ازدواجية السلطة في لبنان
سليمان تقي الدين
انفرط عقد التحالف السلطوي الذي حكم لبنان بعد “الطائف” مع القرار الدولي 1559 الذي رفع الغطاء والشرعية عن الإدارة السورية للملف اللبناني . خرج شريكان مسلمان (سني ودرزي) من التحالف وانقلبا عليه بالتعاون مع المعارضة المارونية . حاول هذا التحالف الجديد أن يقيم سلطة بديلة يكون فيها الطرف الشيعي هامشياً مقصياً عن القرار الوطني . توقف النظام السياسي عن العمل وشلّت السلطة بالانقسام الوطني بين كتلتين وقام مكانها توازن في الشارع . ازدواجية السلطة الواقعية، بين حكومة لا تحكم وشارع لا يشارك، سعى الفريقان إلى حسمهما في قرارات 5 مايو/ أيار وردة فعل 7 مايو/ أيار 2008 . سقطت ازدواجية السلطة في اتفاق “الدوحة” وما تلاه من تفاهمات محلية وإقليمية حول الانتخابات النيابية وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية .
احتفظ الفرقاء بحجم وشكل تمثيلهم في الحكومة كما البرلمان، لكن الذي استجد هو تحول في المعطى الإقليمي أعاد الدور السوري غير المباشر تدريجياً إلى صدارة المرجعية ولو عبر تعديل في القوى هذه المرَّة بتفاهم شيعي كاسح مع نصف التمثيل المسيحي الشرعي إلى ملاحق في المروحة الطائفية الواسعة . خرج الطرف الدرزي مهزوماً من دون حماية ورعاية دولية وهو يبحث عن حاضنته التاريخية . حافظ الطرف السني على قوته الداخلية ورعايته الإقليمية السعودية لكنه حوصر إلاّ من حليف ماروني استمد جزءاً من تمثيله من الدعم السني والمرجع الإقليمي نفسه .
خلال سنتين جرى خلط واسع للأوراق فلم يعد التوازن السلطوي يعكس حراك الشارع . صار حلفاء سوريا هم الأقوى وخصومها هم الأضعف، وصارت الرغبة في العودة إلى رعايتها تحفّز الكثير من القوى والتيارات .
يقاوم بعض الفرقاء هذا الانهيار السياسي في مشروعهم، ويحاول البعض أن يحتفظ بلغة اعتراضية أو مشروطة مع سوريا . تحاول الرئاسة الأولى والثالثة أن تصطنع الوسطية وامساك الحبل من طرفيه، بينما تحاول المعارضة السابقة تطويع هذه المعادلة وإعادة احتواء السلطة كلها . وبصرف النظر عن دلالات لقاء دمشق الثلاثي والطرف اللبناني الذي حضر، على احتمالات المواجهة أو احتمالات العودة إلى سياسة اللاحرب واللاسلم، وهذا المرجّح في المدى المنظور، فإن لبنان انضم واقعياً إلى المنظومة السياسية والأمنية هذه .
ازدواجية السلطة الحالية الرسمية التي لا أرجحية فيها لأحد هي موضع تنازع . يعبّر هذا الشارع عن نفسه في حركة الرئاسة الأولى والثالثة على خطوط استمداد دعم خارجي والاحتفاظ ببعض أدوات الشغل السابقة . سيعود الشلل إلى المؤسسات طالما ليس هناك حسم للأرجحية في الخيارات الإقليمية . لا محلّ الآن للتعايش بين خطاب وإجراءات وسلوكيات المرحلة الماضية والمرحلة الحالية . هناك سعي لتكوين تحالف قوي يهيمن ويضبط إيقاع الآخرين وإلاّ فإخراجهم من المعادلة .
هذا هو غموض الحالة السياسية . تطبيع العلاقة مع دمشق أو حلفائها لا يكفي لتسهيل مهمة الأطراف في استعادة مواقعهم السابقة واعطائهم الأدوار الفاعلة . حتى الشرعية السنية ذات الرعاية السعودية لا تملك إلاّ هوامش محدودة في إدارة لبنان بمعزل عن شراكة فاعلة من الآخرين . التطورات السياسية في الداخل جارية باتجاه حسم ازدواجية السلطة . هناك إرث السنوات الخمس الماضية يتفكك ليس بالتغيير ولكن بالتطويع والاحتواء . تفضل دمشق دائماً استيعاب القوى مهما كان تاريخها على فكرة التغيير . الواقعية السياسية تجلّت في إدارة ملف الانتخابات بقدر كبير من المرونة، وهي تتجلّى اليوم في استيعاب الخصوم وليس مواجهتهم . وخصوم دمشق يريدون صداقتها للاحتفاظ بمواقعهم وأدوارهم . النزاعات السلطوية الطائفية تبرّر للداخل والخارج هذه العلاقة من التدخّل والاستقواء . الوطنية اللبنانية تكاد تكون مستحيلة في بلد صغير مؤسساته طائفية ومذهبية ولم ينتج كتلة وطنية عابرة للطوائف تدعم استقلال الدولة .
مؤلم الاعتراف بالواقع، لكن اللبنانيين لم ينضجوا كفاية لحكم أنفسهم لسبب جوهري أنهم لم يقررّوا الاعتراف بعضهم ببعض وبحقوق متساوية في ما بينهم . هم يدركون هذه الحقيقة وضرورة خروجهم من الصراع الطائفي، لضمان الاستقرار السياسي والتقدم الاجتماعي، لكنهم يخافون من المجهول وليس هناك من يقدم لهم ضمانات تمنع الطائفية الضمنية . خلال أربعة عقود سيطر الصراع الطائفي، صراع الهويات والثقافات ومزّق النسيج الاجتماعي . لم تتشكل حركة مضادة لأن الإدارة الإقليمية أيضاً ساهمت في صياغة كل العلاقات السياسية . وُضع الوطني والقومي في مقابل ونقيض الاجتماعي، وضع الأمن مقابل السياسة، وضعت سياسات الضبط مقابل الحرية وسياسات الأمر الواقع محل دولة القانون . أنتج البلد أمراء للطوائف ولم ينتج أحزاباً . أنتج الأمراء سلطتهم ولم ينتجوا مؤسسات . سقط الداخل أمام الخارج على جميع المستويات . اللبنانيون لا يصنعون تاريخهم إلاّ ضمن معطيات أقوى منهم . سقطت السياسة في لبنان أمام سلطة المال السياسي المرتبط حكماً بسلطات الوصايات . يتوقف الزمن اللبناني هنا ولا يتحرك إلاّ على وقع التغيّرات الخارجية .
رغم أجواء التهدئة مع دمشق وتراجع حدة الخطاب السياسي، فإن نقاش الملفات الخلافية السابقة لا يخرج عن إطار الاحتفاظ بعناصر النزاع . هناك فرقاء لبنانيون يعتقدون أن حوار الغرب مع سوريا وإيران لن يطول وأن في الأفق ضغوطاً جديدة من أجل حماية الدولة الصهيونية في مشروعها الجذري لتصفية القضية الفلسطينية . يبدو أن الغرب الذي فشل في جذب “إسرائيل” للتفاوض قبل التسوية يتجه للضغط على العرب وليس على “إسرائيل” . ما سمي خلافاً أمريكياً مع حكومة نتنياهو لا يعبر عن نفسه أبداً بأية إجراءات فعلية تكبح الاستيطان الذي يلغي احتمالات قيام الدولة الفلسطينية . أمام هذا التأزم الإقليمي والتعقيدات التي تشهدها العملية السياسية في العراق والوضع الإقليمي المتغير يحتاج اللبنانيون أن يفيدوا من دروس السنوات الخمس الماضية ويتوقفوا عن الاصغاء لوعود الخارج بإمكان فصل لبنان عن النزاع الإقليمي والعمل على خفض النزاعات الداخلية .
الخليج