صفحات الحوار

المفكر السوري الدكتور برهان غليون للراية القطرية: النظام العربي وصل إلي الباب المسدود الآن

null

دمشق الراية خالد الأحمد:

التلاعب بمصير الشعوب سيجعلها ضحية لأي قوة متسلطة خارجية أو محلية

المشروع الأمريكي في المنطقة يهدف لوضع الأنظمة والنخب تحت الوصاية المباشرة

العملة الفاسدة في البلاد العربية لا تزال تطرد العملة السليمة

يري المفكر السوري الدكتور برهان غليون أستاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون بباريس ورئيس معهد دراسات الشرق الأوسط فيها أن الإصلاح الذي ما فتئت تتحدث عنه الحكومات العربية منذ سنوات طويلة لم يحصل ولن يحصل، وأن الأمل بدأ يتآكل لدي الجمهور العريض الذي فقد الشعور بأي انتماء وطني أو إنساني.

ويعتبر غليون أن السياسة كما تتجلي في نظم العرب القائمة اليوم تبدو كالعارضة علي القبر التي تدين الميت بالموت الأبدي، ولا تترك له مجالاً للأمل أو الانبعاث.. هل هي القيادات الضعيفة؟ أم هي البيروقراطية العقيمة والمعقمة للعقل والذكاء؟ هل هو الحرس القديم الذي يبسط نفوذه في كل الميادين ولا يسمح للجديد بالولادة والنماء؟؟..

حول هذه القضايا وغيرها من القضايا الحارة والإشكالية تحدث د. برهان غليون ل الراية وفيما يلي نص الحوار:

يتباري أنصار الحكومات العربية بالتذكير بعدد المراسيم والقوانين والإجراءات التي اتخذت من قبل الطواقم القائمة لإنعاش الاقتصاد، وجذب الاستثمارات ومحاربة الفساد والإهمال، وعلي هذه الحجج ترد المعارضات بحجج أقوي فتذكر بأن القوانين والمراسيم والإجراءات لا تجد طريقها إلي التنفيذ، وعندما تنفذ لا تغير من الأمر شيئا، فالاقتصاديات لا تزال فقيرة ومتهالكة ولا تكاد الاستثمارات المنتظرة والمتحققة تعادل شيئاً، بالمقارنة مع الرساميل الهاربة والمهاجرة، حتي بدا الفساد هو نفسه وكأنه يتغذي من لهيب معارك محاربته وينمو عليها في عالمنا العربي؟ ما رأيك بهذا التوصيف؟.

يزداد الاعتقاد لدي غالبية الجمهور العربي المكوي بنار التدهور المستمر في شروط المعيشة، وممارسة الحقوق والحريات التي تشكل علامة الاندماج في العصر الحديث والحضارة، بأنه حتي لو نجحت الحكومات العربية في تنفيذ جميع القوانين والقرارات التي تصوت عليها أو تتخذها، وحتي لو شملت هذه القوانين والقرارات جميع ميادين النشاط الوطني فلن تعطي نتيجة تذكر، وحتي لو كانت هذه القوانين والقرارات في الاتجاه الصحيح، وهو ليس من الأمور الحتمية، ذلك أن الحكومات قد تخطئ، ومن حقها أن تخطئ، فإن الإصلاح سوف يظل بعيداً عنا.

ما سبب ذلك برأيك؟

إن تسيير الشؤون العامة يحتاج إلي صوغ قوانين واتخاذ قرارات، كما يحتاج إلي تطوير وتحديث الوسائل والأساليب المتبعة في الإدارة والتسيير الاقتصادي معاً، لكنه يحتاج قبل هذا وذاك إلي نُخب جديدة تدرك حاجات الشعوب وتتواصل معها وتحترمها، وتتأثر بما تعاني منه، وتعرف أن المسؤولية والقيادة السياسية تعني الالتزام بالعمل علي تحسين شروط حياة المجتمعات، وضمان مستقبلها لا استغلال المنصب السياسي لخدمة مصالحها الخاصة وضمان مستقبل أبنائها والمقربين منها.

ديناميات الإصلاح

كيف تفهم إذاً جوهر الإصلاح في الوطن العربي وكيف يمكن تطبيقه بشفافية؟

إن جوهر الإصلاح ومصادر الحركة القوية التي يدفع إليها تكاد تُختَصر في ثلاثة مبادئ رئيسة ينتظر الرأي العام إغناءها، وضمان تطبيقها وتنميتها، وهي لا تتعلق بشكل خاص بالاقتصاد أو السياسة، ولا تتماهي مع تحديث الإدارة أو إحياء المجتمع المدني، ولكنها تتعلق بروح النظام العام، التي تنتشر أو ينبغي أن تنتشر في جميع المواقع والميادين، قبل أن تتحكم بكل نشاط اجتماعي وتحدد السلوك العام لجميع الأفراد في الاقتصاد والسياسة والمجتمع والمؤسسات علي حد سواء، فإذا ما انتشرت مباديء الإصلاح في هذا النظام العام لا يهم بعد ذلك أكان الإصلاح الاقتصادي هو الأسبق، أو كان الإصلاح السياسي، ولا إن شمل الإصلاح السياسي، وما يعنيه من تكريس التعددية والمشاركة الفعلية في القرارات السياسية جميع الأفراد دفعة واحدة أم كان تدريجياً وبطيئاً، وإذا كان من المستبعد أن تنطلق ديناميات الإصلاح الحقيقي من طرف النخبة الحاكمة، التي ليست لها مصلحة واضحة، أوهي لا تري بعد مصلحة لها في الإصلاح، فمن الممكن بل من الضروري أن يبدأ الإصلاح من داخل المجتمع نفسه، أي علي مستوي الأسرة والمؤسسة والهيئة والجمعية الأهلية، وكل المنظمات التي اعتدنا علي أن نسميها مدنية. فمسؤولية المجتمع، كل فرد من أفراده في إطلاق حركة الإصلاح وترسيخ أخلاقياته، لا تقل عن مسؤولية النُخب الحاكمة، بل إنها تشكل اليوم المدخل إلي التغيير في البلدان العربية.

منطق الولاء

ما المطلوب لتحقيق تغيير نوعي في مفهوم الإصلاح وآلياته في البلدان العربية حسب اعتقادك؟

أول المبادئ التي تخلق الحركة الإصلاحية الدافعة باعتقادي، هو إحلال معيار الكفاءة في كل مجالات الحياة والنشاط والعمل محل معيار الولاء، سواء أكان ولاء القرابة العائلية والعشائرية أو الزبائنية والمحسوبية أو ولاء شبكات المصالح الخاصة المتغلغلة في الدولة، أو ولاء الانتماءات الحزبية الضيقة والحاكمة، وقاعدة الولاء السائدة اليوم في مجتمعاتنا العربية جميعاً في ميادين النشاط العام بأجمعه، الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والإداري، وفي المؤسسات والجمعيات السياسية والمدنية والأهلية، فما دام الموالي هو المطلوب والمنشود فالكفاءة محاربة وهاربة لا محالة، ولا شيء يمكن أن يتجدد فعلياً في أي نظام أو نشاط، وسيظل النظام يشكو من انعدام الكفاءات والأطر والاختصاصات.. فهو بتسيِّده منطقَ الولاء، لا يدفع إلي هرب الأطر الصالحة فحسب، إنما يعيد إنتاج الأطر السيئة وتكوينها بصورة سيئة أيضاً، وعلي نطاق واسع، وهي الأطر التي تستبدل العمل والجهد الجدي بالتزلف والتملق والممالأة وفي ذاك الالتحاق يكمن مصدر صعودها وازدهارها، وهو الذي يعطي لها مكانتها وقيمتها.

في جميع البلاد العربية التي زرتها لم تتخذ السلطة ولا تريد أن تتخذ أي مبادرات أو تقوم بأي جهود لتغيير الاتجاه وزيادة الكفاءة والمهارة والموهبة في ملء مناصب المسؤولية السياسية والإدارية، وإذا فعلت ذلك فبالقطارة وعلي سبيل ذر الرماد في العيون والدعاية. ولذلك، بالرغم من كل ما حصل حتي الآن ومن جميع الضغوط والتحديات، لا تزال العملة الفاسدة في الدولة والمجتمع علي حد سواء تطرد في البلاد العربية العملة السليمة، ولا يزال قانون الولاء والموالاة هو السائد عربياً، بالرغم من الخطابات المتكررة عن فتح المجال أمام أصحاب المواهب والكفاءات، وعدم قصر مناصب المسؤولية علي أنصار النظام وأشياعه وتابعيه.

والمبدأ الثاني للإصلاح هو إحلال سلطة القانون محل سلطة أجهزة الأمن، في تنظيم الحقل العمومي والحياة السياسية والمدنية، وهذا الالتزام بالقانون ليس مطلوباً فقط من السلطات السياسية، ولكنه مطلوب أيضاً من جميع العاملين والمسئولين، ويتطلب التمسك به مقاومة الضغوطات الإغراءات السياسية وغير السياسية، وربما القبول ببعض التضحيات التي لابد منها للخروج من حلقة التقسيم والفوضي والخوف السائدة، فمن الواضح لكل مراقب خارجي أن ضبط الفضاءات العامة والتحكم بالسكان ينازعه في البلاد العربية اتجاهان رئيسيان: تعطيل تطبيق القانون أو تفسيره حسب مصالح المسئول، مما يتيح كل أشكال التلاعب بحقوق الأفراد ومصالحهم، وتضييق نطاق حرياتهم، أو تجاوز مبدأ القانون نفسه في العلاقات العامة، وتبرير التدخل الدائم وغير الخاضع لأي مراقبة أو محاسبة لأجهزة الأمن في حياة السكان.

المبدأ الثالث هو مبدأ المسؤولية، الذي يعني الإحساس بالواجب والعمل بما يقتضيه هذا الواجب فيما يتعلق بالشؤون العمومية ومناصب المسؤولية علي أي مستوي كانت، وربما كان المبدأ السائد اليوم عند المسؤولين العرب هو النقيض له تماماً، أعني مبدأ التمتع، واستباحة الموارد العمومية، كما لو كانت ملكية شخصية، فلا يرتبط المنصب هنا بواجبات، ولكن بتأمين فوائد ومنافع وامتيازات وحقوق، وليس للسلطة علاقة بالمسؤولية، بل إن العكس هو الصحيح، فالسلطة تعني التسَّيد، ولا يشعر صاحبها بالتسَّيد إلا إذا وضع نفسه فوق القانون، وجعل من موقعه ومنصبه درعاً يقيه أي شكل من أشكال المحاسبة والمساءلة والالتزام، فالفوقية والارتفاع فوق القانون الذي يساوي بين الأفراد هما أساس التميز ومصدر الشعور بالأسبقية والامتياز.

وصاية الأب!

تشكل الديمقراطية بما تعنيه من اعتراف بحد أدني من الحريات التعددية للشعوب العربية، وتأكيد معني المسؤولية والمحاسبة السياسية، أحد العناوين الأساسية إن لم تكن العنوان الرئيسي لأي برنامج إصلاح عربي.. كيف تنظر إلي أهمية هذا الأمر في ظل محاولات ”دمقرطة” البلدان العربية أمريكياً؟

لا ينبغي أن نفهم أن المشروع الأمريكي لنشر الديمقراطية في البلاد العربية يقوم علي إعادة السيادة للشعب والقبول بمطالبه وجعل السلطة العمومية ممثلة بالفعل لمصلحته وتوجهاته، فالولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تنظر إلي الشعوب العربية علي أنها شعوب بدائية، ضعيفة التكوين الروحي والفكري والسياسي، لا يمكن الاطمئنان لها أو السيطرة عليها. إن ما يهدف إليه هذا المشروع هو بالأحري وضع الأنظمة أو النخب العربية التي تدين ببقائها وتدعيمها للولايات المتحدة تحت الوصاية المباشرة، وحرمانها من التصرف بحرية بما أصبح يبدو لها، من بلاد وعباد وثروات وموارد وطنية، وكأنه من أملاكها الخاصة، وحكراً قائما عليها، أي في الواقع وضع حد لسلطتها الداخلية الاستثنائية، وهو من قبيل وصاية الأب علي الولد الجاهل والفاسد والقاصر معاً.

ويطمح الحلفاء والأميركيون علي رأسهم، إلي أن يحقق لهم نظام الوصاية الجديد الذي يزمعون فرضه علي العالم العربي إشرافاً أفضل علي مسار التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، والقيادة شبه المباشرة لها، بعد أن خرجت أو كادت أن تخرج في نظرهم عن السيطرة. فالإصلاحات السياسية والاقتصادية والإدارية هي التي تضمن في نظرهم منع برميل البارود الذي هو الوطن العربي برمته من الانفجار، وتدمير كثير من المصالح حوله، كما يطمحون أيضاً من خلال إدخال درجات أكبر من الشفافية علي النظم السياسية الجديدة أو المجددة لضمان النفاذ بشكل أفضل إلي سلطة القرار والتحكم به عن قرب، ومنع حصول تطورات خطيرة لا يمكن التحكم بنتائجها، مثل تطوير أسلحة الدمار الشامل، وهم يطمحون كذلك إلي تقريب الطبقات الوسطي لإضفاء طابع من الاستقرار علي النظام الجديد أو المجدد، وذلك من خلال تأمين شكل من أشكال التعددية السياسية، وضمان الحريات الفردية الأساسية، باختصار إنهم يريدون شركاء المجتمعات العربية أو طبقاتها الوسطي ونخبها الرئيسة لضمان استمرار أطول واستقرار أكثر وأقوي في مقابل الإبقاء علي ما ينبغي تسميته (نظام السيطرة المشتركة العربية الأمريكية) وبهذا المعني أقول إن هدف ديمقراطيتهم الليبرالية الفردوية هو قطع الطريق علي الديمقراطية الحقيقية التمثيلية التي تعترف بسيادة الشعب والمجتمع وتعبر عن طموحاته وأهدافه وآماله الجمعية.

أخيراً ما هو سؤال العقلانية المطروح علي عالمنا العربي اليوم برأيك؟

لقد وصل النظام العربي المعاصر إلي الباب المسدود وأصبح عاجزاً عن دمج الجميع فيه، والدورة متسارعة في تهميش قطاعات جديدة ودفعها خارج المجتمع، فالتطور الرأسمالي الجاري عندنا، علي سبيل المثال، تابع ومشوه، لأن حرية الفرد الاقتصادية في الغرب كانت موصولة بحرية الفرد السياسية، أما عندنا فهي موصولة بإقصائه وحرمانه منها، ولعل سؤال العقلانية المطروح علي عالمنا العربي يستمد تصحيحه من إعادة طرح السؤال في كل الأنظمة الفكرية والسياسية التي علكتها الألسن منذ زمن. إن ما نرفضه هو هذا التلاعب بمصير الشعوب والمجتمعات الذي لا يمكن أن يؤدي في النهاية إلا إلي إفراغها من قواها الداخلية وقتل ديناميكية حركتها وتوازناتها الذاتية، وبالتالي جعلها ضحية لأي قوة متسلطة خارجية أو محلية.. وما لم تتطور داخل المجتمعات العربية قوي ديمقراطية حقيقية تعكس مصالح الجمهور وتعبر عن إرادته، وتساهم بالتالي في تحرير المجتمعات من تبعات هذه المعركة المدمرة والتي لا يمكن لأحد الانتصار فيها، فلن يكون أمام الوطن العربي سوي التطور الحثيث نحو مزيد من التقهقر والتمزق والفوضي والاقتتال.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى