صفحات مختارةياسين الحاج صالح

في نقد الأهل وأهل النقد

null

ياسين الحاج صالح

قد نميز ثلاث صور للنقد الفكري والسياسي في ثقافتنا المعاصرة.

أولاها النقد الممتنع. نمتنع عن نقد ثقافتنا ومجتمعنا وديننا وطائفتنا ووطننا لأننا منهم، لأنهم أهلنا. نحن هنا عاجزون عن اتخاذ “مسافة نقدية” حيال هذه الروابط المتصلة بالإلفة والذكريات والحميمي، بالأهل والأصل. وارتباطنا بها يثير في نفوسنا مقاومات واعية أو غير واعية ضد النقد، إلى درجة أن يبدو لعيننا أشبه بالخيانة وهتك العرض. وإلى خانة النقد الممتنع ينتمي كذلك ما يسمى “النقد الخجول”، حيث المسافة النقدية لا تكفي من أجل نقد فاعل. فالنقد مثل التصوير الفوتوغرافي، يحتاج مسافة مناسبة. وكما يتعذر التصوير من مسافة قريبة ويفشل من مسافة بعيدة، يستحيل النقد إن كنا ملتصقين بمنقودنا المفترض، وينقلب “نقدا خارجيا” إن ابتعدنا عنه كثيرا.

والنقد الخارجي أو المطلق هو ثانية صور النقد في ثقافتنا. هنا نمارس نقدا فظا وعدوانيا، ينحدر كثيرا في أوساطنا إلى “ردح” مثير ومسف، وينزلق بيسر نحو العنف اللفظي والشتيمة. نمارس ذلك حيال غيرنا، لكنه شائع أيضا حيال “ذاتنا” أو جوانب منها: الدين، النظام السياسي، الثقافة، إلخ. المسافة النقدية هنا لا متناهية.

وثالثة صور النقد هي النقد الطائفي. والمقصود بهذا كل نقد لا يستند إلى القيم الإنسانية العامة والمعرفة الموضوعية، سواء صدر من بلادنا أم من الغرب. هنا ننتقد”هم” ونعفي ذاتـ”نا” من النقد لامتناع ذلك أو تعذره نفسيا. و”هم” يمكن أن يكونوا دينا أو قومية أو بلدا أو حزبا أو عشيرة أو طائفة. والنقد هذا لا ينتقد ذاته. وهو وجه سلبي للنقد الممتنع: يغلب فيه ممارسة نقد مطلق حيال “هم”، أما حيال “نحن” فنقده خجول أو معدوم.

مبدأ التمييز بين صور للنقد الثلاثة هو موقع الذات. في النقد الغائب والخجول يغلب الارتباط بالأهل على الانفصال المؤسس للنقد. وإذا تعجز الذات عن الانفصال عن الأهل، فإنها تعجز كذلك عن تطوير استقلال عقلي وضميري لا غنى عنه من أجل سداد النقد. والاستقلال هو “انفصال دستوري” إن صح التعبير، انفصال مقيد وليس مطلقا، دستوره هو الموضوعية في المعرفة والقيم الإنسانية العامة في الأخلاق. ومن المشروع أن نقول إن غياب الاستقلال يعني غياب الذات، ومن ثم استحالة النقد المقترن حتما باستقلال الذات.

في النقد المطلق، بالمقابل، يغلب الانفصال على الارتباط، فيتعذر الاستقلال أيضا لأن الانفصال هنا مطلق وغير مقيد بأصول معرفية أو أخلاقية. لذلك هو أيضا انفصال بلا تضامن أو تعاطف.

أما النقد الطائفي فالذات تنحل في “جماعتنا” وتنفصل انفصالا مطلقا عن “الآخرين”، من هنا يجمع النقد الطائفي بين النقد الممتنع والنقد المطلق، الالتصاق بالأهل والعداء للأغراب.

لكن ثمة صورة رابعة، موجودة تحليليا، وممارسة واقعيا، وإن في نطاق محدود، وبصورة غير متسقة: النقد الواعي بذاته، والمستند إلى معرفة موضوعية وقيم إنسانية عامة. وهذا نقد ضارب لا يداري، يكشف الانحيازات الخفية وراء مظهر التجرد، والإطلاق وراء زعم النسبية، والتمركز حول الذات وراء قناع الانفتاح، والطائفية وراء مظهر الكونية، والعداء غير العقلاني وراء واجهة النقد ذاتها …إلخ. إنه نقد ينتقد ذاته ويعمل على وعي ذاته. وفرص النقد هذا تتسع كلما اشتغلنا على نقد صور النقد الثلاثة المذكورة. الذات هنا مستقلة، انفصلت عن الأهل، ثم اختارت ارتباطا مختارا وصُنعيا بصورة متغيرة لهم. بعبارة أخرى، الذات تجاوزت الانفصال إلى الاستقلال، ولم يعد الأهل أهلا، صاروا “مجتمعا مدنيا” أو أمة.

***

شرط النقد، إذن، انفصال نفسي أولي لا محيص منه عن الموضوع، أي التجرد وتحييد العواطف وروابط الانتماء، كما كان قرر طه حسين في كتابه عن “الشعر الجاهلي” قبل 80 عاما. وفي الجوهر تجنب ما نسميه نداء الأصل والأهل، النداء الحميم والمغوي الذي يمنع انفصال الذات وتحررها، ويبقيها ملتصقة بما يفترض أن يغدو “موضوعا” لها. لسان حال هذا النداء يهتف: أنا أمك! لا تعرفني! لا توضحني! لا تفضحني! لا تكشفني على الغرباء! فالمعرفة انكشاف وفضح وتعرية (في ترجمات التوراة إلى العربية يستخدم فعل “عرف” بمعنى “جامَع”..)، ما لا يليق بالأبناء البررة فعله بأهلهم. وإذ يقمع الاستسلام لهذا النداء بروز الذات التي تنفصل عن الأم و”تقتل الأب”، الذات التي تسأل وتعرف وتستقل بنفسها، فإنه يعوق تكون “الموضوع” أيضا. ذلك أن “الأهل” انحلال “الذات” و”الموضوع” في ما نسميه عادة “الهوية”. أو أن الذات والموضوع يتكونان من تمايز “الأهل” عبر فعل تمرد وخروج وانفصال و”قتل“.

أما “الردح” كصيغة شائعة لدينا للنقد الخارجي فهو انفصال مطلق، دونما تعاطف، يصدر عن ذات عاجزة عن تحقيق انفصال حقيقي، أو بالأحرى عن تجاوز الانفصال نحو استقلال يجعل من القيم الإنسانية العامة (العدالة، المساواة، الحرية، الاحترام المتبادل..) والمعرفة الموضوعية جسرا –لا للعودة إل “الأهل” بل لعبور “الأهل” نحو العام والإنساني والحرية. وأما النقد الطائفي فيصدر عن ذوات صغيرة من “أبناء غزية” الذين يغوون إن تغوي ويرشدون إن ترشد، وينصرون إخوانهم ظالمين أو مظلومين، بالمعنى القبلي للكلمة.

والتعاطف مع المنقود، سواء “الأهل” أم “الغرباء”، خطوة تتلو الانفصال منطقيا، وفي ثقافتنا تتلوه زمنيا أيضا. تتلوه منطقيا بمعنى أن الانفصال شرط للتعاطف، الشرط الذي يجعل التعاطف اختيارا واعيا وليس منعكسا انتمائيا أو عصبية. وتتلوه زمنيا في ثقافتنا بمعنى أنه يتعين ترسيخ موقف الانفصال والنقد قبل توقع مقاربات استقلالية، تتعاطف دون أن تفقد شيئا من طاقتها النقدية الضاربة. وبالفعل يغلب اليوم النقد الانفصالي، العصبي والمتوتر، على النقد الاستقلالي الأكثر سدادا والأصفى روحا في ثقافتنا. ربما لأن الانفصال لا يزال غضا، يندفع إلى توكيد ذاته بأساليب عاصفة. وربما أن قوة الأهلي تعوق الانفصال عنه، فتجعل التعاطف يأخذ شكلا طائفيا (النقد الممتنع أو الخجول)، أو بالعكس تحفز أشكالا مطلقة من الانفصال، تعبر عن نفسها في النقد المطلق.

***

كيف نفسر تراوحنا بين روابط أهلية تعوق انفصال الأفراد واستقلال الذات وممارسة النقد، وبين انفصالات مطلقة بلا تضامن؟ هذه سمة المجتمعات الطائفية، لذلك يمسي السؤال: لماذا مجتمعاتنا طائفية؟

قد يكون مزيج من الإجابة الماركسية والفيبرية هو الأصوب على هذا السؤال. يتعلق الأمر هنا باختلالات التطور الرأسمالي والحداثة في بلداننا. بالتحديد تعثر عمليات تفكك التشكيلات الأهلية والمحلية وانفصال الأفراد عنها وتحولهم إلى منتجين في صناعة واقتصاديات حديثة، وتاليا ارتسام مجتمع منقسم أفقيا إلى طبقات، بما في ذلك طبقة وسطى حديثة مستقلة في دخلها وثقافتها، عن الأهلي كما عن الدولة. لسنا في معرض تقصي هذه الإعاقة وأصولها (لا ريب أن لتدويل “الشرق الأوسط” والريع النفطي ضلع فيها). ما يعنينا في هذا السياق أن اختلال الرسملة والحداثة، بما في ذلك وهن الطاقة الدمجية لمدننا وضعف شخصيتها المدنية والثقافية والرمزية، وكذلك تعذر أو امتناع عقلنة ودمقرطة دولنا القائمة، خلق شروطا مناسبة لطائفية المجتمعات والنظم السياسية والثقافة معا. يعوق هذا الشرط بروز الساحة العامة وقيام السوق العامة في بلداننا، أي فسحة تداول الأفكار والآراء والمعلومات وحيز تداول السلع والأموال. وفي هاتين، الساحة والسوق، ننفصل عن روابطنا العضوية والعصبوية، ونتكون أفرادا معرفّين بما نفعل ونتداول، لا بمن أو ممن نكون.

بالعكس، يمكن تفسير أوضاعنا الراهنة، بموازين القوة بين الأهلي والمدني، العصبوي والفردي، الطائفي والوطني. وضمن هذا الشرط تغدو الطوائف ركائز لتدعيم سلطات استبدادية، ويتضاءل وزن الطبقة الوسطى، وبالخصوص استقلالها (وهو عماد “هويتها” وأساس دورها)، ويغزو التطييف الوعي السياسي والصراع السياسي، فضلا عن السلطة السياسية.

والطائفية، نعود إلى القول، تجعل النقد ممتنعا أو مطلقا أو مزيجا منهما. يمتنع نقد “نحن”، وينفلت طليقا ومطلقا نقد “هم”. هذا حتى في المجتمعات التي بلا طوائف بالمعنى الشائع للكلمة. هنا تكتسب تمايزات مختلفة، جهوية أو سياسية (“حماس” و”فتح” في فلسطين) أو ثقافية حديثة (“فرانكوفونيون” و”عروبيون” في البلدان المغاربية)، قيمة ثقافية ثابتة وتغدو “طوائف“.

والنقد الطائفي فاسد لأن موضوعه ليس أفعالا أو سياسات أو أفكارا.. بل جماعات وأفرادا معرفين بانتمائاتهم. فمنطق الطائفية البسيط يقرر أن ما تقول أو تفعل ليس خطأ لكذا وكذا من الأسباب، إنه خطأ لأنك كذا وكذا. أو لنقل إن آراءك وأفعالك خطأ لأنك أنت خطأ. هنا ارتباط وثيق بين “الحقيقة” و”الطائفة”، فلا تقوم معرفة موضوعية لا مبالية بالطوائف أو لاغية لها منهجيا. بالنتيجة يُعرّف الناس بأصولهم لا بأفعالهم، سمة مجتمعات لا تختلط، وليس فيها سوق للكفاءات والمعارف الموضوعية، أو فيها أسواق مفتتة ومغلقة.

قد يستطيع مثقفون أن ينأوا بأنفسهم عن هذا المنطق، لكن ليس دون جهد جهيد. لذلك النقد الاستقلالي نادر عندنا. ففرص النقد ضئيلة دون أفراد مستقلين، بل دون تحول الفرد إلى ثقافة ومؤسسة اجتماعية، وتاليا دون مأسسة المسافة النقدية ثقافيا واجتماعيا. ومن جهة أخرى، لا ينفصل وضع النقد عن نوعية القوى والحركات الاجتماعية المتاحة. نتوقع نقدا أكثر تجردا ومعرفة أكثر موضوعية عندما تعبر القوى الاجتماعية الحواجز الطائفية. وهو بدوره أمر مرتبط ببروز وجه الفرد من وراء الحجب الأهلية والعضوية. ولا نتوقع إلا نقدا مطلقا أو ممتنعا أو طائفيا حين تغلب الطائفية على صيغ الانتظام والنزاعات الاجتماعية.

هذا شأن يتعين على سوسيولوجية الثقافة في بلداننا أن تبدي اهتماما أكبر به

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى