طيب التيزيني واللبرالية
كامل عباس
للدكتور التيزيني لازمة شهيرة كان يرددها في كل كتاباته بداية تشكل النظام العالمي الجديد , مثبتة لديه في ثلاثيته الشهيرة عن الفساد والمجتمع المدني ص 143 (( ها هنا نكون وجهاً لوجه أمام التدفق العولمي الأمبرالي الجديد باتجاه الواقع العربي عبر استفراده الجماهير العربية وتذريرها ……وإذلالها وتهميشها وسحق ذاكرتها القومية التاريخية الديمقراطية . وذلك عبر الآلية الحاسمة على صعيد الفعل العولمي , وهي محاولة ابتلاع الطبيعة والبشر وهضمهم وتمثلهم ومن ثم تقيئهم سلعا . )) .
لم يطرأ أي جديد على تفكير الدكتور بعد مرور أكثر من عقدين على انهيار النظام العالمي السابق بدليل قوله في أحدث مقالاته – اللبرالية ومصائرها – المنشورة في جريدة العرب اليومية في 2/3/2010 ((عقدت في مدينة دبي في أواخر الشهر المنصرم ندوة تلفزيونية حول الليبرالية, اشترك فيها أربعة باحثين, كنت واحدا منهم. وقد انقسمت أعمال الندوة الى ثلاثة محاور, كان الحديث عن تعريفها وحيثياتها العامة المحور الأول فيها. اما المحور الثاني فاشتمل على التعرض لبعض مظاهرها في تاريخها الغربي ومنذ المرحلة الأولى من مراحلها الثلاث, اي من عام 1750 حتى مرحلتنا الراهنة; وهي الأكثر تعقيدا واضطرابا. ومعروف ان هذه الأخيرة تتجسد في النظام العالمي الجديد, الذي منحها طابعا محددا هو كونها ظاهرة متوحشة توحُّش السوق العولمية الجديدة, التي تحتضنها فرفعت مطلب توحيد العالم تحت شعارها. اما هذا فهو التالي: يجب ابتلاع الطبيعة والبشر, وهضمهم وتمثُّلهم واخراجهم سلعا في السوق الكونية الجديدة .
كثير من المثقفين الشيوعيين يبدون هذه الأيام أكثر أصولية من الاسلاميين الجهاديين , فبعضهم على سبيل المثال لا الحصر يقف الى جانب سلطة تحكم باسم الحق الإلهي ضد معارضتها الاصلاحية بحجة مقاومتها للامبريالية والصهيونية , وبعضهم الآخر يرقص طربا على أنغام الأزمة الاقتصادية الحالية ويرفع شعار الدعوة الى تجاوز الرأسمالية , ثبات هؤلاء على سياسيتهم القديمة القائمة على كره الامبريالية متجسدة بأمريكا والغرب يرسم ظلالا على عقولهم ويحجبها عن استعمال منهجهم القائل بالتغيير والتطور المستمر .
كنت أظن أن الدكتور طيب التيزيني من موقعه كمدّرِس للفلسفة في احدى الجامعات العريقة سيتمكن من استعمال عقله بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ويتحرر من الايديولوجيا ويأخذ بعين الاعتبار ما قدمه التطور على الصعيد العالمي وينظر الى الفلسفة اللبرالية نظرة موضوعية تجعله يقدمها لطلابه على حقيقتها كفلسفة مفتوحة لاوجود لنهايات لها ولها ككل نظرية جانبان جانب أنسي وجانب وحشي , لكنه خيب ظني .
ان الولاء السياسي للمرء سواء كان يمينيا ام يساريا يمنعه من رؤية الجانب المعرفي بشكل موضوعي ويجعل مثقفا مثل دكتورنا لا يرى في اللبرالية سوى محاولتها ابتلاع الطبيعة والبشر وإخراجهم سلعا من اجل مزيد من الاستغلال الوحشي للمنتجين . ذلك الكره الأعمى للغرب جعله يتوهم بان الفلسفة اللبرالية منتج غربي لا تلائم واقعنا العربي الاسلامي بتاتا .
ولكن لوي عنق التاريخ على الطريقة اللينينة ليتلاءم مع أطروحاتنا لم يعد ينطلي على الناس على ما أعتقد , فاللبرالية ليست منتجا غربيا بل هي منتجا انسانيا بامتياز . وأول من ساهم في إخراجها الى الوجود هم العرب . لقد سبق العرب أوروبا بقرون في دعوتهم للبرالية وكان رائدها الأول هو الرسول العربي محمد بن عبد الله , فعلى يد الرسول العربي انتقل العرب من البداوة والصحراء والجهالة والكمونات الجماعية ( المتمثلة بعشائرهم وأفخاذها وملحقاتها ) الى المجتمع المدني , الى دولة المدينة القائمة على التعايش بين المسلمين واليهود والمسيحيين ضمن توافقات معينة تجعل كل جهة تحترم الجهة الأخرى وملكيتها الفردية الخاصة .
هذا على صعيد الممارسة اما على صعيد النظرية ففي قرآن الرسول وسنته النبوية مفاهيم لبرالية لاتزال حتى هذه اللحظة متقدمة على مفاهيم الشيوعيين الاستبدادية القائمة على التملك الجماعي .
– من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
– كل نفس بما كسبت رهينة
– وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون
– ولا تزر وازرة وزر أخرى
– من قتل نفسا بريئة بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا .
– ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة. ان الله على كل شيء قدير .
اللبرالية تقوم على الديمقراطية , وان كانت ديمقراطيتها حتى الآن قد خدمت وما زالت تخدم أصحاب الثروة والسلطة في المجتمع , فالحق على أمثال الدكتور وغيره من المنحازين لصف المنتجين والمستضعفين ولكنهم لا يجيدون فن توظيف انحيازهم لهم .