معركة الإصلاح في سوريا.. دونكشوتية النخب
فادي كحلوس
يمثل الكتاب الذي بين أيدينا حقيقةً رؤى الإصلاح في سوريا واتجاهاته بما يحويه من تفاوت للوعي بمفهوم الإصلاح وكيفيته وأدواته تارة، وغياب هذا الوعي أو حتى الجهل به تارة أخرى، وهو بذلك يعكس جزءا مهماً من عملية الإصلاح سواء في تصوير صعوبة هذه المهمة أم في توصيف استحالتها،وذلك بناءا على تفاوت هذا الوعي أو غيابه. فهذا الكتاب ـ حسب تعبير محرره الدكتور رضوان زيادة ـ “ساهم فيه كتاب سوريون يعتبرون الأهم في الساحة الثقافية والسياسية السورية على صعيد الكتابة والتحليل في الشأن السوري”. وهنا جوهر الكارثة، فرغم ذلك فإنّ الكتاب لم يتطرق إلى الحديث عن الإصلاح إلا في مواقع قليلة، فقد تشتت هذا الحديث حول مواضيع عدة كالمحاور التي تناولت تاريخ نظام البعث الحاكم وأساليب حكمه وسياساته الداخلية والخارجية، إضافة إلى تاريخ العلاقات السورية اللبنانية وكذلك نشوء التنظيمات الإسلامية وظهور ما يسمى بالإسلام السياسي وتاريخ الانتهاكات السلطوية لحقوق الإنسان وقد جاء ما سبق ضمن أسلوب سردي تاريخي خال من التحليل والوعي التحليلي، وهذا السرد بات معروفاً للكثير من المواطنين السوريين وبمعنى آخر، لم يرتق ما كتب في هذا الإطار إلى مستوى عنوان هذا الكتاب ” معركة الإصلاح في سورية “بل هو خروج واضح عن السياق الفكري والنقدي لهذه المعركة إن لم نقل بعدم وجود نضوج رؤيوي، ومن هنا يمكننا اعتبار هذا الكتاب – باستثناء تلك المواقع القليلة – كمثيله من الدراسات النظرية التقليدية التي تطرقت إلى الواقع السوري دون أن تثمر، بمعنى أنها لم تشكل ورقة عمل تندرج ضمن أولويات أجندة الجمعيات والمؤسسات السياسية والحقوقية والمدنية في سوريا ولم تتراكم أيضاً لتصل إلى رؤية واقعية عملية ناضجة ومنتجة وموحدة. ولهذا أيضاً أسبابه الذاتية والموضوعية، وبما أننا نادراً مما نتكلم عن الجانب الذاتي – وأقصد به ما يقع خارج نطاق النظام – عند محاولتنا التعاطي مع الإشكالات المطروحة في الداخل السوري فإنني سأتجه نحو ذاك الجانب فهو برأيي الأهم، لأنه بات أقل معرفة من الجانب الموضوعي رغم كل ما كتب عنه وسأنطلق من ربط عنوان الكتاب “معركة الإصلاح في سوريا ” مع الفريق الثاني من هذه المعركة هذا الفريق الذي يعتبر نفسه حاملاً لهذا المشروع، وما ورد في خصوصه في تلك المواقع القليلة والتي تجلت في محوري الكاتبين ياسين الحاج صالح: سياسات التغيير في بنية مأزومة والكاتب حازم نهار، المجتمع المدني وحقوق الإنسان: هل يصلحان مدخلا للتغيير ؟
علماً أن هذين المحورين- برأيي – هما الوحيدان اللذان يستحقان النقد من مجمل ما ورد في الكتاب بما يحويانه من عمق في التحليل وعلمية في التوصيف على الرغم مما يعتريهما من طوباوية نظرية تقابلها استحالة في التطبيق العملي.
ثمة نقاط عديدة علينا تحديدها عند مطالبتنا بالإصلاح ويأتي هذا التحديد بهدف تشكيل منهج متكامل يؤطر هذا المفهوم من حيث ساحة الإصلاح وحملته وأولوياته وأدواته ووسائله مع مراعاة اللحظة المناسبة له وعدم إغفال عامل الزمن، وعدم تحول النظر والتعامل مع الإصلاح إلى مجرد صراع على السلطة لأن ذلك يشكل انزياحا هائلا وغير مبرر حول المفهوم وضرورة أن يستقرئ كل ذلك من الواقع العياني كي لا نتوه في معركتنا هذه عن فريقها الحقيقي الآخر أي ما يراد إصلاحه.
فكما يتحمل النظام جزءا من المسؤولية فيما يخص الفساد، تتحملها بالتساوي الأسس الاجتماعية والثقافية والسياسية وقواها المفرزة له، فالإشكالية هنا ليست إشكالية نظام سياسي فقط.
فالمحاور الني تناولت تاريخ نظام البعث الحاكم تمثلت هنا في ما تناوله الكاتب برهان غليون: “الأسدية” في السياسة السورية أو دور السياسة الإقليمية في تحقيق السيطرة الداخلية: حيث يعرض لنا الكاتب سرديا ً التجربة السياسية التي قادها الرئيس حافظ الأسد، مسلطاً الضوء على نموذج الحكم الذي بلوره خلال عقود ثلاثة من السلطة المتواصلة، ويعتبره مهماً في أي مسعى لمعرفة اتجاهات التطور السورية، سواء باحتمالات تطور النظام القائم أو بقدرة البلاد والقوى الاجتماعية والسياسية على التعامل مع الأوضاع والمستجدات والتحولات الجارية في الشرق والعالم العربي عموماً، ويضيف بالقول بأن هذه التجربة والتي شكلت لغزاً مصدره تمتع هذا النظام بقدرة كبيرة على الجمع بين التناقضات وتبديل السياسات والانتقال من تحالف إلى آخر دون أن تختل توازناته الداخلية أو تتأثر صورته الخارجية، وحول مشروعية النظام وقوته واستمراريته يقول الكاتب : إن المدافعين عن النظام يرجعون مشروعية ذلك إلى نظرية أساسية مفادها: أن نظام البعث كان جزءاً من الحركة الشعبية القومية العربية التي تنامت في الخمسينات والستينات،وان الرئيس حافظ الأسد هو من وضع بحركته التصحيحية عام 1970م هذه التجربة على طريقها السليم، وفي هذا المنظور يظهر الرئيس حافظ الأسد واحدا من أولئك القادة الكبار الذي جسدوا مرحلة الصراع الوطني والقومي العربي، أمثال عبد الناصر وأحمد بن بله وغيرهما وبالمقابل يشدد المناوئون للأسد على نظرية الاستخدام الموسع للعنف الذي واجه به الحكم البعثي خصومه منذ استلامه السلطة في الثامن من آذار / مارس 1963 .
كما طرح الكاتب جملة من النماذج السياسية التي تعامل معها النظام في تاريخ حكمه، من قوى خارجية وقوى إقليمية وأخرى داخلية، ورأى الكاتب أن القسم الأكبر من قوة النظام كان ثمرة العمل خارج حدود الدولة، وهو ما أدى حسب رأيه إلى تحويل سورية من طرف في النزاعات إلى مركز تقاطع مصالح وقوى متعددة ومتضاربة عربية وإقليمية ودولية، وهذا ما جعل من سورية شريكاً معترفا به أحياناً أو شريكاً مضاربا أحياناً أخرى في العديد من الملفات الصعبة والمعقدة التي تحتل أجندة السياسة الإقليمية( القضية الفلسطينية – النفط – لبنان – الأكراد –العراق)، وتوظيف ذلك داخلياً. وحول أوضاع هذه السياسات ما بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد يقول:إن ضمان الأمن والاستقرار للنظام استدعى العمل على خطين متوازين، الأول: الانسحاب السريع لسورية من المعارك الخارجية، وإعادة بناء العلاقات السورية الإقليمية على أسس جديدة قائمة على قاعدة توازن المصالح والندية والاحترام المتبادل. والخط الثاني: التفكيك المنظم والطوعي لنظام الحزب الواحد، وفتح الحقل السياسي في سبيل إعادة بناء علاقات السلطة مع الشعب، وملء الفراغ السياسي والفكري والأخلاقي الهائل الذي تركته عقود طويلة من السيطرة الآلية، لكن – يقول الكاتب – إن النظام عاد إلى سياسات التحكم الأمني الدقيق بحركة الأحداث اليومية داخل سورية، والتثبيت على سياسة تعزيز المواقع السورية الخارجية. وحول رؤية الكاتب للحلول فإنه يقول: لن يكون الانتقال نحو نظام ديمقراطي لا في سورية ولا في لبنان مفروشا بالورود، واستبعد الكاتب أن يكون المخرج السوري على الطريقة اللبنانية أو العراقية، كما أن طبيعة العلاقات التي ستنشأ أو يمكن أن تنشأ بين سورية ولبنان في المستقبل مرهونة بطبيعة النظم التي سيستقر فيهما، وأن العلاقات الثابتة والمستقرة والإنجابية بينهما تتطلب ترسيخ نظم ديموقراطية، تعكس إرادة الشعبين، وهنا يطالب الكاتب الديموقراطيين اللبنانيين والسوريين بنشر ثقافة الديمقراطية.
وحول تاريخ العلاقات السورية اللبنانية ساهم الكاتبان ميشيل كيلو ورضوان زيادة في توصيف معالمها تاريخا وحاضرا ومستقبلا وسأتناول كل محور على حدة.
التحولات السياسة الإقليمية السورية في علاقتها مع لبنان: ميشيل كيلو
جاء في هذا المحور والكلام دائما للكاتب ميشيل كيلو: انطبعت علاقات سورية مع لبنان قبل عام 1963م، بطابع مشوه تسبب فيه عقل أمني ترجم رغبة دمشق قبل حكم البعث في ألا تكون بيروت مقرا أو ممرا للاستعمار، وبعد حكمه في ألا تكون مكانا يهدد النظام السوري القائم، وباستثناء فترة قصيرة في أواسط الأربعينيات، اتسمت العلاقات بين البلدين خلالها بتداخل المصالح والسياسات فإن تطورهما في إطار اقتصادي حر ونظام برلماني لم ينجح في الإبقاء على خصوصية صلاتهما،فـ”البرجوازية ” السورية خالت إنها لن تستطيع تحقيق تطور مفتوح في سوقها الداخلية ما لم تنفك عن البرجوازية اللبنانية، وتقيد نفوذها فيه وتأثيرها عليه وعليها هي ذاتها، وتفك السوقين بعضهما عن بعض وهو ما حصل مطلع الخمسينات مع تدابير حكومة خالد العظم، حيث وضعت هذه الحكومة حجر الأساس لافتراق المجتمعين والدولتين الحديثتين ولتبلورهما كدولتين منفصلتين ترى في علاقتهما معاً شأناً خارجياً يجب أن يعالج في ضوء اعتبارات أمنية بالدرجة الأولى وقد طبعت علاقتهما بطابع غير عقلاني جعل الطرف السوري يرى في لبنان مصدر خطر عليه والطرف اللبناني يرى في سورية أخاً متجبرا
وغير متفهم. وأن لبنان الضعيف تجاه شقيقته المتطلبة، اتبع الأسلوب المألوف لصب واحتواء ضغوطها كالأخذ بسياسات عربية ودولية، توازن وتحييد الثقل السوري أو تخففه في مجال سيادته الداخلي. وعند قيام الوحدة السورية/المصرية عام 1958م، توترت أوضاع لبنان وتفاقمت خلافات أطرافه ونشبت حرب أهلية فيه، إلا أن حكومة الوحدة لم تنتج سياسة تنحاز إلى طرف لبناني بعينه، ولم تحول نفسها إلى جزء من صراعاته الداخلية أو تنطلق في تعاملها قي أحداثه من ضرورة انضمامه إلى الوحدة الوليدة، بل رسمت سياسة تقوم في جوهرها على وقف الحرب الأهلية.
أما عن العلاقات السورية اللبنانية بعد عام 1963م فيقول الكاتب: لم يحدث أي تبدل يستحق الذكر إلا أن هزيمة حزيران/يونيو 1967م، جاءت بتطورين مهمين أشارا إلى المنحى الذي ستذهب فيه علاقات البلدين، هما: لقاء الرئيس حافظ الأسد مع الرئيس سليمان فرنجية، والذي ما يزال أمره سرا، ومطالبة سوريا بإعطائها مراكز إنذار واستطلاع متقدمة داخل لبنان، لحماية ما أسمته “خاصرتها الرخوة”.هذه المطالبة تمت باسم علاقات الأخوة وضرورات الأمن الوطني والقومي، سيقيض لها أن تصير مهمة في تقرير نمط تعامل البلدين بعضهما مع بعض، وفي طبع علاقاتهما من جديد بطابع أمني، ومن ثم يشير الكاتب إلى الانقلاب الذي حدث في العلاقات السورية اللبنانية ما بعد حرب تشرين ، وخاصة بعد اتفاقية فصل القوات الأولى والثانية على الجبهة المصرية ، وهذا ما ترك سوريا وحيدة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والسياسات الأمريكية وهذا أيضا ما وضع سوريا أمام بديلين:
أولهما الالتحاق بركب السادات، وثانيهما رفض التسوية وتحمل النتائج الخطيرة، التي سترتب على بقاء النظام وحيدا في مواجهة العدو، وهذا ما أوجب –على الصعيد السوري- سحب الجيش المتواجد على الحدود العراقية، وإرسال وحدات مقاتلة هامة منه إلى لبنان، ويضيف الكاتب:لم يأت الدخول إلى لبنان من فراغ، بل تم التحضير له داخليا وخارجيا، وقد اعتبرت السلطة في دمشق الدخول إلى لبنان فرصة تاريخية تمكنها من التحول إلى قوة إقليمية أولى في المشرق العربي، وهذا ما سيلبي التعزيز النوعي لمواقعها، تستطيع استخدامه في أي اتجاه تريد. من جانبها، قبلت الدول العربية السياسة الجديدة، التي غطت الدخول السوري الكثيف إلى لبنان. ومن ذرائع التدخل السوري يقول الكاتب:إن القيادة السورية بررت أول الأمر تدخلها العسكري بوجود مؤامرة إمبريالية/صهيونية تستهدف إدخال لبنان إلى التسوية، وتاليا تطويق سوريا وإضعاف قدرتها على تحرير أراضيها المحتلة، أما مدخل المؤامرة فهو الاقتتال الطائفي الذي استعرت نيرانه في نيسان من عام 1975م وانخرطت فيه الثورة الفلسطينية وأخذ يهدد كيان لبنان، الذي سيكون تفتيته بداية تفتت المنطقة، بما فيها سوريا. بعد التدخل، الذي واجهته صعوبات ومر بمراحل متنوعة، تغير الخطاب الذي برر بواسطته وجوده العسكري في لبنان، وركز على ضرورة “الانتشار السوري” للحيلولة دون تجدد الحرب الأهلية. في حقبة ثالثة، أكد الخطاب على ضرورة منع وقوع لبنان بين أيدي العدو الصهيوني،وفي الحقبة التالية للطائف، تغير الخطاب من جديد وركز على إضفاء شرعية لبنانية عامة على وجوده تجلت في مطالبة نخب لبنان الحاكمة ذاتها ببقائها فيه.
وحول تقنيات السيطرة يقول الكاتب ميشيل كيلو:إن السيطرة مرت على لبنان في مرحلتين، الأولى سبقت الغزو الإسرائيلي عام 1982م، والثانية بدأت عام 1983م مع عودة دمشق من جديد إلى المناطق التي انسحبت منها إسرائيل. كما أشار الكاتب إلى آليات السيطرة مرورا بالصراع السوري الأمريكي-الإسرائيلي والمتمثل بغزو إسرائيل العسكري للبنان عام 1982م وانزل ذلك خسائر فادحة بالجيش السوري في لبنان وسوريا، وأدى إلى إخراجه من معظم الأراضي اللبنانية وصولا إلى العودة الجديدة والتي من أسبابها فشل اتفاقية 17ايار/مايو وبعد هذه الفترة، وصلت سوريا إلى تحقيق إنجاز كبير لسياستها هو انسحاب إسرائيل من لبنان وتطبيق القرار /425/ ومع الحرب ضد العراق عام2003 وجدت دمشق نفسها في مواجهة مع واشنطن وقد شكل لبنان نقطة الحسم في هذه المواجهة. وحول مستقبل العلاقات بين البلدين: أورد الكاتب جملة من الحقائق التي اعتبرها مهمة ويصعب الحديث عن هذا المستقبل دونها, وهي الطبيعة الحالية التي تتعامل بها سوريا مع لبنان بما تحويه هذه الطبيعة من تفاصيل تخص طبيعة التعامل السوري – اللبناني واللبناني- اللبناني, وان المستقبل الذي ستكون عليه علاقات البلدين صعب التحديد لما له من تداخل مع أوضاع داخلية وإقليمية ودولية متغيرة.
العلاقات السورية اللبنانية … مشقة الأخوة: الكاتب رضوان زيادة
يستطلع الكاتب جملة من الأحداث السياسية والعسكرية البارزة في تاريخ العلاقة بين البلدين فيقول:إن سورية خرجت بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973م، متجاوزة بذلك ما امتد من صراعاتها الداخلية منذ عام 1949م، وحتى “الحركة التصحيحية” عام 1970م، كما خرج الرئيس الراحل حافظ الأسد أيضا بشعبية ورمزية عالية، وساهم ذلك كله في تحويل سورية من موقع يتنافس عليه الجميع إلى لاعب يطلب وده الجميع. وبدأ الدور الإقليمي الجديد لسورية, متمثلا بزيارة الراحل حافظ الأسد إلى لبنان في7كانون الثاني/يناير1975م، ولقائه بالرئيس فرنجية، وقد كان التدخل السوري السياسي مبكرا بهدف وقف الاقتتال بين الأطراف المتناحرة، فلبنان لا يمثل فقط عمقا استراتيجيا لسورية، وإنما الحفاظ على وحدتها هو جزء من الاستراتيجية السورية التي اتبعها الأسد لحفاظ على التوازن مع الصراع العربي الإسرائيلي، وقد حاول الأسد أول الأمر تسوية الصراع الذي أدى إلى الحرب الأهلية سياسيا وهو ما تم حين رعت دمشق الإعلان عن “الوثيقة الدستورية” اللبنانية في 14 شباط/فبراير 1976م، وفي غضون ذلك استمر التصعيد الإسرائيلي المستمر على لبنان بهدف تأجيج الانقسام الطائفي بالإضافة إلى استهداف الفلسطينيين في لبنان، وبسبب الهجمات الفلسطينية الفدائية المتكررة داخل إسرائيل وضعت المنطقة على شفة حرب جديدة، ورغم ذلك إلا أن الأسد كان مترددا في الدخول إلى لبنان، غير أن طريقه إلى لبنان لم يكن معبدا تماما، حيث كان الأسد قد راهن بعد فشل “الوثيقة الدستورية” على انتخاب الياس سركيس رئيسا للجمهورية في أيار/مايو 1976م، قبل موعد انتهاء ولاية فرنجية بفترة مبكرة، وحسم الأسد خياره بدخول قواته العسكرية إلى لبنان، واتخذت القيادة القطرية في النهاية القرار بالتدخل في لبنان، لكن هذا التدخل قدر له في البداية أن يكون محدودا ثم امتد واخذ شكلا مأساويا. وتعزز موقف الأسد عربيا بعد مؤتمر القاهرة في 25تشرين الأول/أكتوبر 1976م .
ويمر الكاتب على ما ترتب على سورية فعله في لبنان لكسب التوازن الإقليمي، خصوصا بعد التحولات الدولية التي طرأت بعد حرب الخليج الأولى عام1990م، والتحولات الطارئة في الاتحاد السوفيتي، مرورا بمؤتمر جنيف ومبادرة ريغان1982م، فخطة شولتز 1987م، وانتهاء بعملية تصفية الحسابات عام 1993م. وبعد وفاة الأسد ومجيء الرئيس بشار الأسد، دخلت العلاقات السورية- اللبنانية منعطفا جديدا بدأ من الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني في أيار/مايو2000م، ثم صعود الاحتجاجات الداخلية المطالبة بخروج القوات السورية من لبنان، وفقا لاتفاق الطائف نظرا لانتهاء دورها. وكانت سورية قد أعادت انتشار قواتها العسكرية من لبنان أربع مرات قبل صدور القرار/1559/والذي دعا إلى احترام سيادة لبنان وجاء ذلك بعد دعم دمشق للتمديد للرئيس لحود. لكن ومع اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، دخلنا حقبة جديدة ذات عناوين مختلفة إن لم تكن جذرية على مستوى علاقات سورية مع لبنان، ثم جاء الإعلان السوري بانسحاب قواتها واستخباراتها الكامل،وقد عبر الشرع وزير الخارجية السابق والنائب الحالي للرئيس ، أن دمشق بانسحابها الكامل من لبنان تكون قد نفذت الشق المتعلق بها من القرار /1559/وأصبح الشق الآخر لبنانيا محضا، وهذا الكلام هو ذاته الذي أعلنه الرئيس بشار الأسد خلال خطابه أمام مجلس الشعب. وحول مسألة الإصلاحات الداخلية، يعتبر الكاتب بأن النظام السوري أضاع عمليا فرصة تاريخية حقيقية اتيحت له خلال فترة “ربيع دمشق”كان الحراك المجتمعي حينها متأهبا للاندماج في عملية إصلاح تدريجية مستمرة وعميقة، ويضيف الكاتب قائلا: لذلك، فالتفكير من زاوية وطنية يحكمها المصالح العليا للشعب السوري قد يدفعنا إلى القول أن الضغوطات الخارجية ربما تصب في إطار المساعد والمهيّئ للقيام بالإصلاح اللازم. ويقول:إن سياسة داخلية تقطع جذريا مع السياسة الأمنية ولا تأتي من محض ردة الفعل على الضغوطات الخارجية هي سياسة مطلوبة لذاتها وبذاتها ، لأن دور الدولة الوظيفي اليوم انتهى، وحان الوقت لبناء دولة الحق والقانون، دولة لكل مواطنيها، أما حول المعارضة السورية فيقول الكاتب: لقد نجحت المعارضة في بلورة ما يسمى بإعلان دمشق وان الهدف النهائي منه هو إطلاق مستوى عال من الحوار ودينامية للعمل السياسي بغية الدفع باتجاه التغيير وتوحيد قطب معارض للسلطة القائمة تجبرها على القيام بالتغييرات المطلوبة داخليا بدل التفاوض مع الخارج للقيام بهذه التغييرات.
كما جاء في الكتاب سرد تاريخي حول ما يسمى بالإسلام السياسي، كاتب هذا المحور عبد الرحمن الحاج ظواهر الإسلام السياسي وتياراته في سورية: استعادة الخيار الديموقراطي:يخبرنا الكاتب هنا بأن فهم توجهات الإسلام السياسي في سوريا يصعب راهنا دون معرفة جيدة بالإرث السياسي الإسلامي الخاص بها، والذي تشكل عبر مرحلتين شديدتي التمايز، الأولى: مرحلة الانتداب الفرنسي وما بعد الاستقلال وقيام الدولة الوطنية حتى انقلاب الرئيس حافظ الأسد عام 1970م، والثانية:مرحلة الرئيس حافظ الأسد ونجله من بعده. وحول تنظيمات الإسلام السياسي يقول: نشأت أول تنظيمات إسلامية في الثلاثينات من القرن المنصرم، وهي معنية بالحياة العامة تحت تأثير مقاومة الاستعمار الفرنسي وبأسماء مختلفة، والتي شكلت فيما بعد”شباب محمد”الذي تحول بدوره على يد مصطفى السباعي إلى تنظيم “الإخوان المسلمين”، حيث شكل قوة سياسية مكنته من دخول البرلمان عام1949م. وان سورية لم تشهد حركة أصولية سياسية عنيفة في تاريخها، باستثناء فترة”الأحداث”(1976-1982)، فكل حركات الإسلام السياسي كانت حتى ذلك الوقت تؤمن باللعبة الديمقراطية، ولا تتضمن أدبياتها أي حديث عن رفض الديمقراطية، أو الانقلاب عليها، باستثناء الإلحاح على الدولة الإسلامية التي لا يمانعون في كونها دولة وطنية ديموقراطية قائمة على تداول السلطة. ولا تشكل برامجهم السياسية عموما فروقا واضحة عن برنامج أي حزب علماني محافظ، باستثناء البصمة الدينية المحدودة التي تتجلى في مطلب أو اثنين، ولا تبدو أكثر من زينة في إطار برنامج سياسي صرف. ويقول الكاتب:إن الأخوان ساهموا في أول صياغة علمانية لدستور السوري عام 1950م، وانه مما يستحق ملاحظته أن أول تفكير في تأسيس تنظيم أصولي عنيف نشأ بعد عام 1963م، وهكذا فانه في كل الأحوال في فترة(1964-1966)التي شهدت سورية بعض الأحداث المتعلقة بقضايا إسلامية في مدينتي حماة ودمشق لم تكن من صنع تنظيمات إسلامية سياسية، فأحداث 1966م،ليس لأي تنظيم إسلامي دور فيها بقدر ما كانت المسألة متعلقة بالوعي الديني والاجتماعي المحافظ . كما نوه الكاتب إلى ظاهرة الإسلاميين المستقلين أو الإسلاميين الذين لا ينتمون إلى أحزاب إسلامية، هذه الظاهرة التي شكلت جزءا مهما وذا مغزى في الخارطة للتاريخ السياسي السورية بعد الاستقلال، وهي ظاهرة واضحة ومستمرة، وان الإسلاميين لم يكن لديهم حساسية خاصة تجاه الأفكار والأيديولوجيات السياسية. وان السنوات الثماني في الستينات خلقت أحقادا بين الإسلاميين والبعثيين على وجه الخصوص، لسببين، أولهما الأحداث الخاصة التي حصلت في عامي1963م (حماة) و1966م (دمشق)، وثانيهما السياسات التي انتهجها الضباط البعثيون الانقلابيون.
وقد أدى أيلول /سبتمبر الأسود 1970م، إلى تفكك “الطليعة المقاتلة لحزب الله” التي أسسها الشيخ مروان حديد بعد نكسة 1967م لقتال الإسرائيليين، فانتقل أعضاؤها إلى سورية. كما يقول الكاتب أن تداعيات الاحتقان بين النظام والإخوان ومعهم تنظيمات المعارضة السورية الأخرى سرت بشكل طبيعي إلى الشارع السوري وجيشه وأحزابه، وعقب التدخل السوري في لبنان وقعت سلسلة من الاغتيالات السياسية والهجمات على قادة حزب البعث في سورية، حيث قادت مجموعة غير معروفة آنذاك باغتيالات استهدفت بعثيين وعلويين، ولا يستبعد أن يكون تنظيم الطليعة المقاتلة ضالعا فيها، وقد أدت الحوارات والوساطات مع الأسد إلى إعلان التمييز بين جناح عنيف، وآخر سلمي في جماعة الإخوان المسلمين. وكان مناخ التوتر الطائفي والسياسي الحاد- إضافة إلى تحول خطاب الإخوان منذ أواسط السبعينات باتجاه خطاب جهادي- قد وفر وسطا ملائما لانتقال الإسلاميين الشباب عموما باتجاه خطاب العنف، وكان هذا التحول قد أدى إلى شق جماعة الإخوان . وكان صدور القانون /49/ من عام 1980م والذي جعل عقوبة الانتماء إلى الإخوان والاشتراك معهم أو الترويج لآرائهم جريمة عقوبتها الإعدام، وكان ذلك على خلفية محاولة اغتيال الرئيس حافظ الأسد بالإضافة إلى بيان “الثورة الإسلامية في سوريا ومنهجها”، ولم يعد للإخوان المسلمون وجود على الأراضي السورية، وقد حرص النظام على تتبعهم في الداخل، وانشق التنظيم وانقسم على نفسه في الخارج ووصلت شعبيته إلى الحضيض.
في ظل انعكاس حقبة الثمانينات وما أعقبها –يقول الكاتب- تشكلت شخصية السوري عموما من الحرص البدائي على المصلحة الشخصية، والخصاء أمام الأجهزة الأمنية ونظائرها، وقد اعتمد الأسد الأب بالنسبة للإسلام السياسي-إقليميا- بناء سياسة تحالفات واسعة مع الإسلاميين في دول الجوار، مثل :جماعة الإخوان المسلمين الأردنية،وإسلاميي تركيا(حزب الرفاه)، شيعة لبنان(“حركة أمل”و”حزب الله”), وحركتي المقاومة الإسلامية الفلسطينيين “حماس”و”الجهاد الإسلامي”،ويسبق ذلك كله- بالطبع- تحالفه مع إيران،ومثل هذه التحالفات مع الإسلاميين عموما- باستثناء تحالفه مع إيران في حرب الخليج الأولى- تلعب دورا مهما في تسويق الدبلوماسية الخارجية السورية شعبيا في العالم العربي والإسلامي، كما أنها تضع في يدها أوراقا تعزز موقفه التفاوضي مع إسرائيل والغرب.
كما يشير الكاتب إلى عزوف ذوي التوجه الإسلامي عن المشاركة في فترة الانفتاح الذي ترافق مع استلام الرئيس بشار الأسد للسلطة، فبيان الـ/99/ يلاحظ انه ليس بين الموقعين أي من المحسوبين على التوجه الإسلامي، وأيضا فقد كشفت مؤشرات الحراك السياسي الجديد فيما سمي بـ”ربيع دمشق” عن مدى تحفظ الإسلاميين لأي مشاركة سياسية علنية، وفي هذه الأثناء كان الإخوان المسلمون في الخارج ينظرون بترقب إلى الحراك السياسي في ربيع دمشق، وعزموا على التحرك مع المعارضة الخارجية فجمعوا معظم التيارات المختلفة في الخارج وبعض نشطاء الداخل على “ميثاق الشرف الوطني”وركز هذا الميثاق على عدم رفض التدخل العسكري في البلاد. ومع تزايد الضغوطات الأمريكية على دمشق وخصوصا بعد اغتيال الحريري، اضطر النظام في محاولة كسب تأييد شعبي عربي وتنفيس الاحتقان في الداخل إلى الإفراج عن نشطاء ربيع دمشق- مستبقيا- الدكتور عارف دليلة، في ذلك الوقت بدأ يدخل المجال السياسي أسماء جديدة كثيرة ضمت بعض الإسلاميين المستقلين كما انضم بعض الإسلاميين في لجان إحياء المجتمع المدني، وكان الإخوان المسلمون قد أعلنوا برنامجهم السياسي الجديد واجروا فيه تحولات في رؤيتهم. ويقول الكاتب: وقد استقر مشهد الإسلام السياسي في سورية اليوم على:
1. جماعة الإخوان المسلمين، وليس لديهم أي وجود فعلي في سوريا.
2. الإسلاميون المستقلون، وهم ما زالوا أفرادا قلائل ومعظمهم مثقفون إصلاحيون، أقرب إلى الليبراليين منهم إلى الإسلاميين.
3. تجمعات سلفية جهادية صغيرة ولا رابط تنظيمي بينها.
وينهي الكاتب حديثه فيقول: إن معرفة النظام لمخاوف الغرب من “الإرهاب” الإسلامي، جعله يستغل هذا الخوف، لوضع الإسلاميين دريئة يحتمي بها من مخاوف الرغبة الأمريكية بتغيير النظام، وهناك قضيتان تثاران إجمالا لتحقيق هذا الغرض الأولى، لفت الانتباه إعلاميا إلى مظاهر التدين في المجتمع السوري والثانية، الإعلان عن عمليات تعقب وصدامات مسلحة مع خلايا أصولية. وحول ما سبق ذكره يقول الكاتب :إن الخطر الإسلامي المسلح في سورية غير وارد بالمرة، وإذا قرر الإسلاميون العودة فإن مسؤوليتهم عن الكارثة الوطنية نتيجة “الأحداث” ستكون “بجوار” مسؤولية النظام عنها، وكلاهما مدين للشعب السوري بالاعتذار.
وحول حقوق الإنسان في سوريا، تطلعنا الكاتبة رزان زيتونة على واقع ومستقبل هذه الحقوق من خلال ما كتبته في محور:
حقوق الإنسان في سوريا..أي واقع لأي مستقبل!!
تقول الكاتبة:خلال السنوات الماضية، بدأت حركة حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني في سوريا نضالها من اجل الدفاع عن قضايا حقوق الإنسان، إلا أن محاولتها لم تتجاوز عتبة”مقاربة”هذه الحقوق معرفة وممارسة. وإن نجحت في خرق بعض الحواجز فإنها بقيت أسيرة أطر سياسية وثقافية واجتماعية تعجز عن تجاوزها.
وحول البيئة السياسية السائدة وتداعياتها على حقوق الإنسان تقول:إن معظم الحقوق والحريات في سوريا تنتهك تحت مظلة حالة الطوارئ المعلنة منذ عام 1963م، وما يصاحبها من تغييب للدستور وتهميش القوانين الوطنية التي تحمي هذه الحقوق والحريات لصالح القوانين الاستثنائية، فضلا عن الشلل الذي أصاب المجتمع المدني في سوريا جراء حظر العمل السياسي المستقل، وإن مجمل الظروف السابقة، شكلت البيئة الخصبة لتردي أوضاع حقوق الإنسان على المستويين العملي، من حيث الانتهاكات المختلفة التي تمارس بحق المواطن بدون مساءلة أو محاسبة، والنظري، من حيث ضعف أو غياب حقوق الإنسان كثقافة وفكر على صعيد المجتمع. كما تشير الكاتبة إلى أهمية العمل في مجال حقوق الإنسان على الصعيد النظري، فهو ضرورة فعلية للمساعدة على تجاوز تراث سياسي- ثقافي يقوم في بعض جوانبه على الانغلاق والتعصب ونفي الآخر. وهذا – كما تقول الكاتبة- ينطبق على مستويات ثلاثة:
أولا- الأيديولوجيا التي تقوم عليها مختلف الأحزاب السياسية، والتي لا تجد دعواتها إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان مرجعا حقيقيا لها في خلفياتها النظرية. وهذا ينطبق إلى هذا الحد أو ذاك على المنظمات الحقوقية التي نشأت في الغالب على عتبات تلك الأحزاب.
ثانيا – على المستوى الثقافي والاجتماعي، لم تشهد الساحة الفكرية السورية نقاشا معمقا حول مسألة الخصوصية والعالمية في حقوق الإنسان، والتي تجد مرتكزاتها غالبا في الخلفية الإسلامية للمجتمع، فقد شهدت سورية مؤخرا حملة من قبل بعض خطباء الجوامع وأئمة المساجد ضد مؤسسات المجتمع المدني عامة والحركات النسوية بشكل خاص، كما نلمح تعاملا خجولا من قبل الحركة الحقوقية السورية مع التحفظات الحكومية على بنود الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها سورية، بحجة مخالفتها مبادئ الشريعة الإسلامية، بل نجد كثيرا من النشطاء لا يجدون مشكلة في تأييد هذه التحفظات بشكل تام.
ثالثا – على مستوى تناول السلطة لقضايا حقوق الإنسان، حيث تتلاعب بمفهوم حقوق الإنسان وتعمل على تسويقه على انه نتاج غربي يستخدم كإحدى الوسائل لاختراق المجتمعات العربية من الداخل.وفي المجمل- تقول الكاتبة- فإن وضع مبادئ حقوق الإنسان في سياقها الثقافي والمعرفي المجتمعي، هو وحده الكفيل ببناء الفرد الحر الواعي لحقوقه والمدافع عنها. وذلك يقتضي العمل على عدة أصعدة، أولا دور الحركتين الحقوقية والثقافية في سوريا، في مقاربة جميع الإشكالات التي تعترض تقبل وتفهم مبادئ حقوق الإنسان، والعمل على إدراج مبادئ حقوق الإنسان في المناهج التعليمية للمراحل الدراسية المختلفة. ورغم اتخاذ مجلس التعليم العالي قراره رقم 47تاريخ20-4-1988م، بأن يتم تدريس مادة حقوق الإنسان في الجامعات السورية، إلا أن هذا القرار لم يأخذ طريقه إلى التطبيق حتى اللحظة. ومن ناحية ثانية، لا بد أن تدرج ضمن المناهج منذ مراحل التعليم الأولى، وبشكل يرسخ مفاهيم حقوق الإنسان كثقافة وممارسة لدى شريحة المتلقين من التلاميذ.
وتنتقل الكاتبة إلى استعراض أهم الانتهاكات المرتكبة في ظل حالة الطوارئ فتقول:
1. الاعتقال التعسفي من قبل أجهزة الأمن على خلفية ممارسة أي من الحقوق أو الحريات.
2. ما يصاحب ويلي الاعتقال التعسفي من تعذيب وانتزاع اعترافات بالإكراه، بالإضافة إلى الاختفاء القسري.
3. الإحالة إلى القضاء الاستثنائي الذي يفتقر للمعايير الدنيا للعدالة.
4. استمرار العمل بالقوانين”المكملة لقانون الطوارئ” من حيث انتهاك الحقوق وحماية مرتكبي الانتهاكات.
وتقول الكاتبة:إن وتيرة الاعتقالات ما زالت كبيرة حاليا وهي تتركز بشكل أساسي على نشطاء المجتمع المدني وأحزاب المعارضة وعلى خلفية إبداء الرأي، بالإضافة إلى المعتقلين من المواطنين الأكراد سواء المطالبين بالحقوق السياسية والثقافية أم المطالبين بقضية التجنيس. بالإضافة إلى الاعتقال على خلفية التقارير الإخبارية .
ومن الحريات والحقوق الأخرى المنتهكة في سوريا تقول الكاتبة:انتهاك حرية الرأي والتعبير وتبادل المعلومات عبر قانون مطبوعات يضع قيودا كبيرة على حرية الصحافة، وباحتكار وسائل الإعلام المرئية والمسموعة من قبل الدولة باستثناء المحطات الترفيهية، وحجب عشرات المواقع على شبكة الانترنت.بالإضافة إلى الافتقار إلى قانون أحزاب وجمعيات عصري ينظم عمل المجتمع المدني دون أن يفرض قيودا تحول دون التأسيس أو ممارسة النشاط بحرية.
وحول ما صادقت عليه سوريا من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان تقول:صادقت سوريا حتى الآن على سبع اتفاقيات دولية، هي العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، اتفاقية حقوق الطفل، اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة،اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاانسانية أو المهينة، الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرتهم. وان عدم حصول تقدم مذكور في الميادين التي تتعلق بالاتفاقيات التي صادقت عليها سورية يعود إلى عدد من الأمور, كطبيعة هذه الاتفاقيات التي تفتقر إلى صيغة الإلزام العملي والمساءلة عن خرق ما تنص عليه من حقوق وحريات، وأيضا التحفظات على مواد مهمة في تلك الاتفاقيات،وبقاء تلك الاتفاقيات خارج نطاق التطبيق القانوني المحلي.
وعن حركة حقوق الإنسان تقول الكاتبة:لا تزال هذه الحركة قيد النشوء والتأسيس ورغم ازدياد أعداد منظماتها، إلا أن ذلك لم يصاحبه تطور في الأداء والفعالية لأسباب موضوعية، كغياب الغطاء القانوني المتمثل بعدم الحصول على التراخيص القانونية اللازمة, والعجز عن القيام بأية نشاطات تدعم عملها بالإضافة إلى ما يتعرض له النشطاء من ضغوط أمنية مستمرة وأيضا أسباب ذاتية، كظروف نشأة هذه المنظمات”كالانحدار من خلفيات حزبية طبع كل منظمة بطابع أيديولوجي”، كما أدى ذلك إلى انتقال الأمراض الحزبية إلى مناخات المنظمات الحقوقية، كما يتصف الأداء العملي للمنظمات بافتقاره إلى المهنية والدقة ويغيب فيه تقسيم العمل ورسم استراتيجية واضحة للأهداف المستقبلية، وعدم تحقيق الفائدة المرجوة من الدورات التدريبية التي تقام بين الحين والآخر. ومن النقاط التي تراها الكاتبة تساهم في ارتقاء أداء الحركة الحقوقية في سورية، تشير إلى نقطتين،الأولى: أهمية إطلاع الناشط السوري على تجارب الحركة العربية لحقوق الإنسان وقراءتها قراءة تحليلية معمقة، والثانية:الاهتمام بالخلفية النظرية لكوادر الحركة الحقوقية السورية، وهذا ما سينعكس ايجابيا على تقييمها لدورها واليات عملها وأدائها، ويقلل من حدة التجاذبات والخلافات الايديولوجية.
وتختتم الكاتبة هذا المحور بقولها: إن طبيعة النظام السياسي لها الدور الأكبر في الحد من الانتهاكات المختلفة لحقوق الإنسان في سورية، وعلى صعيد الحركة الحقوقية، فلا بد من إعادة قراءتها لدورها ووسائل عملها، بما يتجاوز سلبياتها الحالية ويؤسس لدور أكثر شمولا وعمقا ينقل “حقوق الإنسان”كثقافة وممارسة، من اهتمام نخبة إلى إيمان وفكر مجتمع.
الصراع حول مستقبل سورية … سياسات التغيير في بنية مأزومة : ياسين الحاج صالح
يعرض الكاتب بنية الحزب الواحد فيقول : نظام سياسي مغلق وجامد .أما عن تركيبة البنى الاجتماعية يقول : مجتمع يعاني من تكسر شديد ومتفاقم يتبع خطوطا أهلية، كما يشير إلى العلاقة بينهما ” يتغذى كل من المشكلتين بالأخرى” وهنا يتطرق الكاتب نقيض غيره من الكتاب والباحثين السوريين إلى أن الأزمة التي تستدعي الإصلاح ليست تلك الناتجة عن النظام وحسب ، بل الناتجة أيضاً عن هذا المجتمع بما يحويه من ثقافة تقليدية سائدة ووعي زائف وجدلية الإفراز بينهما وهذا ما بنى عليه الكاتب تصوراته للتغيير والإصلاح والتي تنضوي على تقوية الدولة في وجه السلطة والعصبيات الأهلية وتوطيد الثقة الاجتماعية والحرص على التفاهم بين السوريين المنحدرين من أصول أهلية مختلفة، بالإضافة إلى فتح النظام السياسي وإعادة هيكلة الوظيفة الأمنية، وهنا يجزم الكاتب بعدم وجود احتمالات وسطى بصدد التغيير والإصلاح تقبع ما بين أقل من تغيير عقلاني وأفضل من انهيار عام معزياً ذلك إلى الأوضاع السورية المتطرفة . كما نوه إلى أزمة الثقة الوطنية والتي تعتبر من أعقد العوائق التي تقف في وجه الإصلاح وبالتالي في وجه التحول إلى مجتمع مدني ودولة وطنية، ومفاد هذه الأزمة: طبع التفاعلات السياسية والأيديولوجية السورية بطابعها والتي يشكل فهمها وتحليلها ضرورة لا يمكن القفز فوقها من أجل فهم أية سياسات تغيير ممكنة في سوريا أو من أجل وضع برامج تغيير. أما فحوى هذه الأزمة فتتعلق بالمخاوف المتبادلة والكامنة ضمن تشعبات النسيج السوري وفسيفسائه ( أكراد- عرب) (مسيحيون- مسلمون) (علويون -سنيون) (علمانيون – إسلاميون) (معارضة – سلطة)، وهذه الأزمة تعمل على مستويين: أهلي (اثني ديني مذهبي) و مدني (إيديولوجي – سياسي) مع تراكبات دالة بين الاثنين، وإن ما ينتج عن هذه الأزمة يتمثل بتحول مفهوم الوحدة الوطنية وقياسه على مدى الولاء والتبعية للنظام وليس على المشاركة والحرية، والمعنى الحقيقي الأكبر لهذه الأزمة هو اعتبار التدخل وحرية العمل السياسي تهديداً للوحدة الوطنية وباباً للاختلاف والتنازع، ليس من قبل السلطة فحسب بل من قبل المجتمع ذاته وهذا ما يعبر عنه النظام بقوله: إما أنا أو الفوضى وليس ذلك فقط، بل قد أدت الأزمة إلى جعل خوف السوريين من بعضهم أكبر من خوفهم من السلطة، وبهذا توصل الكاتب إلى نتيجة واقعية ومأساوية مفادها: أن السلطة الاستبدادية باتت جزءً من الحل وليس جزءً من المشكلة أي أن الاستبداد أمسى ثقافة، وتداعيات هذه الثقافة أدت إلى معادلة البقاء للأسوأ في شتى مجالات الحياة السورية، ويختتم الكاتب مفسراً هذه الأزمات بعواملها الموضوعية إضافةً لعواملها الذاتية والمتمثلة بضعف المعارضة السورية وافتقار البلاد إلى قوى اجتماعية موحدة وعمومية تبيح للسوريين أن يتعرفوا عبر سياساتها وبرامجها ومبادراتها على مصالحهم المشتركة وتحوز ثقتهم واحترامهم ما يمكنهم من إصلاح الدولة وحل أزماتها، وكطرح للحلول يميل الكاتب إلى الاهتمام بالتوازن الاجتماعي والتمثيل الاجتماعي المتوازن باعتباره الطريق الذي يتصوره من أجل سورية.
المجتمع المدني ودوره في التغيير: حازم نهار
يرى الكاتب أن لا تغيير وارد دون وجود مجتمع مدني في سوريا وهذا ما يستدعي معرفة تاريخية للمفهوم وتحديد عناصره ودلالاته المعرفية والأيديولوجية والانتقال من اجترار المفاهيم والأفكار نحو خلقها وابتكارها محلياً وتوظيف ذلك في الواقع العملي، وهذا ما يقتضي حسب قوله الإبقاء على معادلة “فكر – واقع” في الذهن لكي نخرج من شرك التجريب الدائم وإنتاج الأخطاء إلى ما لا نهاية وإن كل خطأ في الممارسة يستدعي على الأقل مراجعة فكرية.
ومن النتائج التي وصل إليها الكاتب أن الدولة الحديثة لا تلتقي إلا مع مفهوم المواطنين الأحرار والمجتمع المدني، في حين أن الدولة ما قبل السياسية تلتقي مع مفاهيم الرعايا والمجتمع التقليدي وهذا ما استدعى تلازما منطقيا وتاريخيا بين الدولة الوطنية والمجتمع المدني، حيث لا وجود لمجتمع مدني دون وجود الدولة الوطنية هذه الدولة التي تعبر عن الكل الاجتماعي دولة الحق والقانون. والمجتمع المدني هو ذاك المجتمع العلماني الذي تتاح فيه الحرية لجميع الأديان والمذاهب والأيديولوجيات في التعبير عن نفسها وفي الفعل والتأثير، لكن تبقى دولته السياسية محايدة تجاه الجميع وتستمر معبرة عن الكل الاجتماعي، ومن هنا فالمجتمع المدني لا يلتقي أو يتوافق مع دولة الاستبداد وحكم الفرد ودولة الحزب القائد للدولة والمجتمع و دولة العشيرة ودولة الفئة أو الطغمة سواء أكانت دينية أم علمانية، وأنه ليس هناك تجربة ديمقراطية ناجحة في ظل عدم وجود مجتمع مدني، ومنه يخرج الكاتب إلى أن المجتمع السوري ليس مجتمعاً مدنياً، حيث تحول هذا المجتمع بسبب عوامل التدمير والتسلط الاجتماعي إلى سديم بشري مفكك ومهلهل والى أفراد منعزلين ولا مبالين وجرى فيه تخفيض لمفهوم المواطنة إلى مستوى الولاء الشخصي أو الحزبي، ومن معوقات التغيير وضروراته:يشير الكاتب إلى الثقافة السياسية السائدة ومنها القوى السياسية الموجودة على الساحة السورية كالمعارضة حيث القوى الأصولية سواء إسلامية أو قومية أو شيوعية أو ليبرالية والتي تمتلك رؤى لا تقبل الآخر ولا تؤمن بالحوار ولم تغادر مشروعيتها الثورية الموروثة من الماضي ولم تجدد في أساليب عملها ونشاطها ومازالت معارضة للنظام من الأرضية ذاتها التي يستند إليها. فحوامل التغيير ما زالت ضعيفة ولم تستطع بعد إنتاج برامج حقيقية أو إقامة علاقات وثيقة مع المجتمع وإن ما تعانيه المعارضة السياسية في سوريا من إشكالات غير قليلة على صعيد الرؤية والخطاب بالإضافة إلى التكلسات على صعيد الفكر والممارسة.
أما عن منظمات حقوق الإنسان يقول: هي الأخرى تعاني من إشكالات ذاتية معيقة لتقدمها بدءًا من لحظة التأسيس ومروراً بعدم وجود آليات عمل واضحة ومتميزة ومهارات إدارية حقيقية وبناء مؤسسي حقيقي وانتهاءً بالبرامج والأهداف والرؤى والتصورات الموجودة حول العمل في مجال حقوق الإنسان، فآليات العمل منفعلة أي أنها تتحرك بعد وقوع الانتهاك، مكتفية بإصدار البيانات، أما عملها الوقائي من نشر لثقافة حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية فلا زال ضعيفاً ومحدوداً وهذا ما يفرض ضرورة إعادة تأهيل كوادرها بما ينسجم مع ثقافة حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية والتزامها بالحياد والمصداقية.
وحول لجان إحياء المجتمع المدني يقول: كانت اللّجان التي حملت على عاتقها إحياء المجتمع المدني قد تحولت كغيرها من المؤسسات المدنية الناشئة إلى جزيرة معزولة وخارج دائرة الفعل المجتمعي، حتى أصبحت هي ذاتها بحاجة إلى إحياء. ويواصل الكاتب ليقول: إن هدف استعادة الدولة الوطنية الحديثة وإعادة بنائها ينبغي أن يكون على جدول أعمال الأحزاب السياسية وجمعيات حقوق الإنسان ومختلف منظمات النشاط المدني من نقابية وسياسية وثقافية، وإن لهذا مداخله الأولية والتي تتضمن تعزيز الطابع الوطني للدولة لتكون دولة الكل الاجتماعي وتحويل دولة الطغمة أو الفئة أو الطائفة أو دولة الحزب الواحد الحاكم من دولة أمنية إلى دولة حديثة غير مهيمنة على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ويطرح أخيراً الكاتب جملة من الأفكار والتي يعتقد بأنها تسهم جزئياً في الإجابة وفي إعادة توحيد التيارات والقوى السياسية والمدنية الطامحة للتغيير على أسس ديمقراطية، وتتلخص في:
1. ضرورة أن تتوافق هذه القوى على برنامج سياسي يستجيب للحظة الراهنة، هذا البرنامج هدفه تشكيل قطب معارض ديمقراطي واضح المعالم من حيث القوى المنضوية فيه والساعية إليه ومن حيث تحديد عناصر التغيير الديمقراطي وعناوينه ووسائله وآلياته.
2. وضع استراتيجيات عملية تفصيلية للسير في التغيير الديمقراطي أي تحويل البرنامج المتفق عليه إلى خطوات سياسية تدريجية محسوبة ومرتبطة بالزمن.
3. التعامل مع قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان بوصفها القضية المركزية الناظمة لعمل جميع القوى والتيارات.
4. بناء علاقة صحية مع الآخر ” الخارج” وإطلاق عملية حوار مستمرة معه بكافة المستويات /منظمات – جمعيات – حكومات – هيئات دولية/. ولهذا الحوار أسس عديدة منها: الثقة بالذات وعدم الخضوع للابتزاز الذي تقوم به الأنظمة الاستبدادية في هذا الإطار ووضع أساس للحوار هو المصالح الوطنية وآخرها قبول مبدأ الضغط الخارجي على أن توضع له معايير عامة تنطبق على جميع دول العالم ويكون تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة.
و يختتم الكاتب بكلمة أخيرة جاء فيها : إن ما ورد سابقاً هو محاولة رسم بعض المعالم النظرية الرئيسية في تطور مفهوم المجتمع المدني، لنضع في المآل بعض المحددات والاستراتيجيات التي ممكن أن تساهم في إطلاق سيرورة التغيير الديمقراطي في سوريا وبناء الدولة الوطنية والتحول نحو مجتمع مدني.
إن ما يجب معرفته عن الإصلاح أن له شروطا وجودية بالضرورة، أهمها وجود حرية على كافة الأصعدة /السياسية والإعلامية والاقتصادية والثقافية ..الخ/ ومن هذا القبيل علينا أن نتقبل ما أسلفه الكاتبان ياسين الحاج صالح وحازم نهار، أما في حال عدم توافر هذه الشروط أو جزءا منها فنجد أنه لا فائدة من الحديث عن هذا الإصلاح، ويبقى ما طرحه كلا الكاتبين صحيحاً ومبدعاً ولكن من الزاوية النظرية البحتة، أما من قبيل أرض الواقع فإنه لا تتعدى أن يكون أضغاث أحلام, وكما نعلم فان الأحلام لا تغير ولا تشكل حالة منتجة فعالة تراكمية بل ومن الممكن لها أن تتحول في احدى اللحظات إلى عائق مباشر وحقيقي في عملية الإصلاح كالحالة التي نعيشها اليوم.
إذن بإمكاننا القول إنه قد غابت عن هذا الكتاب النظرة المتمعنة الفاحصة والعقلانية عن المصفوفة الفكرية اللازمة للإصلاح، بل وقد اختلط ما طرح عن آليات لمشروع الإصلاح بغيرها من آليات حكم وتسيير أمور الدولة، بما يحيطها من حداثة، ورغم التأكيد على معادلة “فكر- واقع” إلا أن هذه المعادلة غابت في مواقع طرح الحلول والآليات المساهمة في عملية الإصلاح وعلى الرغم ممّا ورد حول الواقع الاجتماعي البائس والمعارضة المتمثلة بالمؤسسات السياسية والحقوقية والمدنية العقيمة، إلا أن كلا الكاتبين قد حملاها ما لا تطيق حمله، فهذه المعارضة سواء المنتظمة أم غيرها بما تحتويه من ثقافة سياسية وحقوقية سائدة غير قادرة على أن تصلح نفسها أو أن تمتلك الجرأة على ترتيب بيتها الداخلي وإصلاح إشكالاتها المتعلقة بصعيدي الرؤيا والخطاب من جهة والممارسة من جهة أخرى وهي بذلك غير مؤهلة الآن لإصلاح “قشة” فما بالك بإصلاح دولة ضمن الصفات التي وردت عنها وضمن المواصفات التي طُمح الوصول إليها.
إن ما تعانيه المعارضة السياسية السورية ليس غياب النضج السياسي فقط بل والثقافي والاجتماعي
وحتى النفسي إذا ما أردنا التعمق في معاناتها، ولا أدري إن كنت قد شاطرت الكاتبين في “شطحهما” عند توصيف المعارضة السورية بعدم النضج السياسي فهذه المعارضة أدنى مستوى من أن تنقد بنضجها السياسي فهي معارضة مثقفة سياسياً وليست سياسية، وإن ألف باء السياسة غائبة عن معظم تياراتها.
أما حول جمعيات حقوق الإنسان في سوريا فيمكننا القول أيضاً: إن أول ما تفعله هو انتهاك مفهوم حقوق الإنسان ويتمثل ذلك باختزال مفهوم حقوق الإنسان ونشر ثقافته إلى مجرد التعريف بالمعاهدات
والمواثيق والإعلانات الصادرة بهذا الشأن،و النظر إليها على أنها نصوص فقط. فهذا التعامل الاختزالي والجاف مع هذا المفهوم والثقافة التي أنتجته لا يؤدي إلى ترسيخهما وتأصيلهما في الواقع العملي،لأنهما أخصب وأوسع من هذه النظرة فثقافة حقوق الإنسان تعمل وفي الصميم على الارتقاء بمجمل ما ينتج عن هذا (الإنسان) ، فهي ترتقي أولاً بمستوى الثقة بالذات نتيجة الإيمان بحقوق هذه الذات، مروراً بالارتقاء بأنماط الفكر وأساليب الحوار وطبيعة الإيديولوجيات وانتهاء بالارتقاء ببنية المجتمع ككل، وإن تفعيل هذه الثقافة هو ما يجب أن يمثل البوصلة التي توجه النشطاء والمفكرين والمهتمين بمجال حقوق الإنسان، وهنا يكون الهدف قد حدد, أما الوسائل والآليات اللازمة للوصول إلى هذا الهدف فهي ما يجب معرفته، وذلك عن طريق دراسة بنية المجتمع, فلا يزال مفهوم حقوق الإنسان محاطاً بالكثير من الضبابية وإشارات الاستفهام حتى عند معظم الناشطين في هذا المجال، وتبقى المهمة الأساسية هنا هي إزالة هذه الضبابية عن المفهوم وإيجاد الأجوبة المناسبة التي تعبر عن جوهره بما ينسجم ومستوى المعرفة والوعي المتأصلين في ثقافة هذا المجتمع، لأن إيصال أي فكرة لمجتمع ما يجب أن تسبقه خطوات تتناول معرفة بنية هذا المجتمع، وهذا ما يفسر هشاشة عمل هذه المنظمات أو فشلها نتيجة إهمالها هذا الجانب. إن قراءة الواقع المعاش قراءة صحيحة وموضوعية هو ما يساعد على إفراز الوسائل والآليات الخاصة لنشر ثقافة حقوق الإنسان، فإذا ما استطعنا التحلي بالواقعية، والنزول من أبراجنا العاجية، والخروج بمفهوم حقوق الإنسان من دائرة الأحلام والهواجس الطوباوية، عندها فقط سنلامس الواقع وسنجد تلك الوسائل والآليات المرجوة. ولا يزال النهج الأكاديمي هو المسيطر على طبيعة العمل في مجال حقوق الإنسان وهذا مفهوم، كون هذا العمل ما يزال محصورا في أوساط النخب من المثقفين والساسة والذين يتعاملون معه على أنه مجرد بنود قانونية معزولة عن الواقع، وهذا للأسف يزيد من حجم الهوة القابعة بين المفهوم و حامليه من جهة، والواقع المعاش من جهة ثانية.
كان على الكتاب الذي بين أيدينا أو على الأقل ما كان ينتظره القارئ أو المعني بقضية الإصلاح في سورية أن يقدم له “ما يجب أن يحصل ” وليس “ما هو حاصل ” على الرغم من أهمية التوصيف، وهذا ال “يجب” عليه أن يكون واقعيا، يتلاءم وقدرة المجتمع على استيعابه وقدرة الكادر المعني بطرح الإصلاح وعلى السير به قدماً، وهذا يتأتى من الحرص أو الخشية من إضافة المزيد من الأوهام وطواحين الهواء التي تلف معركة الإصلاح لفيفها.
لا أظن أن أحدا يشك بصحة ضرورة الانتقال أو التحول من مجتمع رعوي أهلي إلى مجتمع مدني يلغي تدريجياً مفاهيم ذاك المجتمع البدائي/طائفي- عشائري – اثني / ، لتحل مكانها المفاهيم الحداثية /دولة – مواطن – قانون – ديمقراطية – حقوق إنسان /،أو أحدا يطعن بوجود الأزمات الذاتية التي يعاني منها المجتمع السوري، وأن لكل إنسان الحرية في مجمل ما يطرحه من حلول، لكن الإنتاجية تبقى دائماً وأبداً مسؤولية الانتلجنسيا السورية وهذه باعتقادي أزمة الأزمات التي يدفع المواطن السوري ضريبة غيابها لحظياً,هذه الانتلجنسيا القادرة على قراءة شتى الأزمات قراءة واقعية صحيحة وموضوعية وتحليلها ضمن مصفوفتها الفكرية بوعييها التاريخي والكوني وإبداعها بدءاً من الشعور بالأزمة وانتهاء بحلها، مروراً باستنباط منهجية الحل وآلياته ووسائله وكوادره، هذه الانتلجنسيا التي لا تقبل بالحلول المثالية واستحالة تطبيق الجانب النظري المعني بتلك الأزمات فبالإمكان وبتلك المثاليات والتي تشبه إلى حد ما مجمل الحلول المطروحة في الكتاب أن يقترح أي إنسان عادي حلول وآليات مفادها : إن على كل إنسان في هذا العالم أن يحب أخيه الإنسان. فتنتهي الأزمات فيه. وهذا ما أقصده بجدوى الطرح واستراتيجيته الإنتاجية .
فالإصلاح إذاً يجب أن ينطلق من ذواتنا لكي نكون قادرين على تصديره وإشعاعه فبعدم إيماننا بالمفاهيم الحداثية فكراً وتجسيدها سلوكاً لن نستطيع تحقيق فعالية هذه الذات ” الذات الإنسانية الواعية” وتجاوز أزمتنا الحقيقية والتي تعبر عن هيمنة تلك القوى البدائية التقليدية على هذه الذوات والمنضوية على قيم تتنافى ومنهجية التفكير العلمي الذي يبقى دائما وأبداً المدخل الأساسي للعقلانية، وهذا ما يبدو وبشكل واضح في أنماط التفكير المصدرة للوصفات الجاهزة التي يقدمها خطاب المعارضة من أحزاب
ومثقفين وجمعيات حقوقية ومدنية والقائم على الأهداف الكبيرة والشعارات النارية والخلفيات الأيديولوجية المتخلفة، وهذا ما من شأنه إعاقة خلق ظروف ملائمة لولادة مجتمع يتمتع بثقافة الديمقراطية العلمانية وحقوق الإنسان وهذا ما من شأنه أيضاً الإبقاء على الأوضاع على ما هي عليه وتعميق وتوسيع حجم الهوة القابعة بين الهدف ووسائله اللازمة.
إن العمل الحق في مضمار الإصلاح وما يشوبه من إشكاليات يستوجب إغناء ذوات من يطرح نفسح حاملاً له بالقيم التعددية التي يفتقرها البنيان الأيديولوجي لثقافتنا، هذا البنيان الذي يرتكز على فكر إيماني دوغمائي مشبع بالحتميات والحلول المطلقة فقط عند هذا الإغناء نصبح قادرين على المطالبة بالإصلاح فكراً وبالتالي ممارسةً وعن طريقه فقط يمكننا الوصول إلى حلول أنجع للقضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية ومجمل الإشكاليات التي تواجه المجتمع السوري في سيرورته.
إن الأزمة التي بحاجة إلى الإصلاح أولوياً هي الأزمة الثقافية وبالتالي الايديولوجية التي أشير إليها سابقاً والتي سبق للعديد من المفكرين العرب والسوريين في دراسة أشكالها وأحجامها وأبعادها وتداعياتها ومدلولاتها، ولكن بقيت العقول المتفاعلة مع هذه الدراسة هي التي بحاجة إلى الإصلاح، هذا الإصلاح الذي يبدأ من الذات لتسلخ عنها موروثها الثقافي اللاعقلاني وتعيد تشكيل وعيها بأطر موضوعية منفتحة وحس وطني وليصل الحديث عن الإصلاح أو إلى أي إشكالية مشابهة ليس إلى مستوى طرح المشكلة “رغم أهميتها”، بل إلى مستوى تحديد أولوياتها والشروع قدماً فيه عاكساً لهذه الموضوعية والعقلانية والوطنية.
إن ما سبق ذكره يؤكد على حالتي العجز والعقم اللتين يتسم بهما الداخل السوري في إحراز أي تطور باتجاه الإصلاح سواء على صعيد الخطاب والتحليل أو على صعيد الممارسة وليس لنا الحق هنا في مصادرة رأي أحد تجاه رؤاه الإصلاحية لكن لنا كل الحق في إبداء رأي تجاه إنتاجية وفعالية هذه الرؤى.
إن الدور الطبيعي المنتظر من نشطاء حقوق الإنسان والذين يعتبرون أنفسهم أيضاً لواءً في معركة الإصلاح، يكمن في تهيئة التربة الملائمة لزراعة الأفكار والرؤى الحديثة، لكن ذلك يبقى مشروطاً بالانفتاح على جميع أطياف المجتمع ومكوناته لمعرفة مدى ملائمة هذا الفكر لهذا المجتمع أو لتقدير برنامج أولويات آخر له. فإذا أرادت هذه “القوى” السياسية والحقوقية والمدنية أن تخوض معركة الإصلاح فعليها العمل على محو أميتها السياسية والحقوقية. وحول ما طرح من أفكار في سبيل توحيد التيارات والقوى السياسية والمدنية الطامحة للتغير وأولها التوافق على برنامج سياسي فان ما عبر عنه إعلان دمشق- إذا صح اعتبار ذلك توافقا- يعكس واقعيا الأفق السياسي المحدود لتلك القوى ليس على سبيل بنوده فقط بل إلى ما آل إليه من بيانه التأسيسي وحتى اللحظة وكيفية تحوله مع الزمن إلى “نادي” للاجتماع والكلام والمزاحمات الإيديولوجية ومن تعليق للعضوية والانسحاب.
موقع الآوان