مآخذ منهجية على الليبرالية العربية
إحسان طالب
تلتقي كثير من التيارات في عالم الفكر والثقافة و السياسة الإصلاحية الصاعدة في تطلعاتها قبالة العدالة و المشاركة و المساواة وتتشاطر مقارباتها لحالة الشعوب و المجتمعات العربية الراهنة ضرورة الخروج من بؤس الواقع ووقف حال التدهور و الجمود المهيمن ،إلا أن الجو السياسي المضطرب وتأزم الموقف والقرار ينقلب إرباكا شديدا ولدته النتائج المخيبة للآمال لمشاريع نشر الديمقراطية وتبني منظومة أفكار حقوق الإنسان، وإذا كان اللوم لا يلقى على عاتق الفكرة و المبدأ فان سهام النقد والتجريح توجه حيال المنهج الليبرالي ومفرزاته وتحمله مسؤولية الوضع المتردي ومآلا ته المستقبلية، وبصرف النظر عن دقة ذلك التقويم أو مبالغته فالوقوف عند النقاط الرئيسة المعالجة لذلك المنهج مسألة موضوعية تلزمها قواعد البحث والتقصي .
كان رواد النهضة العرب وهم أبرز الوجوه الليبرالية واثقون من مثالية النموذج الغربي الأوربي واستشرفوا فيه العلاجات الناجعة لأمراض الشرق وكان اعتقادهم بضرورة تطبيقه حتمية: يقول طه حسين : نريد أن نتصل بأوربا اتصالا يزداد قوة من يوم إلى يوم حتى نصبح جزءا منها لفظا و معنى وحقيقة وشكلا،وعلينا أن نشعر الغربي بأننا نرى الأشياء كما يردها ، ونقوم بالأشياء كما يقومها ،ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها ) (1) . تلك الرغبة في استنساخ التجربة الأوربية لم تكن في الواقع عملية ولا علمية لاختلاف الخلفية التاريخية للمنطقة العربية اجتماعيا و فكريا و سياسيا كونها منيتة عن البيئة التي طرحت فيها ولعل ذلك أحد الأسباب التي ألت بالتجربة الليبرالية للبقاء ردحا من الزمن حبيسة فكر النخب ولم تتمكن من خلق جذور جماهيرية لغربة الخطاب و انعدام تماسك الهوية الليبرالية . يقول كمال عبد اللطيف في كتابه (سلامة موسى و إشكالية النهضة : إن مسيرة الثورة الكمالية كانت تتجه نحو غرب رأسمالي أي نحو تمثل مكتسبات البرنامج الليبرالي بشكل كاريكاتوري ، نقل الفكر و الممارسة الجاهزة و محاولة تطبيقها في مجتمع تحكمه شروط مخالفة لشروط تحققها التاريخي )صفحة 185
لقد كانت التوجهات الليبرالية العربية في سياقها خارج التاريخ الذي نشأة فيه وفي بعض جوانبها اندهاش بلغ حد الصدمة بالغرب المتطور علميا و المتقدم سياسيا و اجتماعيا تسبب بردة فعل أحدثتها المطروحات الغربية قبالة سيادة الفكر الغيبي واستبدادية الحكم الفردي ، لقد كان تشخيص الداء واضح الملامح محدد الأطر لكن العلاجات كانت مقلدة و منسوخة عن وصفة طبيب بعيد لمريض أخر لم يعاينه ولم يختبر أوجاعه فآلت التجربة إلى نتائج سطحية استعجلت الشفاء فكانت انتكاسة المريض أشد وطأة و تأخرت طويلا لتتطور وتحدد ملامحها وإلى حد ما هويتها. ردة الفعل تلك تجلت في محاولة دائمة لاستجلاب الصورة الغربية وتعليقها مكان النموذج السلفي السائد :(إن ازدواجية المثقف السلفي وتوتره بين الشرق و الغرب ، ثم تمسكه بالشرق وبالتراث تقابل عند المثقف الليبرالي بالسعي الدائم للبحث في التاريخ الثقافي للغرب ، ومحاولة استنساخ جوانب من بالصورة التي تجعل الشرق غربا تابعا مهيمن ، أي لغرب لا مفر من سطوته و جبروته ، الانتقائية هنا بديل لا تاريخي لازدواجية وتخلف الرؤية السلفية ( المصدر السابق 232
وفقا لذلك التحليل يمكننا القول بأن الليبرالية العربية لم تبحث عن خطاب تأسيسي ( وهذا ما نسعى في الواقع لنقوم به هنا ) يصلح منصة انطلاق لصيانة وبلورة قراءة قادرة على تحديد قاعدة ينيوية يتشكل حولها و عليها كيان فلسفي فكري يجادل السلفية والشمولية من شط عقلاني محايد مؤهل بالمنطق التاريخي يطرح حلولا قريبة في سياقها من الشرط المكاني و الزماني للبيئة التي يرجى علاجها من سطوة الغيب ومبررات الاستبداد
ينحاز المنهج الليبرالي إلى قناعة إستراتيجية ترى العالم فضاء مفتوحا أمام المنطلقات الإنسانية ، يتجاوز الحدود ولا يعبأ بالموروثات الوطنية والقومية الممانعة و المعارضة، ويتبنى فكرة إعادة صياغة قيم ومفاهيم السيادة وحدود التدخل الدولي في المسألة الوطنية ، ولا يرى تدويل الصراعات الداخلية خطرا أو سببا لضياع الهوية .هذه الرؤيا تأسست وفق معلمين رئيسيين الأول هو الميل بالعموم صوب النموذج الغربي واتخاذه أمثولة وقبلة تميل القلوب و العقول إليها تستجدي الحلول وتقتفي أثر المدارس الحديثة في الاقتصاد و الاجتماع و السياسة .ومبرر ذلك الفشل المزمن لمشاريع تاريخية و أخرى تقليدية تواءمت مع أنظمة شمولية ورثت الهزيمة وجذرت التخلف،كانت على الدوام متصدية لأفكار الحرية والديمقراطية لا تعبأ بحقوق الإنسان أذاقت الشعوب ويلات القهر بذريعة التصدي لسياسات الهيمنة و التسلط العالمي . المعلم الثاني هو إعادة صياغة الأولويات وبروز المفهوم الإنسان المجرد كقيمة عليا تطغى على ما دونها من القيم حيث غدا تحرير العقل مقدما على تحرير الأرض ، وصارت القيم الإنسانية مقدمة على القيم الوطنية وباتت حقوق الأقليات العرقية و الدينية في طليعة هموم الكتاب وهيئات الحقوق المدنية، في خضم هذا المنهج العمومي مالت بعض القوى العربية إلى تبني العولمة وارتبطت بها ورأت في أجواء التدخل الدولي حلا قريبا لأزمات الشعوب ومشاكل الدول .راجع الملحق رقم واحد :مشروع لبرنامج ليبرالي سوري.
كذلك يميل المنهج الليبرالي صوب أيديولوجية رأسمالية بعيدة في منطلقاتها النظرية عن أولوية العدالة الاجتماعية قريبة من قبول تحقيق الربح على حساب الطبقات الأكثر عوزا و حرمانا،وإذا كان التطور المدني و السياسي في الغرب سمح بمستويات معقولة تحقيق التوازن الاجتماعي وفق منظومة حقوقية و دستورية ،فإن الانعكاسات الخارجية للبرالية الجديدة على شعوب العالم الثالث باتت تشكل خناقا شديدا على مقدرات وثروات البلدان النامية وتحرمها من السيطرة وإدارة إمكاناتها الطبيعية يما يمنع من تحقق متطلبات وحاجات الأفراد و المجتمعات وطموحاتها الوطنية و القومية.
تلك المسؤولية الملقاة على عاتق السياسات الغربية و الأمريكية حملتها رياح الضيق من مأساة عالمية تحل الفوضى و الاضطراب في أماكن مختارة على الخريطة الدولية نالت منطقتنا العربية قسطا وافرمنها وألقتها فوق الفكرة الليبرالية العربية و متبنيها بالتبعية و التسلسل
هذه الرؤيا السطحية أججت الهجوم على المنظومة الفكرية الليبرالية وأشعلت هاجس ارتباطها بالأمركة وما نجم عن عسكرة العولمة من تشظي الصراعات الوطنية نحو صراعات طائفية وعرقية وتفاقم النزاعات الإقليمية على الحدود و الموارد وتحولها لنزاعات مسلحة . وربطت أشكال مناهضة العولمة بالعداء لتك المنظومة وحملتها أوزار ومفاسد النظام العالمي الجديد 🙁 حددت حركات مناهضة العولمة موقفها المبدئي بمعارضة الليبرالية الجديدة السائدة على نطاق العالم باعتبارها لا يمكن أن تنتج سوى ما تراه حاليا وهو استقطاب الثروة و التدهور في أحوال شعوب بكاملها وتنامي الزعامة العسكرية و الاحتلال ..) 6
تزامنت الدعوة إلى ممارسة الديمقراطية ونشر ثقافة حقوق الإنسان وحماية وجود وحقوق الأقليات العرقية و الدينية في نهايات القرن الماضي مع سيادة الليبرالية الجديدة، وباتت سيادة الديمقراطية متداخلة بصورة مباشرة مع حرية السوق وسياسة الانفتاح الاقتصادي مما تسبب في إلحاق الضرر بالمبدأ و الفكرة الليبرالية القائمة أساسا على فلسفة الحرية وقيمة الفرد العليا .وتكمن المشكلة الرئيسة هنا بذلك الربط الذي يفاقم الخشية من سيطرة أو انتشار تلك الفلسفة المتزامن مع اتساع الهوة بين الفقراء و الأغنياء بين الشمال و الجنوب وبين الشرق و الغرب بما تحمله الجهات الأربع من تنوع وتعدد ثقافي وسياسي و اجتماعي . وتباين مجحف لطبيعة الحياة المعيشية لأناس ينفقون المليارات من الدولارات على الكماليات بينما لا تجد الملاين على الطرف الآخر ما تسد به رمقها، تلك الخشية بجانبها الاقتصادي الخارجي محقة في حين أنها مجحفة إذا ما طبقت مقاييسها على الداخل فالليبرالية المتوحشة كما يعرفها عبد الرزاق عيد ( هي تلك النخب من أساطين المال الذين يفترسون الحدود الدولية و القيود والوطنية على حركة رأس المال حيث تنتشر على ساحات القارات دون رقابة ضريبة أو جمركية أو حدود سياسية). وهي (الحرب ضد أي عائق يقف ضد الربح ، هي القوة العسكرية والاقتصادية التي تفتت أي مفهوم أو قيمة تقف في طريق مشاريعها في الهيمنة و السيطرة )هي السياسات الدولية التي لا تمانع بإسالة الدماء البشرية مقابل إسالة النفط والسيطرة على إمدادات الطاقة ذلك هو الجانب الموحش حقا الذي يستغل عن سوء قصد لضرب التوجهات الليبرالية الإنسانية العربية البريئة من سياسات لا تقيم اعتبار للبشر خارج منظومة الغرب الجغرافية و الثقافية والبعيدة كل البعد عن تصورات فلسفة الحرية المنبعثة أصلا من الإنسان المتقمص لصورة المطلق . لقد تطورت الفلسفة الاقتصادية الليبرالية التي بدأت متوحشة وسارت نحو آفاق إنسانية و اجتماعية و ما نشهده في العشر الأول من القرن الواحد و العشرين هو ارتداد لفعل وتشويه لفكر استمر في المعالجة و الصيانة ليبلغ منطقة يكون التقدم والتطور في خدمة البشرية كلها وسببا لوقف معاناتها وليس العكس .
على الصعيد السياسي الذي تشكل الانتخابات العامة انعكاسا لتاريخه يأخذ على الليبراليين العرب عجزهم الحالي عن تشكيل تنظيم سياسي جماهيري ذو امتدادات عربية أو إقليمية خلافا للأحزاب الدينية و القومية التي استطاعت رغم كل الصعوبات تحقيق حشد جماهيري عريض مؤيد لها و مناصر لمنطلقاتها ، فأحزاب الإسلام السياسي ما زالت تحظي بجماهيرية عالية و في كل الفترات بما في ذلك فترة صدامها مع السلطة و إلى الآن، كذلك مازال حزب البعث العراقي يحظى بتأيد معقول بعد احتلال العراق و توابعه ذلك الواقع كان في الماضي و لم يتغير كثيرا في الحاضر و إن باتت الغلبة للتيار الديني غير مسبوقة . وإذا كانت بعض لأحزاب المعروفة سابقا كأحزاب يسارية تحولت بطريقة أو بأخرى صوب الفكرة الليبرالية فان ذلك لا يعني قيام أحزاب ليبرالية بما تحمله الكلمة من معنى ومازالت قاصرة عن تلبية مقومات المنظومة الفكرية والسياسية لليبرالية بمفهومها الفلسفي .وربما يمكن عد حزب الوفد المصري أول حزب ليبرالي عربي إلا إننا لا نستطيع إيجاد امتداداته العربية أو الإقليمية خارج مصر ، و حتى في مصر لم يستطع الاستمرار بصورة فاعلة في الحراك السياسي داخل الشارع المصري بعد ثورة يوليو مع أن السبب يعود لسياسة الحزب الواحد المطبقة آن ذاك لكن على الصعيد الجماهيري لكنه لم يتمكن من استقطاب الجماهير عندما أتيحت له الفرصة أيام حكم الرئيس السادات وازداد الوضع سوءا في الوقت الحاضر .في عام 1984 حصل حزب الوفد على 58 مقعدا في البرلمان وفي عام 1987 حصل الحزب على 25 مقعدا وفي عام 1995 حصل على ستة مقاعد وفي سنة 2000أبقى على نفس العدد و في الانتخابات البرلمانية الأخيرة لمجلس الشعب المصري و التي جرت في 20|10 عام 2005 نالت قوى المعارضة المتمثلة في الجبهة الوطنية للتغير و التي تضم حزب الوفد و حزب التجمع اليساري و آخرون ستة مقاعد فقط ، وهذا يشكل في الواقع فشلا شعبيا مريعا للأحزاب السياسية العلمانية عموما جديرا بالدراسة و التحليل . ولعله يعكس الهوة العميقة الموجودة بين ما تذهب إليه النخب الثقافية _ خارج التيار الديني _ و بين الرأي العام العربي.
الليبرالية المفرطة :
التعبير المباشر الواضح عن العولمة الليبرالية المفرطة هو التحكم المطلق لرأس المال على ما سواه في العالم ، و اتخاذ ما يلزم للوصول إلى الهيمنة و السيطرة .
لقد شكل المنهج الليبرالي الاقتصادي على الدوام عائق أمام قبول الحريات والقيم الليبرالية عموما وطغى في كثير من الأحيان على الرؤية الفلسفية للإنسان التي تلتقي حولها النظريات الفكرية الوضعية، لما يعتري ذلك الجانب من مخاطر وإشكالات بالغة التأثير في حياة الفرد وعلاقات الإنتاج وتوزيع الثروة بين أبناء الوطن الواحد ، تلك المخاطر أخذت منحا تصاعديا متطورا تنامى ليصبح هما كونيا تلتئم حوله مجموعات و منظمات في الدول النامية و المتقدمة على حد سواء . جزء مهم من ذلك عائد للخلفية اليسارية الفكرية والسياسية التي توارثت العداء للغرب دغمائيا وعارضت منتجاته الإنسانية وشككت في أطروحاته المنادية بالحرية و الديمقراطية استنادا للنتائج المخيبة و الخطيرة لتك الدعوات و انعكاساتها السلبية. .على الضفة الأخرى أفرزت التطورات الجيوسياسية العالمية و التغيرات الإستراتيجية الإقليمية المرافقة لرزمة الهزائم و الإخفاقات المحلية منذ ثمانينيات القرن الماضي، نخبا ثقافية فكرية دأبت على المراجعة و النقد الذاتي بموضوعية حينا ً و ردود أفعال أحيانا أخرى نقلت البعض إلى الجانب الآخر تماما نحو الليبرالية المفرطة – بذات الطريقة التي تبنت فيه أفكارها القديمة – فلم تعد ترى مشكلة في التوسع الرأسمالي وعولمة الموارد الكونية، غير معترضة على حرية حركت الكتل النقدية و الاحتكارات الدولية متناغمة مع التحرر الكامل للتجارة العالمية متغافلة عن احتكار التكنولوجيا و تصدير الصناعات الخطرة إلى دول العالم الثالث عازية التخلف والفقر لبيئة داخلية بحتة .تلك التصورات المفرطة الجانحة نحو المحافظين الجدد أغفلت الأخطار الكونية الناجمة عن سياسات صناعية ألحقت بالبشرية كوارث كونية تثيرها بإلحاح أزمة الغذاء العالمي الخانقة و ارتفاع أسعار المواد المعيشية الرئيسة.
إن أيديولوجيا ألاستهلاك الرأسمالية باعتبارها منظومة أفكار مترابطة تتحكم وتسير سلوكيات الدول و المجتمعات الغربية، انقلبت ندرة خطرة و صراعات مدمرة و استنزافا مجحفا للموارد الطبيعية ، تجاوزت حدود أثاره السلبية حاضر البشرية ليصبح خطرا على مستقبل الإنسان و الأرض . وتحمل الدراسات العلمية الحديثة السياسات الصناعية للدول المتقدمة مسؤولية التداعيات الخطرة للتغيرات المناخية و الاحتباس الحراري التي باتت تنذر بكوارث إقليمية بدأت نتائجها الوخيمة بالظهر تباعا من ارتفاع لدرجة حرارة الأرض وذوبان لثلوج القطبين المهدد بارتفاع مستوى البحار ما يعني غرق مدن مأهولة للأسف الشديد تتمركز مخاطرها الأولية في مدن الساحل الأسيوي و دلتا النيل المصري ولم يعد مقبولا علميا تبرئة الدول المتقدمة مت مسؤوليتها المباشرة عن تصاعد تكرار الكوارث الطبيعية : راجع الملحق رقم 2.
للبرالية المفرطة جانب آخر مهم ينفرد بتحليل مسرف لأزمة النهضة العربية حيث يبتعد في مقاربته عن العنصر الخارجي ويتجاهل مصائر زرع و إنبات دولة إسرائيل في قلب البلدان العربية وينقلب بمفرداته النظرية نحو الداخل كرد فعل تلقائي على التحليل الا موضوعي الذل يلقي بالمسؤولية الكاملة على المآلات العربية المعاصرة على الغرب و الاستعمار و بنفس السوية على إسرائيل.
هذا الخلل المنهجي في التحليل عائد لطريقة تفكير المدارس الشمولية القديمة، القومية المتعنتة و الماركسية الجامدة و الإسلامية التقليدية التي خرج من عباءتها كتاب و باحثون و سياسيون أرادوا قلب الطاولة القديمة بكل ما عليها كونها لم تفرز سوى التخلف والتعصب و الجمود المقرون بسلاسل لا تنتهي من التراجعات والهزائم. وبدت المسألة و كأنها تبادل للتهم و الأدوار فإذا كانت النخب السلطوية تحمل الخارج إسرائيل كل المسؤولية فان نخب اليمين العربي تحمل الذات و الداخل كل المسؤولية، هذه الحالة في دلالتها المباشرة تنقلب نحو التركيز على قضية النقد و المراجعة الحقيقية والاعتراف بقصور الامكانات و الأدوات و الوسائل المستخدمة في النقد و التحليل .
ذلك المنهج المفرط سارع لتأييد غزو العراق و تبنى عناوين المشروع الأمريكي للمنطقة ونعى ثقافة المقاومة كحالة من حالات النهضة و مقارعة الظلم و الاحتلال و الاستبداد جملة و تفصيلا ونأى عن المشاق واستمرئ جني الثمار دون عناء ، هنا أيضا جاء ذلك الموقف كرد فعل لا عقلاني على الترويج لثقافة الموت وقتل الذات والتضحية بالمختلف واحتقار قيمة الإنسان قبالة العقائد و الأيديولوجيات ! وجاء كرد فعل على الدعوات و الشعارات المعارضة للحداثة و العقلنة المنتجة لفكر أصولي متصلب لا يرى الفلاح و النجاح إلا في ركوب الجمل و تقصير الثوب و إطالة اللحية أو يؤخر مشاريع التنمية و التطور إلى ما بعد تحقيق دولة الوحدة العربية النقية الطاهرة لا يوجد فيها جزء محتل أو مغتصب لو تسبب ذلك في تكريس الاستبداد و الظلم وإهدار كرامة الإنسان فلا صوت يعلو على صوت التحرير و الجهاد.
هذا المنهج المفرط يقال فيه النقد التالي ((لا يتورع الليبرالي العربي عن اللجوء المسرف لآلية النقد الذاتي في معالجته لكافة القضايا المعاصرة ، إذ لا يرى في الاستعمار الأجنبي إلا قابلية داخلية ولا يجد في احتلال العراق إلا خروج البعض قوميا عن المنظومة الدولية ، بل لا يعد المقاومة في العراق وفلسطين أكثر من لعبة خطرة لا يدرك ” المتشددون ” أبعادها أما العولمة بوجهها الأمريكي السافر فتحول لدى بعضهم نتيجة طبيعية للتطور الديالكتيكي للمجتمع الإنساني _ بالمفهوم الهيوماني الشامل _ والذي مازال يعمل على كتابة صفحات تاريخه الأولى ))أحمد دعدوش الليبراليون العرب : هل هم حقا ليبراليون :مجلة البيان
تلك الليبرالية المفرطة لا تشكل في الواقع كتلة أو تجمعا ملموسا يصح أن نطلق علية تلك التسمية صحيح أن هناك تناغما ملموسا بين ما يطرحه ليبراليون كانوا بالأمس ماركسيون أو قوميون أو إسلاميون لكن في الحقيقة يندر أن تجتمع صفات المنهج المفرط في تجمع أو تيار ليبرالي بعينه أو في باحث وكاتب بذاته وكما هي الحال في المنظومات الفكرية و الفلسفية ذوات التوجهات المشتركة تحت عنوان أو مسمى معروف يصح القول بوجود مناطق ليبرالية متفاوتة يقف عندها أو يبتعد عنها تيار أو مفكر ، وعلى هذا الأساس لا يصح إطلاق التقويمات الكلية قبالة مجموعة أو أفراد ونقلهم إلى خانة العمالة و الخيانة للاختلاف معهم في التفكيك و التحليل فذلك هو النقد الدوغمائي و الحكم المسبق دون محاكمة أو معالجة قد يصح وصف الإسراف و الإفراط في موقف معين أو رأي محدد توجه له سهام الاتهام الفكري أو السياسي ولكن بعيدا عن منصة الفضيلة و الأخلاق أي لا يتحول الاتهام الفكري أو السياسي لاتهام أخلاقي ومن باب أولى أن لا يتحول الاختلاف في التقويم التحليل إلى اتهام حقوقي ينتج عن زج المعترض أو المختلف خلف القضبان وفقا للائحة اتهام مسبق باتت صيغة معروفة و ثابتة ترفع الراية الحمراء في وجهة المعارض تحمله وزره و وزر أقوام سبقوا و أقوام لحقوا .
1 — طه حسين مستقبل الثقافة في مصر، القاهرة مطبعة المعارف 1944 ص 34، 44. الإختلاف الفلسفي عبد الله ابراهيم
إحسان طالب : باحث سوري