صفحات العالمميشيل كيلو

عملية اغتيال المبحوح: بلطجة دولية!

ميشيل كيلو
أمسك العالم بإسرائيل وهي متلبسة بجريمة تزوير أو استعمال جوازات سفر دول مستقلة، خلال عملية إجرامية أودت بحياة مناضل فلسطيني كبير هو الشهيد محمود المبحوح، الذي اغتاله الموساد في دبي.
هذه ليست المرة الأولى، التي تتصرف إسرائيل فيها على هذا النحو المخالف لأي قانون أو عرف أو تقليد دولي. وليست كذلك المرة الأولى التي تتلقى فيها تعنيف وتوبيخ حكومات أجنبية حذرتها من إساءة استخدام رموزها السيادية، ومنها جوازات السفر الصادرة عنها، لكن تل أبيب ضربت عرض الحائط بالتحذيرات وتنكرت لتعهداتها بأن لا تكرر تزويد رجال أجهزة القتل السرية التابعة لها، وعلى رأسها جهاز الموساد، بوثائق سفر تصدرها بلدان أخرى، ثم أرسلت عشرات القتلة المحترفين لاغتيال مواطن دولة أخرى في دولة ثالثة ذات سيادة، بعد أن زودتهم بوثائق سفر بريطانية أو ايرلندية أو فرنسية أو امريكية أو استرالية… الخ.
من حيث عدد المشاركين فيها، تعد جريمة اغتيال المبحوح سابقة دولية لم تحدث حتى خلال الحروب. أما من حيث نوعها، فإنها تستحق وقفة تأمل جدية لا بد أن تعقبها أفعال منظمة ومدروسة على المستوى العربي العام، تتجه ليس فقط إلى البلدان صاحبة جوازات السفر المنتهكة، بل كذلك إلى العالم بأسره، مفسرة أسباب هذا السلوك الإسرائيلي الإجرامي وغير القانوني، الذي يكمن أساسا في مفهوم إسرائيلي يجعل سيادة الدول محدودة بالضرورة، لكونه يعتبر أي يهودي في أية دولة أخرى مواطنا إسرائيليا، شاء ذلك أم أباه، قبله أم رفضه. في هذا الفهم، اليهودي في أية دولة هو بالضرورة والقطع مواطن في دولة إسرائيل قبل أن يكون مواطنا في دولته الأصلية، لذلك تعتبر إسرائيل سيادة دولته علية محدودة لا تشمله كمواطن، أو تحول دون فرض سيادة إسرائيل عليه، بغض النظر عن موقفه الشخصي وخياراته السياسية. والغريب أن الدول المعنية، التي ينتهك الفهم الإسرائيلي سيادتها على مواطنيها، وخاصة منها الدول المتقدمة في أوروبا وأمريكا، لم تحتج إطلاقا على تقييد وانتهاك سيادتها على مواطنيها، فإن سلبيتها شجعت الكيان الصهيوني على انتهاك بقية مفردات ورموز هذه السيادة، كجوازات سفرها، التي دأبت الدولة الصهيونية على استعمالها في عمليات القتل، القذرة وغير القانونية، التي تنفذها في أربع أقطار الأرض، بحجة حماية أمنها ومحاربة الإرهاب الأصولي. لا حاجة إلى القول إن من يتساهل في شأن سيادي من شؤونه، لن يفتأ أن يقبل التساهل في غيره، حتى إن أرسل فريقا من الشرطة إلى فلسطين المحتلة للتحقيق في ملابسات استعمال جوازات سفره من قبل الموساد في جريمة دبي. القضية هنا ليست قضية أوراق يضمها جواز سفر، بل قضية سيادة بمعنى الكلمة، ومن يقبل انتهاك سيادته على مواطنيه، لمجرد أنهم يهود، يقبل أي أمر آخر، بما في ذلك محدودية سيادته، وانتهاكها من قبل إسرائيل، ويقبل منازعته ولاء مواطنيه، فلا عجب أن يبادر بعض هؤلاء إلى وضع جوازات سفرهم الأصلية في خدمة دولة الصهيونية، دون أن تعترض دولهم جديا على ما يفعلونه، ما دامت تقر بانتمائهم إلى إسرائيل : دولة جميع يهود العالم، بمن في ذلك الذين يرفضون الهجرة إليها أو يناصبونها العداء من اليهود، التي تدعي أن لها سيادة عابرة للدول، عابرة للحدود وكونية، تقرها الدول الأخرى وإن دون اعتراف رسمي، فلا يبقى غير مسافة جد قصيرة بين وضع كهذا وبين التلاعب برموز الدول محدودة السيادة، في المسائل التي تتصل اتصالا مباشرا باليهود ومواطنتهم، ويصير من المفهوم أن تسارع الموساد وغيرها من أجهزة الكيان الصهيوني إلى استخدام ما يخص الدول الأخرى دون رادع أو وازع، واستعمال مواطني هذه الدول في مهمات تقوض العلاقات الدولية وتنتهك أعرافها وقوانينها وشرعيتها. هل بعد هذا يثير الاستغراب أن تكون إسرائيل قد استعملت يهود دول أخرى خلال تنفيذ مهمات إجرامية كمهمة دبي، وأن تحمل هذه الدول، باسم الحرب المشتركة والمقدسة ضد الإرهاب، جزءا من المسؤولية عن ما تفعله، بل وتحولها إلى طرف وشريك في جرائمها.
يجب أن تبادر جامعة الدول العربية أو هيئة خاصة من هيئاتها الكثيرة إلى بلورة موقف ينبه إلى مخاطر ممارسات إسرائيل العابرة للدول، التي تجعل سيادة الدول الأخرى محدودة فعلا وقولا، ويلفت نظر العالم إلى ما قد ينجم عن هذا الفهم والممارسات الناجمة عنه من مخاطر على أمن وسلام العالم، ليس فقط من حيث يجعل بلدان العالم الأخرى، وخاصة المتقدمة منها، شريكة الصهيونية في عدوانها على الفلسطينيين والعرب، وفي احتلال أراضيهم، بل كذلك لأنه يمكن إسرائيل من التصرف كجهة ذات سيادة كونية تحد من سيادة الدول الأخرى وتورطها في أعمال تهدد الأمن والسلام العالميين، وتورط مواطنيها في جرائم تخدم مصالحها وسياساتها، رغم أنها قد تتعارض، أو تتعارض بالفعل، مع مصالح وسياسات بلدانهم الأصلية. في الموقف العربي المطلوب، يجب أن يكون الحديث حول جوازات السفر جزءا وحسب من الحديث الأساسي حول سياسات إسرائيل، التي تجعل سيادة الدول الأخرى محدودة بالفعل، وتتعامل معها بصفتها كذلك. بغير هذا، قد تدخل الجهود العربية الراغبة في معاقبة إسرائيل، وهي تكاد تكون معدومة إلى اليوم، في متاهات متشعبة، وتضيع الحقيقة في جدال لا نهاية له ولا جدوى منه مع الدول صاحبة العلاقة، وتطرح حلول مزعومة تقع خارج أي سياق مقبول، تأخذ شكل تسويات وقتية ومنفردة مع هذه الدولة أو تلك، مثلما حدث في مرات سابقة، استخدم الموساد فيها جوازات سفر تابعة لدول أخرى، وحين احتجت تمت ترضيتها وحصلت على تعهد بعدم تكرار ما وقع، لكن هذا كله ذهب أدراج الرياح، مثلما تبين خلال جريمة قتل المجاهد المبحوح.
ثمة بلطجة دولية في عقل ومفاهيم الصهاينة هي أساس البلطجة الدولية في ممارستهم وتصرفاتهم. من هنا، لا يكفي فضح الثانية والتركيز عليها، بل يجب إبراز الأولى والتصدي لها بعزم وتصميم وصبر، ما دامت القضية ليست قضية تقنية تتصل باستخدام جوازات سفر، بل هي قضية استراتيجية وسياسية ترتبط بنمط من فهم العلاقات الدولية وسيادة الدول يكمن فيه أصل الإجرام الإسرائيلي ومذهبه ومعناه.
ارتكب الصهاينة جريمة نكراء في دبي، فلا أقل من أن نحول هذه المرة بينهم وبين النجاة بفعلتهم، وأن نعمل جديا لفضح وإبطال ما يترتب على إتباع يهود العالم بالكيان الصهيوني واعتبارهم مواطنين فيه يلزمهم بسياساته وجرائمه. ولا بد من أن نجعله يدفع ثمنا فادحا هو وحده العقاب المستحق على ما فعلته يداه الآثمتان. فهل نحزم كعرب أمرنا ونعمل شيئا في هذا الاتجاه، كي لا يضيع دم المجاهد الشهيد اليوم، ودم غيره غدا؟.

‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى