعمه لها، على خلفيَّة اتِّفاقه مع شاه إيران، فانهارت الدويلة الكرديَّة، الطريَّة العود، وأعدِم رئيسها قاضي محمد في آذار سنة 1947. وعليه، الكثير من دول العالم، ومنها سورية والعراق، أعلنت الاستقلال، إلا أن الأكراد، كما هم حاليَّاً، بقوا مجزِّئين بين الدول التي تقتسم وطنهم!
الحربان العالميتان، والحروب الإقليميَّة، كالتي جرت في شبه القارة الهنديَّة وفي منطقة البلقان، والأهليَّة، كالحرب في يوغوسلافيا، والكثير من الأزمات الدوليَّة، كانهيار الاتحاد السوفياتي…، أنتجت دولاً كثيرة. وفيما يتعلَّق بالأكراد، فإن ما حصلوا عليه في العراق، لم يكن نتيجة نضال وكفاح سياسي وعسكري وحسب. بل إن غزو صدام حسين للكويت، وحرب تحريرها، وما أعقبها من انتفاضة 1991 وسحقها بالكيماوي وحملات الأنفال، من قبل النظام العراقي السابق، ثم دخول العراق في أزمة مع المجتمع الدولي، ثم الحرب الأنكلو ـ أمريكيَّة على العراق (20/3/2003)، كلّ ما سلف مجتمعاً، خلق للأكراد مناخاً، ليكون لهم محلّ من الإعراب في الخارطة الجيوبوليتيكية الشرق أوسطيَّة عموماً، والعراقيَّة على وجه الخصوص. وعليه، لم يشفع لأكراد العراق آلامهم وعذاباتهم ونضالاتهم…، المتراكمة طيلة عقود، لدى القوى الدوليَّة الفاعلة، كي تساند أو تآزر المطامح والمطالب والحقوق الكرديَّة في العراق!. بل المصالح الدوليَّة التي أفسحت لهم في المجال لتبوّؤ ما هم عليه الآن. ليس هذا وحسب، بل إن تلك المصالح، ألزمت قادة كردستان العراق على التصالح في ما بينهم، وطيّ صفحة الاقتتال الكردي ـ الكردي التي تمتدّ جذورها وتجلِّياتها وتبعاتها من سنة 1966 ولغاية 2003.
إسرائيل التي كانت سبباً في نشوب حروب شرق أوسطيَّة عديدة ومدمِّرة، منذ 1948 وحتى 2006، تهيّئ نفسها والمنطقة برمَّتها، لحرب جديدة. وهذه المرَّة ليست مع العرب، بشكل مباشر، بل مع الفرس ـ الخمينيين. طاقم خامنئي ـ نجاد، ينظر لهذه الحرب المرتقبة، بأنها “مقدسَّة” وتاريخيَّة، وتوطئة لـ”مجيء المهدي المنتظر”! وقادة الكيان العبري، أمام لحظات تاريخيَّة حاسمة وجد حساسة ومصيريَّة. إذ يعتبرون هذه الحرب، الأكثر مصيريَّة وحسماً في تاريخ إسرائيل، ويتوقَّف على نتائجها، مصيرها كدولة، إلى الأبد. لذا، تصريحات بعض قادة إسرائيل في استبعاد خيار الضربة العسكريَّة الاستباقية التي تعيق ولادة إيران نوويَّة، لا يمكن الوثوق بها. فـ”شحذ السكاكين، لا يعني بأنها ستبقى بمنأى عن الاستخدام”، بتعبير غسَّان شربل. وعليه، الحرب الإسرائيليَّة ـ الإيرانية ـ الأميركيَّة، قادمة. وقد انتهى أطرافها من طبخ سيناريواتها، بخاصَّة إسرائيل. فلن تنتظر قيادة إسرائيل نهاية عهد إدارة جورج دبليو بوش، التي كانت بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهباً لإسرائيل. وعليه، ستجرُّ إسرائيل أميركا إلى حربها على إيران، ولن تتردد في ذلك.
اللحظات التي تعيشها إسرائيل هذه الأيام، تشبه إلى حدٍّ كبير، لحظات الإعلان عن نفسها كدولة في الشرق الأوسط. إذ لم يكتف اليهود بوعد وزير الخارجيَّة البريطاني بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين سنة 1917. ولم يكتفوا بالدعم الذي أمَّنته سلطة الانتداب البريطاني على فلسطين لتعزيز مطامحهم في إقامة الدولة العبريَّة، ورغم أن ثلث قيادات اليهود، قبل إعلان الدولة، لم يكونوا مع إعلان استقلال الدولة العبريَّة في 14/5/1948. (نفس اليوم الذي ينتهي فيه رسمياً الانتداب البريطاني على فلسطين). إلا أن ديفيد بن غوريون أصرَّ على الإعلان في ذلك اليوم. لإدراكه أنه إذا لم يقرر إعلانها، فإن حلم الدولة اليهوديَّة سيتلاشى. ويقول بن غوريون واصفاً تلك المرحلة: “إن هذه اللحظة حاسمة في تاريخنا. إذا تقاعسنا، فربما كان علينا الانتظار أجيالاً أخرى”. ويفسر العوامل التي جعلته يتخذ قرار الإعلان عن الدولة العبريَّة قائلاَ: “كنت أعرف أن عدد العرب هو أضعاف عددنا. وقواهم هي أضعاف قوانا. ولكن، كان عندنا الإرادة القويَّة. ليس لأننا محاربون أفضل من العرب. لكن، لأن الانكسار بالنسبة لنا دمار، ونهاية لقوميتنا. أما بالنسبة للجيوش العربيَّة، فإن الفشل لا يعني ضياع بلدانهم، ولا نهاية وجودهم كقوميَّات” (دراسات في تاريخ القضية الفلسطينية: سمر بهلوان ومحمد حبيب صالح؛ منشورات جامعة دمشق، ص 216). وعلى ضوئه، ما لم تعلن إيران تفكيك برنامجها النووي، فإن الضربة الأسرائيليَّة لإيران صارت في حكم الأكيد.
إذا قام الطيران الإسرائيلي بقصف المنشآت النوويَّة الإيرانيَّة، فستنهمر الصوارخ البالستية الإيرانيَّة، وربما المحملة برؤوس كيماويَّة أو بمواد مشعَّة على إسرائيل والقواعد الأميركيَّة في الشرق الأوسط. وسيكون الجيش الأميركي في مرمى الهجمات الإيرانيَّة، بمعيَّة شيعة العراق، ويدخل هذا البلد الحرب، منقسماً على نفسه. وستدخل دول الخليج الحرب، كونها في مرمى النيران الإيرانيَّة، بحكم تواجد القواعد الأميركيَّة على أراضيها. ولن يقف حزب الله اللبناني متفرِّجاً، كونه “إحدى تفقيسات” دولة “ولاية الفقيه”، ومخفراً إيرانياً متقدِّماً. ويدخل لبنان أيضاً دائرة الحرب. وستتحرك جمهوريَّة حماس في غزَّة، لتدخل الحرب إلى جانب إيران. فلن توفِّر إيران حزب الله وحركة حماس وفصائل أخرى، وربما “القاعدة” أيضاً، لأيَّام أصعب من التي تنتظرها، إن اندلعت الحرب. تركيا، كونها تضمُّ أكبر قاعدة أميركيَّة في الشرق الأوسط (إنجرليك)، لن ترتكب نفس الخطأ الذي ارتكبته مع حليفتها أميركا، أثناء الحرب على العراق. ولن تسمح لها أميركا وإسرائيل بفعل ذلك، وستحاسبها عسيراً إن هي بقيت متفرِّجة وحياديَّة. لأن نظام خامنئي ـ نجاد، ليس نظام صدام حسين. وعليه، أميركا مجبرة على استخدام تركيا كمنصَّة حرب على إيران. وقد جاء دورها لتفي بالتزاماتها لتجنب الاستراتيجيَّة اتجاه أميركا وإسرائيل. حياديَّة تركيا في هذه الحرب، ستكون نصراً لإيران. وقد يكون دخول الحكومة التركيَّة الحرب إلى جانب أميركا وإسرائيل، هو الثمن الذي ينبغي أن يدفعه أردوغان، لدرء الحظر على حزبه الحالي، أو الذي سيشكِّله لاحقاً، على أنقاض العدالة والتنمية.
إذن، نحن قاب قوسين أو أدنى من حرب شرق أوسطيَّة. وفي الأزمات والحروب، يتم فرز الخنادق وفق المصالح. فما محلُّ الأكراد من الإعراب، إن شبَّت نيران الحرب في الشرق الأوسط؟! سؤالٌ، يفترض أن يكون الأكراد قد احتاطوا له، ووجدوا الإجابة عنه، منذ التباشير الأولى لهذه الأزمة الجهنميَّة. وهذا حقُّهم وواجب عليهم في آن.
أكراد العراق، هم أصدقاء إيران. لكنهم حلفاء أميركا، ومدينون لها براهن حالهم. كما أن علاقتهم بالدولة العبرية تمتدُّ لمنتصف الستينات. وعليه، غالبُ الظنّ، أنهم مجبرون على ترجيح خيار الوقوف إلى جانب الحليف الاستراتيجي على خيار الوقوف إلى جوار الجار الخمينوي “الودود”.
أكراد إيران، يزدادون غلياناً، وانتظاراً لاقتراب “ساعة الفَرَج”، والانعتاق من طغمة الملالي. وقد اشتدَّ ساعد حزب الحياة الحرَّة الكردستاني PJAK (الموالي لحزب العمال الكردستاني)، جماهيريَّاً وعسكريَّاً، وصار يكبِّد الجيش الإيراني خسائر فادحة. آخرها، الهجوم على قاعدة جويَّة قريبة من طهران، وقتل العشرات من الجنود الإيرانيين فيها. وعليه، أتوماتيكيَّاً، ستكون الحرب على إيران في صالح أكراد إيران، وسيجدون أنفسهم إلى جانب أميركا. وهذا ما تطمح إليه الأخيرة.
أكراد تركيا، كانوا ومازالو ضحايا التحالف التركي ـ الأميركي ـ الإسرائيلي، من جهة والتحالف التركي ـ الإيراني من جهة أخرى. وعليه، فالحرب على إيران، هي في صالحهم. وكم ستكون غلَّتهم وفيرة وغزيرة، إن ارتكبت تركيا خطأ دخول هذه الحرب إلى جانب إيران. ما من شأنه فسخ عقد الشراكة الاستراتيجيَّة الأميركية ـ التركيَّة ـ الإسرائيليَّة. واتجاه أميركا لتبنِّي الملف الكردي في تركيا، كما فعلت في العراق. وإن حدث ذلك، غالب الظنّ، إن حزب العمال الكردستاني، سيضع سلَّة الأيديولوجيا جانباً، ويرجِّح كفَّة المصالح الكرديَّة، التي ستجد دفعاً دوليَّاً إن انزلقت تركيا نحو إيران.

المستقبل