حـروب التسـويـة!
سليمان تقي الدين
أرّخ كمال جنبلاط الحرب اللبنانية في كتابين، الأول وهو المعروف «هذه وصيتي» والثاني وهو مجموعة مقالات بعنوان «لبنان وحرب التسوية». العنوان الثاني يختصر المسألة.
أشعل الأميركيون الحرب اللبنانية لإنهاء مفاعيل حرب تشرين عام 1973، وإسقاط منظمة التحرير الفلسطينية التي حققت شرعيتها الدولية في الأمم المتحدة، ولتمرير اتفاقية كامب ديفيد. تجمّعت تناقضات كل العالم في لبنان آنذاك، وتورّط العرب كل العرب في هذا الصراع، وسقطت منظمة التحرير ومعها الحركة الوطنية في هذا الحريق.
أبلغ الرئيس اليوغسلافي جوزف تيتو أبا عمار بخطة وزير الخارجية الأميركية هنري كيسنجر، لكن الزعيم الفلسطيني انخرط بفاعلية في هذه اللعبة. وسّع نفوذه في لبنان بنشر الفوضى وفتح خطوط الاتصال بقوى التسوية تحت وهم شعار القرار المستقل.
أشعل الأميركيون مجدداً الحرب في لبنان في نهاية عام 2004 ولو بأشكال وعناوين مختلفة وقصدهم الأساسي ضرب المقاومة وتوريط العرب في الصراعات، وتغطية المشروع الإسرائيلي لإنهاء القضية الفلسطينية.
تحققت أجزاء مهمة من هذا «السيناريو» لأن اللبنانيين يكرّرون تجاربهم وأخطاءهم ويربطون مشكلاتهم الداخلية، وهي كثيرة، بتلك النزاعات الدولية والإقليمية.
هدأت الأزمة بعد اتفاق «الدوحة» لأن التفاهم الدولي احتاج إلى ذلك فجرى ترتيب الانتخابات وانتخاب الرئيس، ثم انفكت عقدة الحكومة بالتفاهم السوري السعودي. لكن في الأفق مخاطر جديدة.
لم ينجح الغرب، الأميركي الفرنسي تحديداً اليوم، في أخذ كل ما يريده من سوريا. مرّرت سوريا الانتخابات اللبنانية وإعادة تكوين السلطة، وساهمت في أمن العراق وانطلقت في حوار غير مباشر مع إسرائيل عبر تركيا، لكنها لم تقرّر الانسحاب من قضايا المنطقة وتحدياتها. ينظم الغرب مضبطة اتهام لسوريا بتراكم تقارير تيري رود لارسن عن تدفق السلاح إلى لبنان، وطبعاً احتضان الفلسطينيين والمعارضة العراقية، والتعاون مع إيران، ويحضّر مواجهة سياسية جديدة من خلال ملف المحكمة الدولية.
يعتقد الغرب أن ازدواجية السلطة الواقعية التي نشأت في لبنان خسارة كبرى لمشروعه. في لقاء دمشق الثلاثي مظلة إقليمية ونواة كتلة تعطّل الحل الغربي الإسرائيلي للمسألة الفلسطينية يوفر أمن إسرائيل وموقعها ودورها. يحاذر الغرب التورّط في المواجهة العسكرية لكنه يعيد تحضير المسرح لفتح النزاع مجدداً في لبنان ليغطي دخان الحرائق الأهلية والتورّط العربي ويدعم المشروع الإسرائيلي ويخرجه من الحرج الدولي ويحرّر الغرب من أولوية المسألة الفلسطينية. لبنان دفع ويدفع ثمن حروب التسوية المستحيلة في فلسطين لأن معظم قادته يجدّدون أدوارهم ومواقعهم على هذه اللعبة الجهنمية.
قريباً يتصاعد السجال حول سلاح المقاومة وتكبر التناقضات في الحكومة التي يُراد إفشالها كحكومة شراكة بمساهمة من الطرفين. قريباً يتسع مسلسل خرق هيبة الدولة ويُعاد فتح ملف العلاقات اللبنانية السورية من الاتفاقات الثنائية إلى ترسيم الحدود والسلاح الفلسطيني، وسنسمع بشعار لا لسياسة الاحتواء ونعم للندّية.
قد لا تكون الشعارات حادة كما من قبل لكنها تتركز على التعريب الأوسع والتدويل الأكبر تحت شعار حماية لبنان كمسؤولية عربية ودولية. ما يجب أن نعرفه كلبنانيين كيف أن الغرب يهدّف على إيران لإنتاج تسوية كبرى معها ركائزها الدور الإقليمي وليس الملف النووي.
ما يريده الغرب من سوريا الانضمام إلى المنظومة العربية القابلة بتسوية مع إسرائيل منفردة على الأقل ومنفصلة عن خيارات الفلسطينيين. أما لبنان فهو مهم بمقدار ما له من دور في هذا الصراع ليس أكثر.
خلال السنوات الخمس الماضية استخدَمنا الغرب بالحرب الإسرائيلية والفتن حتى حاور وفاوض سوريا. سوريا لم تقصّر عن المواجهة في لبنان بوسائلها. الفرصة التي أتيحت لنا خلال هذه الهدنة لم نستثمرها بعد لإعطاء الأولوية في ترميم علاقاتنا وتصحيح مناخنا الوطني ووفاقنا وتطوير دولتنا ومؤسساتنا. لم تحصل مراجعة حقيقية لهذه التجربة المرّة. المستقبل هو أصعب بكثير لأن ما يريده الغرب لم يعد إنتاج تسوية في فلسطين بل تثبيت إسرائيل قوة إقليمية في وجه دول قوية حلّت مكان مصر والعراق المسلوبتين من المعادلة العربية. فهل نبقي لبنان مسرحاً لحروب التسوية!؟