الأزمة الاقتصادية تعيد ماركس إلى الصدارة
معتز حيسو
ما إن دُقت أجراس الأزمة الاقتصادية الراهنة، حتى بادر غالبية الباحثون الاقتصاديون التنقيب في ذاكرتهم عن فكر ماركس لتحديد أسباب الأزمة الاقتصادية، ومدى تأثيرها على النظام الرأسمالي، ليستنتج البعض متسرعاً بأنها أي الأزمة بداية نهاية الرأسمالية.
ولا نجافي الحقيقة بقولنا بأن الفكر الماركسي مرتبط موضوعياً بسياق التطور الرأسمالي، وطالما الرأسمالية موجودة فإن ماركس حياً لم يمت. لماذا؟ لأن فكر ماركس يشكّل المجال الموضوعي لدراسة الرأسمالية وآفاق تطورها. وبذات اللحظة يشكل النقيض الموضوعي لها، لكونها تقوم على التناقض.وبقاء الرأسمالية يفترض بداهة استمرار التناقض الطبقي وتجدد الفكر الماركسي، لكن استمرار تأثير الفكر الماركسي لا يرتبط فقط باستمرار تطور الرأسمالية ، بل بإمكانية قراءة الماركسية نقدياً، بمستويات وأشكال تعبّر عن جوهر مرحلة من أهم سماتها التطور والتغيّر. وهنا نؤكد بأن الماركسية معنية لاستمرار بقاءها وتطورها إعادة الاعتبار للديمقراطية، لكونها أساس تطور وارتقاء الفكر البشري، وبكونها القضية المحورية والمركزية لتحقيق إنسانية الإنسان، بعد أن سفحتها تجارب (( الاشتراكية المحققة)) التي لم تتجاوز عتبة رأسمالية الدولة الذي حاول لينين التأسيس لها عبر سياسية النيب.
ليس دفاعاً عن ماركس، لأن راهنية فكره تفترض استمرار تجدده، وأيضاً لأن تطور الرأسمالية يفترض بقائه لكونه الأقدر حتى اللحظة على قراءة الرأسمالية، وتحديد أسباب أزماتها و آفاق تطورها. لذلك وبعيداً عن الغوص في تفاصيل، نرى أنه من الضرورة بمكان التأكيد بأن ماركس أكد أن الرأسمالية تشكل نمطاً اقتصادياً عالمياً تتجاوز في سياق تطورها كافة الأنماط والأشكال الاقتصادية السابقة لها، وتعيد تجديد ذاتها في سياق تطورها على أنقاض تجاوز أزماتها الدورية والبنيوية، ما دام بديلها الطبقي يعاني من أزمة ذاتية وموضوعية تحد من تحول الأزمة البنيوية للرأسمالية إلى أزمة عامة.
لكن يجب التنويه بأن تراكم التطور الرأسمالي يفضي موضوعياً إلى تزايد حدة الاحتكار(( الاحتكارات الخمسة))، وبالتالي تزايد شدة التباين والتناقض الاجتماعي الذي يفترضه قانون التطور المتفاوت.
إن قراءة أسباب ونتائج الأزمة الاقتصادية الراهنة، يؤكد مبدأ التناقض الذي يهيمن على الرأسمالية، مما يعني بأن تنامي الثورة العلمية ــ التكنولوجية بقدر ما تنعكس إيجابياً على أشكال الحياة اليومية، فإنها تعمّق حدة التناقضات الاجتماعية من خلال ازدياد معدل البطالة طرداً مع تطور التقدم التقني الطارد للقوى العاملة الحية، مما يعني تفاقم الأزمة الاجتماعية. لذلك فإن شكل الحصول على القيمة الزائدة يتغير ويتبدل نسبياً مع تنامي التطور التكنولوجي وبالتالي تغيّر التركيب العضوي لرأس المال، ليحل مكان قوة العمل البشري تكنولوجيا ذات إنتاجية العالية بكلف إنتاجية ضئيلة. إن خروج الإنسان نسبياً من دوائر الإنتاج يعني بداهة انحسار تأثير الطبقة العاملة الصناعية في التحول الاجتماعي. ونتساءل ؟ ما هو مصير الفئات العمالية التي يتم إطلاقها لسوق البطالة في ظل تنامي ظاهرة الاحتكار والتطور التكنولوجي وعولمة رأس المال الذي يميل للمضاربات، وفي ظل تضاؤل التوزيع العادل للثورة؟ هل يمكن أن نتوقع تغيّر في أشكال الثورات الاجتماعية بعد أن فقدت الطبقة العاملة دورها القيادي؟ وهل الأحزاب الشيوعية بطابعها الشمولي الفاقد والطارد للديمقراطية يمكنه مجدداً قيادة المجتمع والحراك السياسي ؟؟؟ نشك في ذلك لأن الديمقراطية باتت تشكل روح الممارسة السياسية، مما يعني بأن تحول الماركسية إلى أيديولوجيا شمولية، كان الفيصل الذي استوجب دمقرطة العمل السياسي والمدني،وأيضاً التحول إلى سياق التطور الموضوعي العام،وهذا ما نلحظه في التغيّرات التي طرأت على التجربتين السوفيتية والصينية، التي تحولت إلى الاقتصاد الرأسمالي حتى لو لم تخرج التجربة الصينية من عباءة الحزب الشيوعي. وهذا يستدعي التأكيد على أن قانون التراكم الرأسمالي في البلدان الصناعية، إما أن يميل في تطوره إلى تجاوز عتبة الرأسمالية لينتقل إلى الاشتراكية، وإما أن يعزز علاقات الإنتاج الرأسمالي. لذلك رأينا أن سياق تطور العلاقات الإنتاجية الصينية يميل لتعزيز نمط الإنتاج الرأسمالي، وهذا يؤكد صوابية التحليل الماركسي، لكن مع بقاء دور الدولة الوظيفي، الذي يفترضه ويحدده شكل تطور رأس المال، وحاجته لدور الدولة في الحفاظ على هيمنته. مما يعني بأن تراكم رأس المال من مرحلته الأولية وحتى اللحظة، كان بحاجة إلى قوة مادية ( عسكرية، قانونية، علمية، تكنولوجية ..) تؤمن استمرار توسعه وهيمنته عالمياً، عدا إنها تعمل لضمان تجديد هيمنتها في لحظات محددة إلى تفعيل التوتر والتناقض السياسي و الاجتماعي على أسس عشائرية و دينية أصولية. لذلك فإن تجاوز تناقضات الرأسمالية لا يتم بأدلجة الفكر والرغبات الإرادوية تلوي عنق التاريخ في سياق إخضاع تطوره لقراءات حتمية، إننا نحتاج لتحليل علمي يمكّننا من تخفيض حدة التناقضات الاجتماعية والاقتصادية وتجاوز تناقضات الرأسمالية في سياق التطور العام. مما يعني بأن العولمة في شكلها الراهن، تعبّر عن سياق تطور موضوعي لثورة التكنولوجيا والاتصالات التي ارتبطت مع توظيف الفكر الاقتصادي لتجاوز الأزمات الاقتصادية، وتطوير معدلات النمو على أسس تضمن حرية رأس المال، وترافق اتساع الميل الرأسمالي مع تراجع رأسمالية الدولة والأحزاب الشمولية نسبياً، ليستعيد مفهوم الديمقراطية بأشكاله ومستوياته المتنوعة صدارة الممارسة السياسية والمدنية، التي تشهد تحولاً لافتاً في التركيز على (حقوق الإنسان) على مختلف المستويات.
نخلص إلى أن الاقتصاد المعولم في سياق أزمته البنيوية الراهنة، يعبّر عن اختلال توزن القوى الدولية سياسياً واقتصادياً،وتعمل الدول الكبرى على توظيف تطورها التكنولوجي والعلمي والعسكري لضمان هيمنتها عالمياً … ونؤكد بأن آفاق تطور الأزمة مفتوح على عدة احتمالات. لذلك على القوى السياسية والاجتماعية التي تعتمد الماركسية أداة تحليل، أن تنفض الغبار عن عقلها المؤدلج، وتعيد قراءة الفكر الماركسي بعقل علمي وديمقراطي منفتح، لإعادة ماركس لجذره العلمي، الديمقراطي، الاجتماعي.