الإصلاح السياسي وإعادة بناء الهوية الوطنية في سورية
ياسين الحاج صالح
هل من الضروري أن يكون الكلام على تعدد ثقافي أو أهلي في المجتمعات المشرقية أو العربية عنصرا أول في مقاربة عنصرها الثاني هو تفكيك هذه المجتمعات أو تمكين القوى الغربية النافذة من مواطئ قدم موثوقة فيها؟ هل ما من سبيل إلى تصليب وحدة وتماسك المجتمعات المعنية دون إسدال ستار من الصمت على وقائع التعدد هذه تحت قناع “الوحدة الوطنية”؟ هل يمكن أن نطوّر مقاربة تجمع بين رؤية هذه الوقائع، دون تمويه ودون تهويل أو تهوين، وأن نضع المقاربة هذه في سياق بلورة وطنية ديمقراطية تضمن المساواة والمواطنة المتكافئة لسكان البلاد جميعا على اختلاف أصولهم وفصولهم؟ إن محنة العراق الراهنة تقدم برهانا عمليا على ضرورة تجاوز سياسة النعامة في شأن التكوين الاجتماعي الثقافي الديني للمجتمعات العربية. وسورية لا تستطيع أن تكون بمنأى عن تفاعل مشكلات التعددية المكبوتة مع الحضور الخارجي الكثيف والعدواني. هذا مع ما هو معلوم من أن الحضور الغربي اقترن تاريخيا بتزلزل مجتمعاتنا المشرقية منذ أيام المسألة الشرقية. ترسيخ الوطنية السورية من شأنه أن يقطع الطريق على نشوء مسألة شرقية، أو شامية، جديدة تحت عنوان قديم جديد: حماية الأقليات أو نشر الديمقراطية. تقترح الورقة إعادة هيكلة الوطنية السورية وفقا لوجهة استيعابية ترى إلى العروبة كجزء من السورية وكركن أساسي من أركان وطنية سورية ديمقراطية. ونحرص على تمييز هذه الرؤية عن وجهة استبعادية ترى أن المرء لا يستطيع أن يكون عربيا إلا إذا كف عن كونه سورياً أو مسلما أو مسيحيا، أو سنيا أو شيعيا،.. إلخ، ولا يستطيع بالمقابل أن يكون سورياً إلا إذا كف عن كونه عربيا أو كرديا، مسلما أو مسيحيا. أي أننا نعترض على العروبة المطلقة، عقيدة “العروبة أولا”، كما نرفض السورية المطلقة، عقيدة “سوريا أولا”. نرى كذلك أن سورية لا يمكن أن تكون ديمقراطية على أرضية أي من التوجهين الاستبعاديين المذكورين. فأول الديمقراطية الاعتراف بالواقع الوطني بكل تعقيده وأبعاده. وأول التمثيل الديمقراطي للسوريين هو التمثيل الديمقراطي لواقعهم، أي صياغة مفاهيم مفتوحة على تعقيدات الواقع الفعلي للمجتمع السوري.
ما كان لنشرة إلكترونية سورية* واسعة الانتشار أن تعيد نشر مقال موضوعه “أزمة الهوية” في سورية بعد 15 عاما من نشره أول مرة لولا أن القضية تثير اهتمام قطاع من النخبة السورية التي تتابع النشرة المذكورة. تتنبأ المقالة التي كتبها روبرت كابلان، الكاتب الأميركي المحافظ الجديد، بتفكك سورية على غرار ما جرى ليوغسلافيا التي كانت آخذة بالتفكك وقتها، عام 1992، وتنظر إليها من منظور فرص البلقنة التي تصيب ورثة السلطنة العثمانية. ونتعمد الكلام على “فرص” لأن الرغبة في تفكك سورية تكاد تنتأ من بين سطور الكاتب الأميركي. على أن اهتمام قطاعات من النخبة السورية بقضايا الهوية والتكوين الاجتماعي الثقافي للبلد لا يكاد يتجسد في غير نقاش خافت وموارب، يلقاه المرء في مقالات بعض المثقفين أو في كتابات منشورة في مواقع إلكترونية. واقتباس الموقع السوري لمقالة كابلان بنصها الانكليزي، ودون ترجمة إلى العربية، يعطي فكرة عن وضع النقاش حول قضايا الهوية في سورية: نقاش من وراء حجاب، محصور في نطاقات ضيقة ونخبوية، يتسم ما هو متوفر منه إما بالحرج والخفر أو بالصفاقة والطيش.. حرج مثقفين وتنظيمات سياسية من مقاربة صريحة لقضية حساسة، لا تتوفر أدوات مقاربتها النظرية والعملية؛ وصفاقة ناشطين طائفيين وإثنيين، يجدون في الهجوم على جماعات دينية ومذهبية وإثنية أخرى سبيلهم الوحيد لتوكيد انتمائهم الديني أو المذهبي أو الإثني المعاكس. ولهؤلاء توفّر شبكة الانترنت مساحة ملائمة، لا قواعد تضبطها، للعبث الفئوي والطائفي. نفتقر بالمقابل إلى مقاربات تجمع بين الوضوح والاتزان، وبين النضج الفكري والالتزام الوطني. وهذا أمر آن أوان تداركه. فالقضايا المتصلة بالهوية الوطنية أهم من أن يُسكت عنها أو تُترك للطائفيين.
من المألوف، في الواقع، أن يفكر غربيون مقربون من جهات القرار في دولهم بالمجتمعات المشرقية والعربية بوصفها مكونة من أديان وإثنيات وجماعات مذهبية متخاصمة، “فسيفساء” حسب تعبير شائع يطل على المخيلة الاستشراقية عن منطقتنا، ويضمر أن عناصر الفسيفساء هذه متجاورة، متساكنة، لا تجانس فيها وتمتنع على تشكيل أمة. ومن المألوف بالمقابل أن يقلل القوميون العرب والوطنيون المحليون في البلاد العربية من قيمة هذه التمايزات وإنكار حيازتها لأية دلالة سياسية. وبالتدريج، استقر الأمر على أن أي كلام على تعدد ضمن مجتمعاتنا هو جزء من مقاربات وخطط غربية معادية، وأن الوطنية الحقة أقرب إلى التكتم عن التمايزات تلك وربما إنكار وجودها. وفي هذا السياق، الحالة السورية فريدة في بابها بعض الشيء. فـ”الجمهورية العربية السورية” ليست الدولة العربية الوحيدة التي تدخل العروبة في اسمها، لكن مجتمعها بالتأكيد أكثر تعددية من مصر والسعودية والإمارات واليمن وليبيا على المستويين الإثني والديني. وفي الوقت نفسه تبدو سورية أكثر البلاد العربية إنكارا لتعددها وأشدها تماهيا في العروبة، وإيديولوجية الحزب الحاكم لها عروبية مطلقة. أي أنها لا تفترض أن السوريين جميعا عرب فقط، وإنما تجعل من عروبة مجردة بلا ملامح ولاءً أولَ ووحيدا ونهائيا لهم. بيد أن سورية، من ناحية ثانية، دولة إقليمية قائمة منذ تسعة عقود، و”مستقرة” سياسيا منذ عام 1970، وكيانيا منذ 1967 (وإن كان هذا استقرارا مبتورا منذ احتل الإسرائيليون الجولان قبل 40 عاما)، وقد طورت مصالح ومشاعر وولاءات منبثقة من وضعها هذا. لكن واقعها كدولة مستقلة وكمجتمع مركب يفتقر إلى “معرفة” أو تمثيل مفهومي يضفي عليه الاتساق والشرعية. بالمقابل نجد “معرفة” عروبية لسورية، لم تعد مطابقة لواقع دولتها ومجتمعها اليوم. فهل هذا يضمن بالفعل “الوحدة الوطنية”، ويكفل تجانس المجتمع السوري وإجماعه على التوحد العربي؟ هل تصلح العروبة اليوم أساسا وحيدا وحصريا لوحدة إرادة 19 مليونا من السوريين؟
تزّكي تطورات الحالة العراقية في السنوات الأخيرة، التالية للاحتلال الأميركي، وقبلها الحرب اللبنانية التي دامت عقدا ونصف وكان لها بعد أهلي بارز، تزّكي مقاربة مختلفة لمسألة الهوية الوطنية السورية. إذ يبدو الكبت المفروض على الوقائع الإثنية والدينية والمذهبية في بلادنا عنصرا غير مساعد على تقوية اندماجها الاجتماعي، بل قد يكون غطاء لعملية تحول التمايزات الأهلية إلى انقسامات سياسية تهدد بتفكك البلدان المعنية وتفجّر الحروب الأهلية. ويظهر المثالان بجلاء أن الكبت المذكور يوفر للتدخلات الخارجية ما يلزمها من “تخرجات داخلية”، أي من خروج بعض المكونات الاجتماعية الثقافية التي تشعر أنها مهمشة على الإجماع الوطني المفترض، وطلبها على علاقات وحلفاء خارجيين، وتوفيرها موطأ قدم لتدخلاتهم.
هذه الورقة تنطلق من أنه من الممكن مقاربة قضايا التعدد الثقافي في مجتمعاتنا من وجهة نظر ديمقراطية ووطنية. إنها ترفض في آن خطاب مراكز أبحاث غربية يمينية ومحافظة تضع الاهتمام بوقائع التعدد هذه في سياق انشغالها بتمكين الهيمنة الأميركية والغربية وتدعيم المركزية الإسرائيلية في “الشرق الأوسط”؛ وكذلك الخطاب القومي والوطني العربي التقليدي الذي لا يرى من سبيل لتدعيم تماسك مجتمعاتنا غير حجب وقائع التعدد هذه وراء حجاب صفيق من الصمت. هذا مع ما هو معلوم من أن الصمت النظري لم يمنع طواقم السلطة المحلية من التلاعب بالتمايزات المسكوت عنها هذه حيثما اقتضى ذلك سعيها لتثبيت سلطتها. نظام صدام حسين الذي استند إلى عصبيته العشائرية والجهوية والعربية، وبصورة ما الوسط الإسلامي السني، ليس الوحيد في هذا الباب. ومثل ذلك يثار كثيرا بخصوص النظام السوري. هنا تغدو القومية المجردة والفضفاضة التي لطالما رفع النظامان البعثيان لواءها برقعا يخفي وراءه سياسات هوية فئوية وضيقة. ويبدو لنا أن أصل هذه الممارسة هو هرم أولويات النظامين الذي يحتل البقاء في السلطة ذروته. فمن أجل هذه الأولوية يجري اللجوء إلى قاعدة أهلية موثوقة، ومن أجل تمويه هذا اللجوء تقدم ضريبة بلاغية ورمزية للقومية المتجانسة الموحدة.
المجتمع السوري
سوريا هي الكتلة الأساسية من “المشرق”، ما نسميه بالعربية بلاد الشام، المنطقة التي تضج بتعددها، المتعدد المستويات هو ذاته. ليس جميع السوريين عربا، بينهم أكراد وسريان وأرمن وشركس…؛ وليس كل السوريين مسلمون، بينهم مسيحيون ويزيديون وعدد ضئيل جدا من اليهود؛ وليس جميع المسلمين من مذهب واحد، ثمة خمسة مذاهب على الأقل: سنّة وعلويون ودروز واسماعيليون وشيعة؛ وليس جميع المحسوبين على أديان أو مذاهب مؤمنون، ثمة أفراد يصعب تقدير نسبتهم غير مؤمنين، بعضهم معاد للدين؛ وليس جميع المؤمنين ملتزمون بأداء فروضهم الدينية، بينهم من لا يفعلون، وكثيرون منهم يتفاوت التزامهم كثيرا. وهناك علمانيون ينحازون إلى الفصل بين الدين والدولة. بيد أن الجميع سوريون، أليس كذلك؟ للأسف لا. فهناك ما قد يربو على ربع مليون كردي، محرومين من الجنسية السورية، دون أن يكونوا محسوبين على أية جنسية أخرى (منذ سنوات تعلن السلطات عزمها على معالجة هذه المشكلة دون أن يتمخض هذه الوعد عن شيء ملموس بعد). على أنه يبقى صحيحا أن السورية هي المشترك الوحيد الذي يمكن أن يوحّد جميع المنسوبين للتكوينات الأهلية المذكورة، والأساس الممكن الوحيد لطيب العلاقات بينهم هو تمتعهم بالمساواة ضمن الكيان السوري. هذا المشهد الاجتماعي الثقافي متحول أيضا. يختلف اليوم عما كانه منذ ثلاثة عقود أو أربعة، ويختلف اليوم ويومها كثيرا عما كانه قبل قرن. يُعتقَد أن السوريين أكثر تدينا اليوم مما كانوا في مطالع العهد البعثي مثلا، أكثر كذلك ارتباطا بجماعتهم الدينية والمذهبية والإثنية. وأن التعدد الأهلي يحوز دلالة سياسية أكبر اليوم مما في أوقات سابقة. وهو انطباع شائع، صادق على الأرجح. هذه وقائع بسيطة وأساسية، لكنها تُنسى في الغالب أو يتحدث المشتغلون بالشأن العام ويتصرفون كأنها غير موجودة أو غير دالة. وهي تكفي لنقول إن الهوية الوطنية السورية مركّبة، ولا تقبل الرد إلى مبدأ أول أيا كان. والتنبه إلى الوقائع هذه ضروري قبل كل شيء من أجل تمثيل سليم و”مطابق” لواقع المجتمع السوري، قبل أية أغراض سياسية أو اجتماعية يمكن أن تُبنى عليها. على أنه يتعين الإقرار بأن تمثيلنا المعرفي للواقع وخياراتنا السياسية لا ينفصلان. فتمثيل سورية بالإسلام أو اعتباره جوهر هويتها ليس بالأمر المحايد اجتماعيا وسياسيا؛ إنه يعني منح الإسلاميين موقعا تفضيليا في تحديد نظامها السياسي وخياراتها الثقافية الأساسية وشكل تفاعلها مع العالم. وهو على أية حال عماد رؤية الإسلاميين الفكرية للبلد. مثل ذلك ينطبق على تمثيلها بالعروبة، التي ما زالت منذ قرابة خمس عقود القاعدة الفكرية للسياسات الرسمية. وإذا كنا نهتم اليوم بوقائع التعدد الثقافي في مجتمعنا، فلأن السياسات التي قامت على كبتها ضحّت بالديمقراطية دون أن تعزز التماسك الوطني. ولأننا نريد القول إن التعدد الثقافي لا يطرح بحد ذاته أية مشكلة، المشكلات تتولد من عدم ملاءمة الإطار السياسي والتمثيلات المعرفية الرسمية للواقع المجتمعي. ووحده القول إنه لا تمثيل لهوية سورية إن لم يكن مركبا ومتبدلا ما يمكن أن يفتح الباب لمشاركة أوسع من قبل السوريين الملموسين في صنع صورة بلدهم وتحديد توجههم في العالم. وهذا ما يتعين الدفاع عنه ضد من يقول إن سورية “كيان مصطنع” غير شرعي، سواء كان غرضه إدماجه في كيان عربي واسع، أو تفكيكه إلى كيانات “طبيعية”، دينية أو طائفية أو إثنية، كما يرغب روبرت كابلان. وسنقول فيما بعد إن إضعاف الكيان السوري من وجهة نظر تتجاوزه (لكنها مجردة ومنفصلة عن أية ديناميات واقعية تسندها) تخدم في واقع الأمر إضعافه من مواقع دون وطنية يتجاوزها هو، لكنها تتلقى دعما موضوعيا من الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط وديناميات العولمة والغلبة الإسرائيلية، فضلا عن مناخات فكرية ما بعد حداثية مضادة لقيم التنوير والعقلانية والدولة.
نريد من كل ذلك أن من شأن أية سياسة أو ممارسة ثقافية ترد السوريين إلى هوية فوق سورية (عربية أو إسلامية) أو تحت سورية (طائفية أو إثنية..) أن تتسبب في تشوه نظري في تمثيل واقع المجتمع السوري، وأن تثير مشكلات وطنية كبيرة عمليا. وليس أقل هذه الأخيرة الاستبداد الذي أضحى تفكيكه مخيفا بدرجة لا تقل عن دوامه. وهذا بسبب مخاوف من أن يقترن تفكيك الاستبداد مع تفكك البلاد على أسس أثنية وطائفية، على غرار ما نراه يتجلى في العراق. والمخاوف هذه وثيقة الصلة باستناد الاستبداد في منطقة المشرق إلى قواعد أهلية، إثنية أو دينية أو مذهبية أو عشائرية أو جهوية. وهو ما يعني أن لدى الجماعات التي تتماهى بسهولة مع النظم الاستبدادية الكثير مما يمكن أن تخسره إن تغيرت هذه، فيما لدى جماعات أخرى غير قليل من الأحقاد الدافعة. ثم إن الاستبداد المديد ذي الركائز الأهلية أفسد بعمق السياسة والفكرة الوطنية، وحطّم روابط الثقة والتفاهم بين السكان، وتسبب تاليا بهشاشة الحواجز دون الصراع الأهلي. من هنا أخذ الخوف من التغيير يحل محل الأمل بالتغيير. هذا متغير سيكولوجي جمعي تولّد بلا ريب عن الكارثة العراقية. ما يمكن أن يقطع الطريق على احتمالات مخيفة كهذه هو اشتغال واع من قبل النخب الثقافية والسياسية على الوطنية السورية. وليس هذا انحيازا إيديولوجيا، بقدر ما هو جهد سياسي وعملي، يتصل بتأهيل إطار دمج وتفاعل وتماه فعال للسوريين ضد انكفائهم على تكوينات أهلية ضيقة، وضد مخاطر تنازعهم وانقسامهم على أنفسهم. وغير خاف أن مخاطر الانقسام أقوى راهنا من احتمال اندماج سورية في إطار سياسي أوسع. لذلك نقول إن العروبة والإسلامية والشامية أو القومية السورية ليست خيارات حقيقية متكافئة مع الوطنية السورية المركبة أو منافسة لها. إنها ركائز ممكنة للوطنية السورية لا تقوم هذه من دونها، ولا بالخصوص ضدها، لكن الركائز ليست البناء. ولا يصح فكريا وسياسيا أن نفتعل علاقة إقصاء بينهما. ومن المهم، في هذا السياق، أن يتجنب الوطنيون العقلانيون السوريون ما قد يُسمى مرض القومية الطفولي، أي إضفاء صفة وطنية كلية على روابط اجتماعية وثقافية جزئية، كالقوميات الإسلامية والعربية والشامية. هذا سيهدر في آن قيمة الروابط المعنوية هذه، ويخرب الحياة السياسية الوطنية. وبالعكس، يمكن للانفتاح النفسي والسياسي على الروابط العربية والإسلامية والشامية.. أن يكون عامل إغناء ثقافي سيمنح بلدنا عمقا روحيا ويقوي شخصيته. أما على المدى القصير، فنلح في القول، إلى ذلك كله، إن مشاريع سورية الكبرى والدولة العربية الواحدة والكيان الإسلامي لا تنصّب أية حواجز ضد مخاطر التنازع الإثني والمذهبي، إن لم نقل إنها قد تسهّل الوقوع فيها من حيث هي تبدو نقيضها المطلق. تسهّل الوقوع فيها لأنها شريكتها في إضعاف الإطار الوحيد الذي يفيد تصليبه درء الانقسامات والنزاعات الأهلية المحتملة.
نقد “سوريا أولا“
بيد أن هناك نزعة قومية رابعة، تبسيطية هي الأخرى، تضاف إلى النزعات الثلاث المشار إليها: دعوة “سورية أولا”، التي لا تعدو كونها محاولة لفرض هوية بسيطة، سورية، مكان هويات بسيطة أخرى. ولا أدل على تبسيطية الهوية هذه وطابعها الاستبعادي من أنها تُطرح بتقابل إقصائي مع العروبة، وأن دعاتها يُبدون ما يتراوح بين تحفظ وعداء للإسلام. والأكثر دلالة أنهم أقرب ما يكونون إلى النظام الحاكم، العروبي، الذي يفترض ويفرض تجانسا مطلقا للسوريين تحت رايته، دون أن تكون “العروبة” المزعومة غير شعار لهذا التجانس أو رمز له!
ضد هذه، تنحاز هذه الورقة إلى تصوّر مركّب واستيعابي للهوية السورية، تصور ينفتح على العروبة والإسلام والشامية ويجتهد لاستيعابها، كما يعمل على استيعاب المسيحية دينيا والكردية إثنيا..؛ تصوّر لا يجعل من الإسلام بدءا مطلقا للتاريخ الاجتماعي والثقافي لسورية الحديثة؛ تصو”ر منفتح على التكوين العياني والنثري للشعب السوري. “سورية أولا” لا يمكن أن تستجيب لهذه المطالب. إنها نزعة قومية اختزالية تنافس نزعتين اختزاليتين أو ثلاثة: القومية العربية، القومية الإسلامية، و”القومية السورية”. والترجمة السياسية لكل نزعة قومية اختزالية هي الاستبداد. لذلك لا يجد النظام الحالي بأسا في أية نزعة قومية، وقبل الجميع “سوريا أولا”، مهما بدت هذه متعارضة مع منطلقاته الإيديولوجية. ما قد يتبدى له خطرا هو مفهوم مركّب للمجتمع السوري، لأنه سيقتضي إعادة بناء النظام السياسي حول الواقع المجتمعي.
فالتحدي السياسي الأكبر الذي ستواجهه سورية في المستقبل القريب يتمثل في كيفية دمقرطة النظام السياسي وتأمين تمثيل دينامي للسوريين، لا يرتد إلى نموذج “الديمقراطية التوافقية” الذي يوفر لهم “تمثيلا ساكنا”، والمعرّض لأعطاب متكررة كما يُثبت المثال اللبناني. هل هذا ممكن؟ نقر أنه عسير. وسنقترح عناصر للإجابة في نهاية هذه الورقة.
وينبغي أن يكون واضحا أن ما ننتقده هو الشكل القومي، المطلق والإقصائي، لكل من العروبة والإسلام والسورية. ولا نرى فرقا للإسلامية عن البعثية، رغم أنه لم يتسن للأولى الحكم. فكما تنزع البعثية إلى رد سورية إلى العروبة، ورد السوريين إلى عرب حصرا، تردّ الإسلامية سورية إلى الإسلام والسوريين إلى مسلمين. لذلك فإن سورية البعثية تعطي في نظرنا صورة أولية عما يمكن أن تكونه سورية الإسلامية: دولة حزب واحد، إيديولوجية، قمعية، هشة، مهددة بالوقوع أرضا حينا بعد آخر. ولا يمكن للإسلاميين أن يكونوا ديمقراطيين حقا إن لم يروا سورية مجتمعا مركبا، ومستمرا في إنتاج تراكيب وتكوينات جديدة، لا تقبل الرد إلى جوهر أصلي واحد، كائنا ما يكون. وليست “سورية أولا” غير نزعة قومية مصغرة، تشارك مثيلاتها النزوع الاستبدادي، دون أن يكون لها أي أساس ثقافي وقيمي مثلهما. بالعكس، من شأن تنظيم غير قومي لسورية أن يتعامل مع العروبة كرصيد جاهز يمكن أن يُسهم في توحيد بعض السوريين (أكثريتهم في الواقع، بما فيهم أكثرية المسيحيين) إن انتفت عنه النزعات التسلطية والواحدية. وسيكون الإسلام رصيدا مماثلا قد يُسهم في توحيد أكثرية أخرى من السوريين (بما فيهم أكثرية الأكراد..)، إن لم يُسيّس تسييسا فجا. أما “سورية أولا” فقد تكون تذكيرا حيويا، وإن في صيغة إيديولوجية مشوهة، بضرورة الاستثمار السياسي والثقافي في سورية بوصفها الإطار الجامع والموحد لسوريين متنوعين.
منظور مختلف
ما نريد أن نخلص إليه هو أن العروبة جزء من سورية وليس العكس، وأن الإسلام جزء من سورية وليس العكس. إن هيمنة السوريّة على العروبة وعلى الإسلامية هي ما يمكن أن يوحد السوريين ويضمن المساواة لهم. وهذا ليس إفراطا في التطلب منا، بل هو مؤدى التفكير في سورية كدولة وطنية، أي كدولة للسوريين جميعا. لدينا مشكلة: اغتراب السوريين عن الهياكل السياسية والرمزية والفكرية لدولتهم الحديثة. لكن لدينا حل أيضا: إن السوريّة حل “تقدمي” واقتصادي لمشكلة حقيقية قائمة، هي مشكلة وحدة السوريين الوطنية. تقدمي لأنه يوفر إطار تماه واندماج مرغوب، تفعيله ممكن وسهل نسبيا، لسكان باتوا مفتقرين إلى إطار مماثل، ما يجعلهم مهددين بالانفراط والتبعثر. واقتصادي لأن سورية موجودة وقائمة، لا تحتاج إلى اختراع. فنحن لا نتحدث عن تقسيم إطار قائم أوسع، كما لا نحاول استباق إدماج في إطار أوسع. نتحدث عن استثمار إيجابي في إطار قائم لدمج واستيعاب السوريين، بما يجعل الإطار هذا منيعا على الانقسام، وبما يمكنه، بقدر ما تتعزز شخصيته وثقته بنفسه، من التفاعل الإيجابي مع غيره، محيطه العربي قبل كل شيء. أما الصيغ التنظيمية والقانونية والفكرية الراهنة للوحدة الوطنية فلا تلبي الحاجة إلى وحدة حقيقية بين سكان البلاد، إن لم نقل إنها عائق دون الارتقاء إلى هذه الوحدة المأمولة.
إصلاح العروبة
نصدر في هذه المقاربة التي نأملها عقلانية وديمقراطية من رفض اعتبار العلاقة بين تعزيز الدول القائمة وتطلعات التوحد العربي محكومة بمحصلة صفرية. لا نرى سببا وجيها لاعتبار أن ما تجنيه الدول القائمة تخسره العروبة، وأن هذه لا تفوز إلا ضد الدول القائمة. هذه مسألة حيوية جدا في سورية التي تأسست كدولة عربية أو كنواة لكيان عربي أوسع. مسألة حيوية لأن أي جهد لترسيخ الوطنية السورية ضد العروبة سيجعل من الوطنية السورية نزعة قومية استبعادية لا تختلف في شيء عن القومية العربية كما عرفناها بعد الحرب العالمية الثانية. ولا ريب لدينا أن من أهم أسباب إخفاق الحركة القومية العربية غفلتها عن الواقع المكون من دول سيدة مستقلة، لم يخبر أحد من سكانها انتماء إلى غيرها.
إن تطوير تفكيرنا السياسي وتمكين دولنا القائمة يقتضي التخلص من فكرة المحصلة الصفرية، التي قد تتغذى من حقيقية أن بعض النخب السياسية والمثقفة تُطور نزعات قومية رثة من نوع “سورية أولا” و”الأردن أولا” وما شابهها. بيد أن طي صفحة هذه المقاربات القومية الرثة غير ممكن دون تجاوز كل مقاربة قومية للواقع السياسي المشرقي، والسوري. فالمحصلة الصفرية مرتبطة بصورة وثيقة بعقائد قومية متناقضة ومتنافسة.
ونشعر اليوم أن تطوير الدول القائمة كأطر مواطنة عقلانية فاعلة وتطوير العروبة كإطار للتفاعل الاستراتيجي والاقتصادي والثقافي، حاجتان يتعين العمل عليهما معا. فتدعيم العروبة يشكل سندا ماديا ومعنويا لهذه الدول، وأحد مصادر توحيد مجتمعاتها المتعددة دينيا ومذهبيا. وبالمثل يشكل تدعيم الدول القائمة مصدر ثقة لمواطنيها الذين ليس كلهم عربا، وإطار تماه مناسب لهم. فتقوية شخصية مصر واستقلالها ضمانة لأقباطها، وتقوية شخصية سورية ضمانة لأكرادها وسريانها..، وتعزيزٌ لارتباطهم بها. وكذا الأمر بخصوص لبنان والسودان والعراق والبحرين..
فالعلاقة بين الدول المستقلة القائمة وبين الرابطة العربية الشاملة يمكن أن تكون علاقة تكامل لا علاقة تنافس. تكامل يقوم على تقاسم الوظائف في الاتجاه الذي ذكرنا للتو. أما إسناد وظائف التماهي والمواطنة للعروبة، والوظائف الاستراتيجية والاقتصادية والثقافية للدول القائمة، على غرار ما هو جار في سورية اليوم، فهو ذروة اللاعقلانية وعقم التفكير السياسي والثقافي. إن ما يمكن أن يوحّد السوريين ويضمن لهم مواطنة متساوية، ويصون تماسك بلدهم هو الوطنية السورية الديمقراطية. وما يمكن أن يمنح لسورية عمقا استراتيجيا ومعنويا وإطار شراكة اقتصادية لا يمكن أن يكون إلا محيطها العربي.
من أجل وطنية سورية ديمقراطية:
ليس الاهتمام بقضية الهوية وإصلاح مفهوم الوطنية السورية منعزلا عن الحاجة إلى إصلاح عميق في نظام سورية السياسي. أشارت هذه الورقة إلى توافق تشويه التمثيل المعرفي للمجتمع السوري وتشوه تمثيله السياسي. بالمقابل إصلاح التمثيل السياسي يقتضي التصالح مع واقع المجتمع السوري وتطوير تمثيلات معرفية أكثر مطابقة لواقعه الاجتماعي والتاريخي. ولنقل بوضوح إننا لا نرى أن التحول نحو الديمقراطية ممكن دون المساس بالتمثيلات المعرفية الموروثة التي تأسس عليها الاستبداد. وهي كما قلنا تمثيلات قومية تفترض هوية بسيطة، عروبية أو إسلامية أو شامية أو سورية. ولنقل أيضا إنه آن الأوان لأن تكف العروبة عن دفع ثمن تمثيلها القومي، أي اعتبارها هوية بسيطة متجانسة، تُفرض على مجتمعات عيانية شديدة التركيب.
وفي هذا المجال، نسجل لوثيقة “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي” أنها أول وثيقة من نوعها في تاريخ سورية المعاصر تقارب مسألة الهوية بروح من المسؤولية الوطنية وفي سياق العمل من أجل التغيير الديمقراطي. تحدثت الوثيقة عن حرية “الأقليات القومية في التعبير عن نفسها”، وتعهدت بالعمل من أجل “ضمان حق العمل السياسي لجميع مكونات الشعب السوري على اختلاف الانتماءات الدينية والقومية والاجتماعية”، و”إيجاد حل ديمقراطي عادل للقضية الكردية في سورية، بما يضمن المساواة التامة للمواطنين الأكراد السوريين مع بقية المواطنين من حيث حقوق الجنسية والثقافة وتعلم اللغة القومية وبقية الحقوق الدستورية والسياسية والاجتماعية والقانونية، على قاعدة وحدة سورية أرضاً وشعباً”. ومعلوم أنه تكوّن حول الوثيقة التي صدرت في 16 /10/2005 ائتلاف معارض واسع نسبيا، ضم عربا وأكرادا وسريانا، وعلمانيين وإسلاميين، فضلا عن ديمقراطيين وليبراليين وقوميين عرباً. هذا شيء مهم في بلد عانى من استبداد شمولي مديد، عمل طوال أكثر من ثلاثة عقود على فصل القوى السياسية عن أية قواعد اجتماعية مستقرة، وعلى نزع الصفة العمومية والسياسية للطبقات الاجتماعية. بيد أن هذا الشرط ذاته، وكما في بلدان أوربا الشرقية الشيوعية، حكم على مطالب التغيير السياسي بالعزلة عن القوى الاجتماعية، وبأخذها طابع حركة مثقفين وناشطين ومناضلين سياسيين. هذا هو وضع ائتلاف “إعلان دمشق” اليوم، وإن كان ينبغي تسجيل استثناء لمصلحة المكون الكردي فيه، الذي يستند إلى قاعدة قومية، ثبت أنها أسهل تعبئة وتنشيطا (وإن ليس أكثر عقلانية) من تعبئة قاعدة اجتماعية محاصرة بشدة على أرضية مطالب الديمقراطية. على أن “إعلان دمشق” ذاته تحدث في إطار حقوقي وسياسي، ودون استناد إلى رصيد جدي من النقاش حول تكوين سورية وهويتها الوطنية. هذا يجعل مقاربته أقرب إلى تلمس للاتجاه الصحيح، دون ما يضمن القدرة على السير فيه بخطى واثقة. لذلك فإنه لم يكد يؤثر على حالة النقاش حول مسألة الهوية الوطنية السورية، وقد قلنا في مطلع هذه الورقة أن هذا النقاش يعاني من الحرج والارتباك أو من اللامسؤولية والطيش.
السؤال الأساسي في الختام:
كيف يمكن للاهتمام بالواقع التعددي للمجتمع السوري أن يندغم في عملية تحويل النظام السياسي في اتجاه ديمقراطي؟ كيف يمكن التخلص من استبداد غير منزه عن السياسة الأهلية، ويعاني اليوم من أزمة عميقة فوق ذلك، مع تفادي مخاطر التفكك الوطني و”الديمقراطية التوافقية”؟ لا تتيح لنا حالة الفكر السياسي السوري والمشرقي إجابة واضحة على هذه الأسئلة. لكننا نعتقد أن كل شيء مرهون بحل أزمة الهيمنة التي يعاني منها اجتماعنا السياسي الوطني، وتاليا بنشوء أكثرية وطنية جديدة. يتظاهر غياب أية قوة قيادية أو كتلة اجتماعية مهيمنة بمزيج من الاستبداد العنيف والأرعن ومخاطر الانقسام الوطني والصراعات الأهلية. فيما من شأن قيام أكثرية وطنية جديدة، ما بعد قومية، في إطار هيمنة جديدة بدورها، أن تؤسس للديمقراطية والتماسك الوطني، فتكون العلاج الأنسب لمشكلتي الاستبداد والطائفية معا. هل يسبق نشوء الأكثرية هذه زوال الاستبداد أم يعقبه؟ هل تتقدم عملية حل أزمة الهيمنة على عملية التغيير السياسي أم تتلوها؟ قلما تلتزم العمليات التاريخية بالمواعيد السياسية أو تضبط ساعاتها عليها. ولعل من شأن جهود متنوعة تبذل اليوم من أجل بناء قوى منظمة وعقلانية في سورية، على ما نعلم من قسوة شروطنا السياسية المحلية، أن يُنظر إليها يوما كمساهمات تأسيسية في حل أزمة الهيمنة وتكوّن الأكثرية الوطنية السورية. وفي هذا السياق، لا نرى مجالا للمبالغة في أهمية إثارة نقاش عام، شجاع ومسؤول وعقلاني، حول مجمل القضايا الفكرية والسياسية المتصلة بأوضاعنا الراهنة وشروط قيام حركة وطنية ديمقراطية واسعة في سورية. إننا في طور انتقالي تاريخيا، وهو ما يرتب على جميع الفاعلين العامين دورا أكبر مما ألفوا في السابق.
إن الصعوبة البالغة للانتقال الذي يبدو أنه يسم مرحلتنا الراهنة، واحتمال تفجر صراعات إقليمية وأهلية وظهور أشكال جديدة من العنف،
والتمزقات الاجتماعية والفكرية والسياسية والنفسية المتوقعة في السنوات المقبلة، (التي قد تكون مديدة وربما تحتل عقدين أو أكثر من الاضطراب وإعادة التشكل)، كلها لا تصلح دليلا على وجوب ثبات الحال على ما هو قائم. ومن شأن اضطلاع المثقفين بواجب النقد والتوضيح العقلانيين، ومنح الأولوية للشأن الوطني على شؤون الفئات والأحزاب والطوائف، والدفاع عن القيم الإنسانية العامة..من شأن ذلك أن يضفي على التمخضات والاختلاجات المحتملة لعملية الانتقال معنى عاما ووطنيا، وأن يدرجها في سياق عملية بناء ديمقراطي ووطني مستدام. بالمقابل، من شأن الإخفاق في تطوير أدوات ومقاربات نظرية وعملية لمشكلاتنا الراهنة أن يجعل تفجرها المحتمل وحشيا وعبثيا و..مستداما.
* كاتب من سورية