صفحات مختارة

شعوب ما قبل الدولة والانتماء الوطني والدراما التاريخية

وهيب أيوب
تعتبر الأفلام التاريخية التي يقدّمها الغرب لمشاهديه عن تاريخه القديم والحديث، مادة مشوّقة ومسلّية، إضافة لكونها معرفية هامة، لتطلع شعوبهم على مسار تطوّر وانتقال تلك الشعوب من مراحل الهمجية والاقتتال والتعصّب وتجاوز تاريخهم الظلامي إلى مرحلة النور والأنوار، ونشوء دولة الديمقراطية العلمانية وسيادة القانون والمواطنة ووحدة الانتماء للوطن.
بينما تطرح الدراما العربية، والسورية على وجه الخصوص، إشكاليات عديدة وخطيرة في نفس الوقت. والولوج في هذا التاريخ لدى شعوب لم تتجاوز بعد قبليتها وطائفيتها وتعصّبها هو بمثابة السير في حقل من الألغام في تاريخِ مُفخّخ لدى كل نقلة قدم واحدة.
وكانت تكفي جملة واحدة في مسلسل “أبي جعفر المنصور” ثاني خلفاء العباسيين، بحيث يخاطب أبا مسلم الخراساني الكردي الأصل أثناء قتله: (إنما الخيانة في آبائك الكرد) مما أثار موجة من الحنق والغضب والاحتجاج لدى إخواننا الأكراد، وهم برأيي محقّون بذلك دون شك.
فلو تمّت المعالجات الدرامية وتناولت حقيقة هذا التاريخ الدموي المليء بالحروب القبلية والطائفية والمذهبية منذ نشوء الإسلام وحتى اليوم، ومنذ موقعة صفّين والجمل وكربلاء والزاب وغيرها، ولو سُميّت الأمور بمسمياتها الحقيقية وليس كما يسردها المؤرخون الإسلاميون والعرب الكلاسيكيون المتعصّبون، لدخل العرب والمسلمون على أعقابها تماماً في حروب ونزاعات لن تنتهي لألف عام قادمة. فبسبب بعض الرسوم الكاريكاتورية وتصريح للبابا بينيدكت، تصرّف العرب والمسلمون حيالها بمنتهى الهمجية والوحشية، فكيف من ذوي القربى؟!
قد تصبح تلك المسلسلات مادة يتعاطى معها الناس كما الأوروبيون اليوم، بعد تجاوز العرب والمسلمين قبليتهم وطائفيتهم وتعصّبهم الذي ما زال يعشش في عقولهم وصدورهم، وبعد تحقيقهم الدولة العلمانية الديمقراطية التي تكفل حق جميع مواطنيها بالعيش الكريم والتعبير عن نفسها بحرّية، وإلا ستكون تلك المسلسلات المجتزأة في حقيقة تناولها للتاريخ، مادة تحريضية مُضافة على الفتاوى التي ما فتئ  أئمة و”علماء” الطوائف  والمذاهب يطلقونها ضد بعضهم البعض، بحيث بات لكل طائفة ومذهب في عالمنا العربي فضائية تبثُّ سمومها وتطلق سهامها تجاه الآخر، وأخشى أن يكون ذلك مقدمة لدويلات طائفية ومذهبية ترعاها وتدعمها أميركا وربما إسرائيل أيضاً، وقد نظّر لذلك الأميركي صامويل هنتنغتون في كتابه “صدام الحضارات” وأفصح عنه كريستوفر وزير الخارجية الأميركي الأسبق بقولهِ، إن العالم سيتحوّل إلى خمسة آلاف دولة. وبعض الفصحاء من “العلماء” المسلمين وثلة من المثقفين الغوغائيين العرب يهاجمون هنتنغتون فيما ذهب إليه بكتابه المذكور وهم أول الساعين عملياً لتحقيقه!
عندما ينخفض وينحدر مستوى الانتماء لأي شعب إلى ما دون “الوطني” وتصبح القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب هي السبّاقة في الانتماء والملاذ الأول للاحتماء من السلطة والنظام الاستبدادي، تجري الأمور تماماً كما هو حاصِلٌ بالعراق اليوم.
في العام 1937 عندما شعر الصينيون بقرب اجتياح اليابانيين لبلادهم، كان أول ما فعلوه هو إنقاذ الأثارات الموجودة في القصر الإمبراطوري أو “المدينة القرمزية المُحرّمة” الواقعة وسط مدينة بكّين، والتي كانت تحوي مليون قطعة أثرية من حضارة الصين القديمة، وقاموا بتحميلها كُلّها على الحمير والبغال ونقلها لمكانٍ آمنٍ تجاه الغرب لإنقاذها من التدمير والضياع على أيدي المُحتلين القادمين. وفي نفس العام أثناء الحرب الأهلية في أسبانيا بين اليساريين الاشتراكيين وجماعة فرانكو المدعومين من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وغيرهم، كادوا هؤلاء يُهزموا في إحدى المعارك لولا احتمائهم بأماكن وقصور ومتاحف أثرية، والذي رفض الاشتراكيون قصفهم وهم بداخلها خوفاً من تدمير تراثهم ومتاحفهم، وكان موقفهم هذا أحد أسباب هزيمتهم بالمعركة.
بينما رأينا في العراق أثناء العدوان والاحتلال الأميركي لها، كيف ساهم العراقيون أنفسهم بنهب وسلب المتاحف العراقية وسرقة بعض محتوياتها وتخريب الآخر، التي تختزن في داخلها مئات الآلاف من القطع الأثرية التي تحاكي قصصاً وشواهد عن أقدم حضارات العالم، السومرية والبابلية والأكادية والآشورية والكلدانية وسواهم، والتي يعود أوّلها لأكثر من ستة آلاف سنة قبل الميلاد. في نفس الوقت الذي كانوا يحمون مساجدهم وصوامعهم وكنائسهم بالأرواح والحديد والنار والمتفجرات، ثم لا يلبثون بمهاجمة أماكنهم الدينية المُقدّسة كُل للآخر عبر العمليات الانتحارية المُتبادَلة، بأبشع صور الهمجية والدموية في التاريخ.
وعودة إلى المسلسلات الدرامية السورية والعربية عموماً، التاريخية منها والاجتماعية، ومدى تعبير الشارع عن تقبّله لها بالسلب أم الإيجاب، نرى مستوى الجهل والضياع لهذا الشارع ذكوراً وإناث، كباراً وصغار، الذين هلّلوا وطبّلوا وزمّروا كثيراً لمسلسل “باب الحارة” مثلاً، وفعلوا ذات الشيء بتقبّلهم للمسلسل التركي المُدبلج “نور” والذي يناقض “باب الحارة” 180 درجة من حيث القيم والعادات المطروحة فيه. وتقديري أن “باب الحارة” شكّل نكسة ووصمة عار في تاريخ الدراما السورية الحديثة، لما حمله من تشويهات واجتزاءات ورسائل رجعية مُتخلِّفة عن المجتمع والمرأة بوجه خاص، تشابه في محاكاتها دولة “الطالبان” الأفغانية غير المأسوف على شبابها. إضافة للمسلسلات التاريخية الأخرى والفانتازيا المبتذلة، والتي قلّلت من وهج وتألّق الدراما السورية وتربّعها عرش الدراما العربية على مدى السنوات السابقة.
في الوقت الذي وَجَبَ فيه توجيه تحية وطنية لمعظم مسلسلات الدراما والكوميديا السورية الأخرى، التي تعالج العديد من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الهامة بمنتهى الوعي والإدراك والإبداع.
في هذا الزمن الرديء الذي وصل إليه ويعيشه العرب والمسلمون نتيجة ما كسبت أيديهم أنفسهم بأنفسهم قبل اتهام أعدائهم، بحيث درجت الأنظمة العربية الاستبدادية والتي تتحمّل حصة الأسد بما آلت إليه الأوطان من فقرٍ وجهلٍ ومذلّة، بتعليق فشلها وهزائمها وخياناتها على شمّاعة إسرائيل والغرب. في هذا الوقت، تبات العصبيات والأخطاء والحماقات المرتكبة من قِبَلِ النُخب العربية والإسلامية بكافة شؤون الحياة والمجتمع وعلى كل الصُعد، تُشكّل العقبة الأساس والكأداء في سبيل التخلّص من أنظمة الاستبداد والطغيان والتمهيد لإنجاز الدولة العلمانية الديمقراطية التي تكفل حق جميع أبناء الوطن في المساواة والعيش الكريم وحرية الاعتقاد وسيادة القانون. ربما حينها فقط تستطيعون إنتاج دراما تاريخية حقيقية وموضوعية، دون أن تتسببوا بحروبٍ طائفية ومذهبية.
حتى ذاك الحين فنحن في سباق محموم مع الزمن. فهل يُدرك العرب والمسلمون حجم المهام وصعوباتها ويعملوا على إنقاذ أوطانهم وشعوبهم، أم سيبقون يصيحون مؤامرة… مؤامرة… مؤامرة……
وهيب أيوب
الجولان المحتل – مجدل شمس
2 \ 10 \ 08

waheeb_ayoub@hotmail.com
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى