صفحات مختارة

الليبرالية الجديدة

null


حنا عبود

أكبر ثورة أحدثتها الليبرالية الكلاسيكية تركزت في «القداسة» و«الدناسة». فما كان مقدساً صار مدنساً. لم يعد هناك حق إلهي للكهنة والملوك والإقطاعيين. صار هذا الحق مغتصباً ويجب انتزاعه وأخذه إلى مكان آخر. وقد استغرق نزع هذا الحق وتحويله من مقدس إلى مدنس مدة ثمانية قرون، تعايشت فيها البرجوازية مع النظام «المقدس» الذي سقط في الثورة الفرنسية العام 1789. والملكية الخاصة التي كانت الأنظمة القديمة تقررها صارت مقدسة لا يجوز المساس بها. وكل شعارات الثورة الفرنسية (وهي نموذج للثورة الليبرالية) من حرية وإخاء ومساواة ليست سوى إضفاء القداسة على الفرد وملكيته. صار من يقرر الحرية والإخاء والمساواة الطبقة البرجوازية، صاحبة الملكية الخاصة التي تضخمت إلى درجة أنها أمسكت بالقرار العملي.

كانت قدرة الملكية الخاصة كبيرة جداً، وبالأخص بعد الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر. وقد جاءت هذه الثورة تتويجاً للتراكم الأولي، في أعقاب الاكتشافات الكبرى والاختراعات وتدفق الذهب الأميركي إلى أوروبا. صار العالم بيد القارة الأوروبية. وستظل أوروبا سيدة العالم حتى دخول أميركا ميدان السياسة العالمية، حيث صارت الوريثة الشرعية لها، بعد أن حققت من «الملكية الخاصة» ما يمكنها من إدارة العالم.

ظلت الثورة الفرنسية منارة إلهام للفلسفة الليبرالية فترة طويلة، بل حتى اليوم نهرع إلى مبادئ هذه الثورة لمعرفة اتجاهات هذه «الملكية الخاصة» المقدسة، وكيف كافحت لتحتل المركز الجدير بها. والملكية الخاصة أشبه بنار لا تشبع. إنها الأداة الأقوى لتشويه المجتمع وتغيير العلاقات الاجتماعية، وإدارة الدولة والسلطات السياسية.

ومما أضفى على الليبرالية هالة من الاحترام اعتمادها الديمقراطية سبيلاً إلى الحكم. والديمقراطية أسلوب قديم اعتمدته أثينا. ولكن الفرق كبير بين ديمقراطية أثينا وديمقراطية الليبراليين، ففي أثينا كانت تجري القرعة بعد إجراء الانتخابات، فلا يضمن الناجح في الانتخابات مكاناً له في الأريوباغوس بعد القرعة. وقد وضع الإغريق القرعة بعد الانتخابات حتى تقف في وجه الأغنياء الذين أنفقوا المال الكثير في حملتهم الانتخابية. أما الديمقراطية الليبرالية فإن حجم الملكية الخاصة هو الذي يحدد نوّاب مجلس الأمة سلفاً. صارت الملكية الخاصة تقوم بعجائب الروح القدس.

ولكن كلما ازدادت الملكية الخاصة، ازداد عدد المحرومين وتأزمت أوضاعهم أكثر فأكثر.كان لا بد لهم من صوت يحميهم من طغيان هذه الملكية «المقدسة» فظهرت الاشتراكية والشيوعية والفوضوية، ولكل من هذه المذاهب ديمقراطيته الخاصة التي تختلف عن ديمقراطية الليبراليين.

كل الأحزاب المعارضة لليبرالية تشترك في عدة مقولات، من أمثال أن الثروة الطائلة تعني بالمقابل الفقر المدقع للجماهير، وأن «الملكية» سرقة، وأن البرجوازي لا يريد ترتيب العالم ليكون فردوساً أرضياً، بل يريد امتلاكه، وأن التضخم الهائل في الملكية الخاصة لم يأت من الملكية العقارية، أو التركة العائلية.. بل جاء من استغلال القوى العاملة. لا يمكن لأرض أو عقار أو ورثة أن تأتي بهذه الملكية الخاصة… هناك مصدر أساسي واحد وهو استغلال العمل البشري، أو بمعنى أوضح «سرقته».

يعتبر القرن الثامن عشر، القرن الذهبي للفكر الليبرالي، بينما يعتبر القرن التاسع عشر قرن الصعوبات، حيث اندلعت حروب وثورات كثيرة ناجمة من النهج الجديد لهذه الملكية المقدسة. وفي القرن التاسع عشر ظهر الشعار المشترك لكل المعارضين، وهو أن «الملكية سرقة» وأن السارق هو البرجوازي، والمسروق هو العمل، والمسروق منه هو العامل. وكان باكونين من أشد المعادين لهذه النزعة. كان يريد هدم الدولة البرجوازية للانتقال إلى التنظيمات الشعبية. وحقق نجاحاً كبيراً وانتشرت أحزابه في كل الأقطار تقريباً. ويمكن أن نذكر إلى جانبه كل الاشتراكيين والشيوعيين من شتى التيارات من ماركس وفورييه وغودوين وأوين وسان سيمون وويتلنغ.. وظهرت أحزاب مناهضة للأحزاب الليبرالية، ليس في أوروبا فقط، بل في كل أنحاء العالم تقريباً، ويمكن القول إنه حيث نشأ حزب ليبرالي كان ينشأ حزب معارض، أو أحزاب معارضة عدة.

على أن الأزمات التي واجهها اقتصاد السوق كانت أزمات خانقة، أدت إلى قيام ثورات مخيفة هددت السلطة البرجوازية تهديداً جدياً. إن ما فعلته البرجوازية مع الكنيسة والإقطاعية من إسقاط ما كان مقدساً، واجهته هي نفسها من قبل الطبقة العاملة، فمقابل شعارها بأن الملكية حق مقدس، انتشر شعار «الملكية سرقة» وهي التي تشوّه الحياة والبشر. والثورة التي قام بها أصحاب الملكية الخاصة، قابلتها ثورة المحرومين، الذين من عملهم تشكلت وتتشكل هذه الملكية. فظهرت «الملكية الجماعية» في وجه «الملكية الخاصة».

كان لا بد للبرجوازية من إعادة النظر في هذه «الليبرالية» التي تحولت من مفخرة إلى تهمة. وهذا ما أدى إلى ظهور ليبراليات جديدة في كل أنحاء العالم، عملت على سد الثغرات التي تجلت في القرن التاسع عشر، وبعد أن وجدت نفسها أمام أحزاب اشتراكية وشيوعية وفوضوية قوية.

أهم تعديل أحدثته الليبرالية هو وظيفة الدولة. فبعد أن كانت ضد تدخل الدولة في الملكية الخاصة، مهما كانت الأسباب، صارت تدعو إلى ضرورة حفاظ الدولة على السلم الاجتماعي، عن طريق التأمينات الاجتماعية وتشجيع المجتمع المدني، والتدخل في الإنتاج، أو بالأصح «ترشيد الإنتاج» تجنباً لفوضى الإنتاج، وهي الفوضى التي تنتج الثورات وتهدد الأنظمة الليبرالية تهديداً مباشراً. وما «كومونة باريس» سوى نذير بأن سلطة الليبراليين باتت مهتزة. وهكذا صارت الدولة تتدخل، ولكن لصالح النظام الليبرالي. وقد اضطر المفكرون الليبراليون إلى تعديل الكثير من مواقفهم وشعاراتهم، فلم يعودوا يتغنون بالملكية الخاصة كما تغنوا بها في القرن التاسع عشر، ولم يعودوا يستخفون بالمحرومين، بل صاروا يحسبون لهم ألف حساب، ويعملون جاهدين على توفير الظروف التي تخفف من معاناتهم، تجنباً لأي تصرف ثوري.

والإصلاح الثاني الذي قامت به الليبرالية هو قانون الانتخاب النسبي، حيث أتاحت لكثير من الأحزاب المناوئة والمعارضة الوصول إلى الندوة البرلمانية والجهر بأفكارهم التي استفادت منها كثيراً، حيث قامت بسد الكثير من الثغرات في الليبرالية الكلاسيكية. ولا بد من أن نذكر المجهود الذي قام به المفكر الأميركي جون ستيوارت مل، الذي ظل يؤكد المقولة الليبرالية، بأن الحرية الخاصة مستحيلة من دون ملكية خاصة، وأن حرمان المواطنين من الملكية يعني تحويلهم إلى أرقاء من دون أسياد، أي انتزاع الحرية منهم، إلا أنه شدد على «التكافل الاجتماعي».

إن الليبرالية ذات قوة فكرية وفلسفية واقتصادية في كل أنحاء العالم، والأحزاب الليبرالية موجودة في كل البلدان بلا استثناء، حتى في أكثر دول أفريقيا تخلفاً، وهي تعمل على «تجديد» نفسها. وكان سقوط «الاتحاد السوفييتي» نصراً مباشراً لكل الليبراليين، فقد راحوا يتغنون بليبراليتهم وبأنها النظام القادر على تطوير نفسه وفقاً لما يواجهه من مشكلات ومتاعب. ومع ذلك لم تتغير مواقعهم، فقد حققت الأحزاب الليبرالية، الإصلاحية والراديكالية، نصراً في كثير من البلدان.

واليوم يستعد النظام الليبرالي لمواجهة العولمة بعد سقوط المنظومة الشيوعية في أوروبا ومعظم دول آسيا، فهل هناك أطروحات جديدة تجعل الليبرالية قابلة للحياة؟ هل نحن أمام «مقدسات» جديدة تحل محل «المقدسات القديمة» كما حلت الليبرالية الجديدة محل الليبرالية الكلاسيكية، أم أن القديم ما يزال صالحاً؟

إن مرحلة العولمة تشير إلى نوع من العودة إلى الليبرالية الكلاسيكية، من حيث إلغاء دور الدولة والاعتماد على الشركات العابرة للقارات، وخلق «المواطن العالمي» بإلغاء الحدود القومية. وما «الشرق الأوسط الجديد» سوى نوع من إلغاء الحدود القومية الجامعة، وخلق موزاييك من الدول الضعيفة، التي سوف تحصر همها في الصراع من أجل الحصول على دور، وسط هذا النشاط الذي سيحوّل العالم إلى «قرية صغيرة».

كاتب من سورية


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى