صفحات الحوار

المخرجة التونسية مفيدة تلاتلي: قهر المرأة العربية صناعة نسائية

null

كرمها «مهرجان كان السينمائي» بعد أكثر من 20 جائزة

باريس: آمال فلاح

نالت أكثر من عشرين جائزة عن فيلمها الأول «صمت القصور» وترسخت عبر السنين كأهم رواد السينما التونسية، على الرغم من قلة أفلامها. تشرّح النسيج الثقافي والاجتماعي لبلدها بجمالية نادرة… وها هي في الواحدة والستين من عمرها تحظى بتكريم سيد المهرجانات، مهرجان كان السينمائي الدولي، في دورته لهذا العام بعد أن كانت عضوا في لجنة التحكيم عام 2001. اكتشفها الجمهور أول مرة عام 1994 عندما فاز فيلمها «صمت القصور» بجائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان، ليحصد بعد ذلك أكثر من عشرين جائزة. وها هي إدارة المهرجان تختار مفيدة تلاتلي للمشاركة في ندوة تحت عنوان «السينما والالتزام» ضمن تظاهرة «أسبوع النقاد»، كما رشحتها للإشراف على طاولة مستديرة تحت عنوان «حول سينما المرأة العربية». نفس الموضوع الذي ناقشته مع مخرجات عربيات أخريات في الثامن من مارس المنصرم في معهد العالم العربي، حيث كان لنا هذا اللقاء:

* لم تبدئي حياتك بالإخراج السينمائي، بل بالمونتاج. فما الذي أضافه لك في رؤيتك للإخراج؟ وما الذي أضافه لك العمل مع أبرز المخرجين العرب والتونسيين؟

في البداية، درست التركيب في باريس واشتغلت كثيراً في التلفزة الفرنسية ثم كان لي حظ الاشتغال كمونتيرة مع عدة مخرجين بارزين تونسيين وعرب في أهم أعمالهم، «عمر قتلتو الرجلة» لمرزاق علواش، «نهلة» لفاروق بلوفة، «ظل الأرض» للطيب لوحيشي، «الذاكرة الخصبة» لميشيل خليفة، «الهائمون في الصحراء» لناصر خمير، «حلفاوين» لفريد بوغدير. كانت الفترة بين عامي 1970 و1990 غنية جداً بالعمل المتواصل وبالتجارب الممتعة.

المونتاج كان ملائما لشخصيتي الباحثة عن الكمال. كان علي أن أجد حلولا من اجل تنسيق وترتيب المشاهد لأعطي للفيلم وتيرته ونسقه. صحيح أن المونتير ليس هو صاحب الفيلم وأن عمله مرتبط أساسا بالمادة المتوفرة وبتوجيهات المخرج. لكن عندما تكون المشاهد رديئة ينكشف ذلك أثناء التركيب. كنت أتعلم أثناء التركيب مهنة الإخراج عبر أخطاء ومهارات من اشتغلت معهم، دون وعي مني. وجاء «صمت القصور» عام 1993 حصيلة لكل ما تعلمته.

انبثقت فكرة الفيلم عندما بدأت أدرك صعوبة تحقيق التحرر الداخلي والعجز الذي تعاني منه النساء في مجتمع يسيطر عليه الرجل. هذا الفيلم، على الرغم من أن أحداثه تجري زمن الاستعمار الفرنسي، إلا انه يدور في فضاء مغلق لا تجرؤ الشخصيات على تجاوز أسواره. عالم نساء مغتصبات، مسحوقات، نساء من الدرجة الثانية. اخترت أن أتغلغل داخل نفسية المرأة التونسية المستلبة عبر تقديم نماذج عديدة لحالات مختلفة، لكن دون أية شعارات.

استفدت كثيراً من تجربتي في الإخراج لأنها سمحت لي بالتعبير عن آلام والدتي وشقائها، وحياة والدتي كانت صورة عن حياة أغلب النساء في شمال إفريقيا. كما سمحت لي بالكلام عن أمور كان مسكوتا عنها.

* ذكرت في حوارات عدة أنك توقفت عن العمل بعد إصابة والدتك بالزهايمر، وأن مرض الوالدة جاء احتجاجا على وضعيتها كامرأة خدمت الأب طوال حياتها ولم تجد حلا لوضع حد لعبوديتها سوى الغرق في المرض. وأن جل سيناريوهات أفلامك مستوحى من حالة الأم.

أظن أن نهاية العديد من نساء تلك الفترة كانت على شاكلة نهاية والدتي. نوع من الاستقالة من الأشغال المفروضة عليهن منذ الصغر. اهتممت بأمي طيلة سبع سنوات، تحولت خلالها إلى أم لإخوتي وأخواتي. وعندما تصديت للإخراج وجدت متنفساً رهيباً لآلام عشتها منذ الصغر وتنفيساً عن وضعية لم توجد داخل البيت الأسري فحسب، بل لها امتداد في المجتمع الذي أعيش فيه.

* هناك معادلة نجحت في الحفاظ عليها: لفت الانتباه إلى معاناة المرأة العربية دون السقوط في الخطاب المباشر وفي الأنثوية. فإلى ماذا يعود ذلك؟

النساء العربيات لسن ضحايا الرجل فقط. فهن من يعيد إنتاج التقاليد البالية. قوانين تحرير المرأة موجودة لكن النساء لم يغتنمن الفرصة. هن ضحايا أفكارهن وقيمهن. فهن يربين أولادهن الذكور على نفس المبادئ وعلى البنات أن يعملن المستحيل ليصلن إلى النجاح. إن أسباب القهر، خارجية وداخلية خاصة في شمال إفريقيا حيث العلاقات متوترة بين النساء والرجال، وحيث النساء يخلقن أغلالهن بأنفسهن. في «موسم الرجال» حاولت تصوير عالم متحرر من وجود الرجل، لكن القهر ما زال موجوداً. فالحموات تسيرن زوجات خاضعات بعصا من حديد في غياب الأزواج. النساء لم تمتلكن بعد أدوات التعليم الكافية لاتخاذ القرارات.

أدرك أيضا أن المرأة الآن تتمتع بحرية أكبر من السابق، فهي تدرس وتعمل وتختار زوجها لكن هذا التحرر لم يطل جميع النساء. هناك هوة تفصل بين الواعيات وغير الواعيات، بين نساء القرى ونساء المدن، بين النخبة وبقية الشعب.

* أنت مقلة في أعمالك (ثلاثة أفلام «صمت القصور» 1994، «موسم الرجال» 2000، «ناديا وسارة» 2004) هل ذلك راجع لمسؤولياتك الأسرية أم أنك بحاجة للتمهل من أجل بلورة أفكارك وجمالياتها؟

أنا بصدد تحضير فيلمي الرابع الذي سوف يتم تصويره بتونس وربما حمل اسم «الأيادي الصغيرة». ثم إني لا أصطنع الحدث. دائما أنتظر أن تأتي الأفلام إليّ. كما أفضل أن أصنع أفلامي في تونس، لا بالخارج.

* آخر أفلامك مستقى من تجربة جد شخصية لم تلتفت إليها حتى المخرجات في الغرب وهو سن اليأس وما يخلفه لدى المرأة من توترات.

تعاونت من قبل مع قناة «آرتي» الفرنسية التي أنتجت «موسم الرجال»، فكان أن اتصلوا بي لإنجاز سلسلة أمهات وبنات. وفي الوقت الذي عرضت عليّ هذه الفكرة كنت قد وصلت إلى سن اليأس، وكنت أعيش هذه الفترة بتوتر شديد جعل علاقتي متوترة مع ابنتي فجاء فيلم «ناديا وسارة» تقريبا تحت الطلب، لكن ما جعله مهما بالنسبة إلي هي تلك التجربة التي واكبتها واستلهمتها فيما بعد. تجربة امرأة من وسط متواضع كانت تعيش نفس الوضع، لكنها بدأت تغرق في الجنون وتمزق كل الأشياء الملونة بالأحمر. جاء الفيلم مزيجا بين قصتينا وكأنه لعبة مرايا. وفي لعبة المرايا تلك تتدهور صورة البطلة وهي تعيش ضياع معالم أنوثتها في الوقت الذي تستيقظ فيه أنوثة ابنتها. ما حاولت أن أعرضه هو ذلك التدهور المأساوي لأم تفقد وضعيتها كامرأة. وحين تحدث القصة في وطني تتخذ هذه الحالة أبعادا خاصة. إنها تفضح الوجه العصري لتونس التي عملت منذ عام 1956 على سن قوانين لتحرير المرأة لكنها مازالت ترزح تحت عبء التقاليد الراسخة.

* حسب آنياس فاردا «تصبح المرأة لا ملاكا ولا عاهرة عندما تصورها كاميرا تقف خلفها امرأة»، فهل تظنين أن هناك اختلافاً جوهرياً في الرؤية إلى المرأة بين مخرج رجل ومخرجة امرأة؟

الاختلاف الأساسي يكمن في النظرة إلى الأمور. الرجل كان دوماً من يحكي الروايات الرسمية للتاريخ والآن وقد غزت المرأة عالم الإخراج، فإنها حتما سوف تروي الحكاية من منظورها هي ومن معاناتها وتجاربها الخاصة.

* كيف تنظرين أنت إلى أفلامك؟

هي محاولات لسرد حكايا تساعد الناس على التفكير في أمور يرونها بديهية. وعندما أصور شخصياتي، أحاول التقاط كل التناقضات التي تمنع تطور هذه الشخصيات وتصنع جحيمها. فعندما تطلب عائشة في «موسم الرجال» من زوجها أن تلتحق به، يوافق الزوج لكن حالما تلد ابنا معوقاً ويصر الأب على تعليمه في مدرسة خاصة، تقرر عائشة العودة إلى «جربة»، حيث لا أحد سيتطلع على إعاقة ابنها. إنها تريد أن تغير حياتها بسرعة من دون أن تأخذ بعين الاعتبار وتيرة الزمان والمكان في جربة أو في تونس. هي تريد هذا الابن الذي سيحررها ويسمح لها بالذهاب إلى العاصمة، وفي الوقت نفسه ترفض هذا الطفل لأنه يمثل تفوق الرجال على النساء، وفي النهاية يعود بها إلى الوضعية التعيسة التي غادرتها.

لست مختلفة عن شخصيات أفلامي. كل شخصية تحكي تجاربي الخاصة لكني أسعد حظا من شخصياتي لأنني أتمتع بفضيلة الحوار والتواصل، مع زوجي، ومع محيطي. لا أنسى أبدا أن الفضل يعود إلى والدتي في اختياري لمهنتي. فهي ترمز لجزء كبير من حياتي أردت أن أتناساه فتحول إلى معادل موضوعي في أفلامي. وقد رأيت في مرضها تظاهرة لثورة داخلية وحاجة ملحة لإحداث قطيعة مع الواجبات اليومية الثقيلة التي لم تتوقف أبدا.

مصير كل منا ليس محددا فقط بالطرق التي اختار شقها في حياته بل أيضا بكل تلك الطرق التي تجنب سلوكها. المهم أن يبقى دائما صافي الذهن ليقول لنفسه ان الأمور يمكن أن تمضي نحو الأحسن.

جريدة الشرق الاوسط


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى