ليس على الكلام “جمرك”
ميشيل كيلو
أحسن آية الله خامنئي، مرشد الثورة الإسلامية وقائدها، عندما تساءل خلال لقاء موسع ضم كبار مسؤولي الدولة الإيرانية وسفراء الدول الإسلامية في طهران: “لماذا أصبح العالم الإسلامي، ورغم وجود الإمكانات الهائلة، يتخبط في شتى التخلفات الاقتصادية والفقر الثقافي والعلمي، ولا تستطيع البلدان الإسلامية أن تدافع عن نفسها إزاء القوى الاستكبارية والجبارة؟”.
أحسن المرشد، خاصة أن كلامه قد يسهم في وضع حد لفكرة واسعة الانتشار مفادها أن قادة إيران يرفضون النظر إلى حالتهم وحالة المسلمين الذاتية، مع أنها تبعث على الرثاء في كل ما يتعلق بالفقر الثقافي والعلمي وسوء – أو عدم – استخدام الإمكانات الهائلة التي بحوزتهم للدفاع عن أنفسهم. قال السيد الخامنئي ما قال، بينما كان يجلس وراءه مباشرة، الرئيس محمود أحمدي نجاد، الذي قال في الذكرى الثالثة والثلاثين لقيام الجمهورية الإسلامية: إن قيام الثورة الإسلامية في إيران هو الذي أدى إلى سقوط النمط الشرقي من الحضارة الغربية، كما كان قائما في الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية، وأن الثورة تسقط في أيامنا النموذج الغربي من هذه الحضارة، القائم في أوروبا وأمريكا. واستنتج أن المستقبل لإيران، التي اعتبرها أقوى دولة في العالم، وأن نموذجها هو الذي سيسود، وفي وقت غير بعيد.
ليس على الكلام جمرك. هذا ما يقوله المثل الدارج في سوريا. كل إنسان حر في أن يقول ما يريد، فالعبرة ليست في الأقوال، التي لا تسر أحدا غير العدو، إن كانت خاطئة أو كان بينها وبين الواقع بون شاسع. المشكلة ليست في الكلام، بل في أن من يقوله رئيس دولة تعد قوة إقليمية عظمى بكل معنى الكلمة، ترشح نفسها، وترشحها الأحداث، للعب دور مهم على النطاق الإقليمي، ليس فقط بسبب ما تملكه من إمكانات مادية وبشرية، وخبرات تاريخية ومؤهلات روحية، وتحتله من مواقع حاكمة في سائر المجالات، بل كذلك لأنها تخوض صراعاً شديداً قد ينقلب في أي وقت إلى قتال دموي مع أمريكا: أكثر امبراطوريات التاريخ شراسة وعدوانية، فلا يجوز لقائد إيراني رفع روح قومه المعنوية إطلاق الكلام على عواهنه، أو تأسيس مواقف دولته على حسابات يعرف القاصي والداني أنها تدل على فقر ثقافي وتخلو من الصحة، كالقول إن سقوط المعسكر الاشتراكي السابق سببه الثورة في إيران، مع أن هذا المعسكر كان قد قطع أكثر من ثلاثة أرباع الطريق إلى السقوط عندما انتصرت الثورة، وأن سقوطه نجم عن أسباب داخلية بالدرجة الأولى، عرف الغرب كيف يستغلها ويفيد منها ويجعلها تعجل بسقوط الدولة العملاقة، التي لطالما بدت راسخة كالجبال، عصية على الزوال، تملك ناصية المستقبل وتبشر بنظام عادل سيقوم على أنقاض النظام الرأسمالي المأزوم والظالم، الذي يتحدث الرئيس الإيراني عنه اليوم بهذه اللغة السوفييتية، متنبئاً بقرب سقوطه، متجاهلاً أنها – اللغة – لعبت دوراً خطيراً في انهيار المعسكر الاشتراكي، فقد حجبت عنه رؤية الواقع على حقيقته، وأوهمته أن مفرداتها لديها من القوة ما يجعلها قادرة على دك حصون الرأسمالية الوطيدة وإسقاطها.
بعد أسابيع قليلة من خطاب ذكرى الثورة، الذي تنبأ بصعود إيران إلى قوة عالمية قائدة وقطب كوني أوحد، على أنقاض الجناح الرأسمالي من الحضارة الغربية، الوشيك السقوط، قال الرئيس الإيراني في مؤتمر صحافي خلال زيارة إلى دمشق: إن العراق لم يعرف الانقسامات الطائفية والإثنية قبل الاحتلال الأمريكي، ولم يكن مواطنوه يفرقون بين السني والشيعي والعربي والكردي. هذه المعلومة أيضاً فقر ثقافي، شكا منه خامنئي واعتبره سبباً لهزائم الأمة الإسلامية ذات الإمكانات الهائلة. ومع أنني لا أعرف من أين استقى نجاد معارفه، فإنني لا أستطيع الاعتقاد بأنه يصدق ما يقوله: أليس هو من اتهم الرئيس الراحل صدام حسين مرات كثيرة باضطهاد هذه الجهة المذهبية من شعبه لصالح تلك، وأنه قتل الأكراد لمجرد أنهم أكراد، واستغل انقسامات العراقيين للبناء عليها وتضخيمها؟.
أنصح نجاد بقراءة كتاب الدكتور علي الوردي، الموسوم “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث”، الذي يسرد في سبعة أجزاء وملاحق تاريخ الصراعات والانقسامات التي سادت مجتمع العراق منذ الفتح الإسلامي، وتجلت في ما يعتبره الوردي “مرضين قاتلين” هما: غزوات البدو للمدن، التي احتجزت العراق عند مستوى متدن من التطور ودمرته مراراً وتكراراً طيلة قرون مديدة، والانقسام المذهبي، الذي تسبب في مجازر محلية وأهلية لا نهاية ولا حصر لها، أدت إلى تدمير المجتمع العراقي وقواه الحية مرة بعد أخرى. إن من يقرأ هذا الكتاب المهم يجد نفسه مجبرا على طرح سؤال محزن: ترى، كم مرة تم تدمير مجتمع العراق بسبب صراع البدو ضد الحضر، وبفعل انقساماته المذهبية، التي بدأ بتسعير نارها ديلم القرن العاشر، بعد أن حولوها إلى موضوع للسياسة والسلطان، ثم استغلها كل من جاء بعدهم: من السلاجقة إلى الإنجليز، طيلة عشرة قرون كاملة.
يحتل الرئيس نجاد موقعاً قيادياً مهماً في العالمين العربي والإسلامي، يجعل سلامة الإقليم وأمنه من سلامة تقديرات الرئيس وثراء ثقافته ودقة معرفته للواقع السائد فيه. بغير هذا، يورط نجاد بلاده في مشكلات فادحة الثمن، ويورط معه من يجارونه في حساباته، من داخل الإقليم وخارجه، في منطقة كثيراً ما دفعت أثماناً باهظة لفقر قادتها الثقافي ولحساباتهم الخاطئة.
والآن: إذا كان صحيحاً أن السوفييت سقطوا بفعل الثورة الإيرانية، وأن الجناح الغربي من الحضارة يسقط بدوره تحت ضرباتها، فهذا يعني ببساطة أن لإيران مصلحة استراتيجية في التحرش بالغرب، وأنها هي – وليس أمريكا – من يجر خصومه إلى الحرب في الشرق الأوسط وينشر الفوضى فيه، لسبب بسيط جداً هو أن من غير المقبول أن يوقف طرف منتصر (إيران) معركته ضد طرف خاسر (أمريكا)، وليس معقولاً كذلك أن يواصل طرف خاسر (أمريكا) معركته ضد طرف رابح (إيران)، كانت إيران قد قالت قبل عيد الثورة إنها ضحية صراع يخوضه الغرب ضدها، ورئيسها يؤكد اليوم عكس هذا ويقول إنها هي الطرف الذي يفيد من الصراع ولا بد أن يصرّ على مواصلته، لأن ضحيته ليست إيران بل أمريكا والغرب والصهيونية.
أتمنى أن لا يتصدى رئيس إيران لمصاعبها بمثل هذا وأن لا تسوق زلات لسان الرئيس بلاده إلى منزلقات لا يفيد معها كلام، ولا تخرجها منها أوهام. إن نجاد لا يخيف أعداءه وحدهم، إنه يجب أن يخيف أصدقاءه أيضاً، بكلامه الذي يأخذ الجميع إلى الهاوية.
الخليج