عودة العصر السوري إلى لبنان
خالد غزال
دخلت العلاقات اللبنانية السورية منحى جديدا منذ تأليف حكومة الوحدة الوطنية، وخصوصا بعد زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري الى دمشق، والتبشير بعلاقات جديدة تقوم على الاحترام المتبادل لسيادة البلدين، وتصحيح الخلل الذي شاب الفترة الماضية منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والخروج الاضطراري للقوات العسكرية السورية من لبنان. كان الامل معقودا في ان الفترة المتوترة التي عاشها البلدان ستكون مدار اعادة تقويم لدى كل طرف، وتعيين السلبيات التي رافقت العلاقة، بما يسمح في تصحيح الاخطاء وتلافي تجددها في المرحلة المقبلة. لكن الأحداث الجارية على الساحة اللبنانية، ومعها السياسة الإعلامية للقوى التي كانت في صف الولاء لسورية، تقود حملة ضد المعسكر الذي كان مناهضا لسورية، وتحدد شروطا للعلاقة الجديدة، ليس أقلها العودة الى القديم في العلاقة، بما يعني الوصاية الكاملة للادارة السورية على مقدرات البلد والحياة السياسية، والخضوع لتعليمات الحكم السوري في القضايا الاساسية. ما يوحي بعدم الافادة من دروس الماضي وتجديد التقليد نفسه، من دون الاخذ في الاعتبار ما سينتج عن هذا النهج «الوصائي» التي تمعن القيادة السورية في سلوكه.
مما لا شك فيه ان الحكم السوري يتصرف اليوم تجاه لبنان من موقع قوة و«نصر» على خصومه اللبنانيين وحتى الإقليميين، فالوضع الدولي لم يعد يفرض عليه شروطا، بل هو سائر الى علاقات حسنة، بدءا من اوروبا وصولا الى الولايات المتحدة الاميركية. والوضع الاقليمي والعربي بات مسلما بدور متميز لسورية في لبنان، ومعه ايضا الوضع الدولي، من دون ان يكون ذلك مترافقا بعودة القوات العسكرية السورية الى الاراضي اللبنانية. وتفيد سورية من اوراق اقليمية ضاغطة ضد خصومها، على الاخص منها العلاقة مع ايران، والموقع المؤثر في الساحة الفلسطينية، والدور الاساس الذي تلعبه في العراق، خصوصا بعد الانتخابات النيابية الاخيرة، ما يعطي الحكم السوري حرية في الحركة، ويجعله في موقع الفارض للشروط.
اما لبنانيا، فبالاضافة للقوى الموالية لسورية في الاصل، وهي قوى تحتل اليوم موقعا متميزا في الحكم وتفرض شروطها على السياستين الداخلية والخارجية، بعدما حسمت ميزان القوى على الارض لصالحها في السابع من مايو (أيار) 2008، بواسطة سلاح حزب الله، وافرغت نتائج الانتخابات النيابية التي اعطت معسكر 14 آذار الاكثرية، وما تبعها من «تفكك» في جبهة هذا المعسكر بعد انفكاك وليد جنبلاط عنه، وسعيه الحثيث لزيارة سورية.. ترافق ذلك كله مع عودة لبنانية من قوى سياسية الى سلوك «طريق الشام» في محاولة استلحاقية، بعدما ساد شعور بعودة العصر السوري الى لبنان. وهي وقائع تصب جميعها في تعديل فعلي في طبيعة علاقات القوى اللبنانية ببعضها، وفي الصلة مع سورية، بما يوحي حقا بأن البلد دخل عهدا جديدا في طبيعة العلاقة مع سورية، عنوانها العريض عودة الوصاية السورية الى لبنان، من دون العسكر. فكيف تتصرف الادارة السورية مع هذا المستجد؟
لا يبدو ان العقلية التي حكمت التعاطي السوري السابق مع لبنان قد عرفت الكثير من التغيرات، ما يراه المراقب للسياسة السورية يدرك ان مرحلة من «تصفية الحسابات» السورية مع القوى التي كانت في المعسكر المناهض لسورية تسير حثيثا عبر شروط «مسكوبية» وفتح ملفات «محاسبة». فلو بدأنا بالعلاقة مع رئاسة الجمهورية، وعلى رغم ان الرئيس لم يكن يوما في معسكر مناهض لسورية، الا ان التعاطي معه اليوم، سواء ما يرسل اليه مباشرة من ملاحظات، أم ما تثيره جماعة سورية من انتقادات في وسائل الاعلام، توحي كلها ان المطلوب من رئيس الجمهورية تكرار ما كانت عليه العلاقة الالحاقية الكاملة للرئيس السابق اميل لحود، والابتعاد عن الحد الادنى من الاستقلالية، وطلب الانحياز الحاسم الى القوى التي توالي سورية ولاء مطلقا. اثيرت انتقادات سورية حول دعوة الرئيس الى طاولة الحوار، وتوجه اليه انتقادات حول «لبنانيته الزائدة» في السياسة الخارجية، ويجري التلويح باعادة النظر في رئاسته عبر طعن دستوري، لكونه انتخب من دون تعديل الدستور في العام 2008.
اما بالنسبة الى رئيس الحكومة، فتبدو الشروط اصعب، والكلام «القاسي» بحقه يزداد كل يوم، واعتبار انه من المستحيل عليه الاستمرار في الحكم اذا لم يستجب لجملة طلبات سورية، تبدأ من ضرورة انهاء ما يعرف بمعسكر 14 آذار وشعاراته «الاستقلالية»، وهي شعارات رفعت ضد سورية في الأصل. وعليه ان يفك تحالفاته مع حلفائه المسيحيين، خصوصا «القوات اللبنانية»، وان «يسكت» معسكره ويمنعه من توجيه اي ملاحظات نقدية الى سورية في وسائل الإعلام، وان يمتنع عن اتخاذ مواقف في السياسة الخارجية من دون تنسيق مسبق مع الادارة السورية.. وغيرها من الشروط المتوالية يوميا. كما يجري نبش ملفات تتصل بالعهد السابق ايام حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، ووضعها على طاولة المحاسبة.
تستخدم الادارة السورية الاسلوب اياه الذي جرى استخدامه مع الرئيس الراحل رفيق الحريري، عن طريق اثارة القوى المحلية وتحريضها ضده، او ابلاغ الانتقادات مباشرة اليه.
على رغم كل التقديمات والتنازلات التي قدمها وليد جنبلاط و«الاعتذارات» التي صدرت عنه، وتلاوته افعال الندامة على كل ما صدر عنه، و«انبطاحه واستجدائه» الزيارة الى سورية ومقابلة الرئيس الاسد، إلا أن سياسة الإذلال ما تزال هي السائدة معه، والشروط الأخيرة المطلوبة منه تصل الى حدود تراجعه عن شهادته امام المحكمة الدولية واتهام سورية بقتل الرئيس الحريري.
تلك شواهد قليلة من كثير من كلام يتداول في الحياة السياسية اللبنانية والطلبات السورية. من المؤكد ان علاقة صحيحة بين لبنان وسورية «واجبة الوجود»، وانه من المستحيل الاستمرار في علاقة متوترة يدفع لبنان ثمنها السلبي اكثر بكثير مما تدفعه سورية. لكن في المقابل، ان سياسة سورية تكرر التقاليد السابقة في فرض «الخضوع والالحاق» للبنانيين، ستؤسس لتجدد عنصرية سبق للبلد أن عرفها في السنوات السابقة، وتنقلب عداء بين الشعبين، وهو أمر له مقدمات وعوامل داخلية، ستبرز على السطح مجددا فيما لو تغير ميزان القوى اقليميا لغير صالح سورية.
كاتب من لبنان
أوان