صفحات أخرى

علم اجتماع الفضاء المعلوماتي

null


الســــيد يســــين

حين بدأت مسيرتي مع الإنترنت منذ سنوات بعيدة، حرصت على أن أنفذ إلى مواقع متعددة تنتمي إلى مجالات مختلفة في العلوم الاجتماعية والإنسانية. تعددت جولاتي على الشبكة العنكبوتية كما يطلق عليها، وزرت مواقع في ميدان التاريخ والفلسفة والاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم السياسة والعلاقات الدولية.

كانت هذه الجولات أشبه بدراسة استطلاعية، الغرض منها الدراسة المنهجية لهذا الميدان الصاعد في مجالات الاتصال باعتباره نمطا غير مسبوق في تاريخ البشرية.

غير أنني بعد فترة أغلقت باب الدراسة الاستطلاعية للإنترنت، بعد أن اكتسبت معرفة كافية بطبيعتها وإمكاناتها، وقدرتها على أن تمنح الباحث العلمي – أيا كان تخصصه – القدرة على النفاذ إلى مجالات معرفية متعددة، وبصورة مترابطة لم تكن متاحة له من قبل من خلال “النص الجامع” Hypertext ، والذي يتضمن إشارات مرجعية متعددة على المستوى الأفقي وعلى المستوى الرأسي على السواء، بصورة تسمح بإنتاج قراءة متعمقة لمشكلة البحث التي يتعرض لها الباحث.

وبحكم اهتماماتي كباحث في علم الاجتماع، اكتشفت مبكرا تبلور علم اجتماعي جديد هو “علم اجتماع الفضاء المعلوماتي“Cyber Sociology وهو العلم الناشئ الذي تخصص في الدراسة السوسيولوجية للإنترنت من كل النواحى، ولذلك هو يدرس فئات المستخدمين للشبكة، وأنماط شخصياتهم، والمواقع التي يزورونها، وموضوعات اهتماماتهم، إلى غير ذلك من موضوعات.

وأذكر أنني منذ سنوات قرأت على الشبكة أبحاثا متعددة في مجال علم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا ركزت على شبكة الإنترنت. غير أن هذا النمط الاتصالي العالمي البازغ سرعان ما نشأت في رحابه صور جديدة من الاتصال أطلق عليها “المدونات““Blogs” ، وهي مواقع ينشئها أفراد ويحررون فيها موضوعات متنوعة، قد تكون تحليلات سياسية، أو انطباعات شخصية، أو إبداعاً أدبياً نثرياً أو شعرياً. وأصبح يطلق على هؤلاء الذين ينشئون هذه المواقع “المدونون“Bloggeres ، واتسع نطاق التدوين وانتشر في العالم كله، باعتباره فضاء عاما public sphere جديداً تمام الجدة، لأنه يتم في العالم الافتراضيCyber Space بدون رقابة من أحد. ومن هنا يستطيع المدونون أن يمارسوا حريتهم كاملة في التفكير والتعبير معاً.

وإذا كان التدوين في سياق مجتمعات ديموقراطية عادة ما يستخدم للتعبير عن الذات في المقام الأول، وليس للتعبير عن آراء سياسية باعتبار أن المنابر الإعلامية مفتوحة – وان كان ذلك نظريا – لكل من يرغب في التعبير عن رأيه السياسي، إلا أن التدوين في الولايات المتحدة تحول ليكون منبرا سياسيا للآراء المعارضة للإدارة الاميركية وخصوصا في عهد الرئيس جورج بوش، في ما يتعلق أساسا بحربه ضد العراق والنتائج المساوية التي ترتبت عليها، وخصوصا بالنسبة للشباب الاميركي المجند، والذي سقط منه في ساحات المعارك العسكرية الآلاف وجرح وشوه آلاف آخرون. وقد أدى هذا التحول في اتجاهات التدوين الاميركي من التعبير عن الذات الفردية والاجتماعية إلى التركيز على النقد السياسي للسياسات الاميركية المنحرفة للإدارة الاميركية وخصوصا في غمار حربها ضد الإرهاب وما دار فيها من مخالفات جسيمة لحقوق الإنسان، إلى هجوم غير مسبوق على التدوين والمدونين الى درجة أن الرئيس بوش صرح في 17 تشرين الاول عام 2006 بأن هؤلاء المدونين الذين ينتقدون حربه ضد الإرهاب وأمثالهم من الصحافيين الذين يستخدمون شبكة الإنترنت، ليسوا سوى أدوات لدعاية العدو الموجهة ضد الولايات المتحدة الاميركية.

وقد أنشأت الإدارة الاميركية شبكة خاصة Centcom لرقابة المدونات الاميركية، بل خصصت أيضا فريقا من الرقباء لملاحقة المدونين الذين يهاجمون السياسة الاميركية في العراق. وهذه الشبكة الدعائية التي أنشأتها الإدارة الاميركية تنشئ مواقع تقدم قصصا إيجابية عن الحرب ضد الإرهاب وكيف أن العراق بعد الغزو الاميركي أصبح بلدا محررا ويتمتع بديموقراطية رائعة!

وهكذا تمضي “ثقافة الخداع” في واشنطن كما أطلق عليها السكرتير الصحافي السابق للرئيس بوش في كتاب له صدر أخيراً وأثار ضجة كبيرة، في طريقها لتزييف الحقائق.

غير أن الذي يهمنا في هذا المجال هو الاشارة إلى أن هامش التسامح مع المدونات والمدونين في الولايات المتحدة الاميركية أصبح ضيقا بعدما اتجهت بعض المدونات إلى النقد السياسي الصريح والعنيف.

وأيا ما كان الأمر، فيمكن القول إن موجات التدوين المتدفقة في العالم وصلت إلى شواطئ العالم العربى. وهكذا ظهرت مدونات عربية متنوعة، وبرز مدونون عرب ينتمون إلى إيديولوجيات سياسية شتى، فمنهم إسلاميون وماركسيون، وقوميون، وليبراليون. كما أن المدونات العربية – مثلها في ذلك مثل المدونات الغربية – تنوعت أشكالها وتعددت أنماطها، وتراوحت بين التعبير عن المشاعر الذاتية والتحليلات السياسية، وممارسة النقد العنيف للأنظمة السياسية العربية السلطوية.

وهذه الظاهرة بدأت تنتشر أساسا في المجتمعات العربية الشمولية والسلطوية التى تضيق فيها إلى حد كبير دوائر حرية التفكير وحرية التعبير لانعدام المجال العام، وعدم إمكان إنشاء منظمات أهلية غير حكومية، أو أحزاب سياسية في ظل تعددية معترف بها.

غير أنه في بعض المجتمعات العربية التي تتسع فيها حرية الصحافة إلى غير ما حد مثل مصر، برزت أيضا ظاهرة المدونات والمدونين، الذين يأخذون موقف النقد العنيف من النظام السياسي المصري وسياساته. وفي إطار هذه المدونات تمت الدعوة – على سبيل المثال – إلى إضراب 6 نيسان والذي وافق إضراب عمال المحلة الكبرى، وتمت دعوة أخرى فاشلة لإضراب يوم 4 أيار. وهكذا أصبح الفضاء المعلوماتي من خلال المدونات ساحة للتعبير السياسي بمختلف أنماطه، وميدانا للمعارضة السياسية.

ونظرا الى أن المدونات وما ظهر أخيرا من أشكال اتصالية جديدة مثل “الفيس بوك” أصبحت ظواهر اجتماعية، فقد وجدت من الضرورة بمكان أن أدرسها من وجهة النظر السياسية والاجتماعية.

وقد بدأت هذه الدراسة بصورة استطلاعية بنشر مقالين أحدهما نقدي والثاني تفسيري.

المقال النقدي نشرته بعنوان “من عشوائية التدوين إلى فوضى الفيس بوك” وذلك في جريدة “الأهرام المسائي” بتاريخ 17 أيار 2007. وقد أبديت فيه ملاحظات نقدية على المدونات بعد أن أجريت مسحاً ممثلا لها، واكتشفت أنها زاخرة في الواقع بتحليلات سياسية سطحية، بالإضافة إلى أنها مشغولة بدعوات غير مدروسة للقيام بإضرابات وتظاهرات، بل إن بعضها يدعو للقيام بثورة – هكذا بكل خفة وبساطة – بدون أن يعرف هؤلاء المدونون المتحمسون على غير أساس، الفروق الدقيقة بين الإضرابات والتظاهرات، والعصيان المدني ، والثورة. خلط شديد يعكس ضحالة في الثقافة السياسية ونقصاً في التكوين النظري، ومزاجا فوضويا في الوقت نفسه.

وانتقلنا من عشوائية التدوين إلى الفوضى العارمة في ما يسمى الفيس بوك، حيث تتشكل المجموعات في الفضاء المعلوماتي وتتحلق حول دعوات غامضة بحماسة تفتقر إلى الرؤية. غير أنني لم أقنع بهذه المقالة النقدية، وحاولت في مقال آخر نشر في جريدة “نهضة مصر” بتاريخ 22 أيار 2008 أن انتقل من مجرد النقد إلى تفسير الظاهرة.

وقد أرجعت ظاهرة المدونات السياسية أساسا وكذلك تجمعات الفيس بوك إلى سببين أولهما اجتماعي يتمثل في أزمة اختلال القيم في المجتمعات العربية، وخصوصا في تقلبها بين التقليد والحداثة من ناحية، ومن ناحية أخرى في التحول من اقتصادات اشتراكية إلى اقتصادات رأسمالية وما صاحب ذلك من حراك اجتماعي صاعد وهابط لعديد من الطبقات الاجتماعية، أو التحول من اقتصادات بدائية إلى اقتصادات نفطية في دول الخليج العربي ، وما أدى إليه ذلك من انقلابات في مجال القيم الاجتماعية، ومن تغير هائل في مواضع الطبقات الاجتماعية.

كل هذه الظواهر التى أدت إلى موجات قلق شديد لدى أجيال الشباب هي السبب وراء شيوع ظاهرة المدونات للتعبير عن الذات. أما السبب الثاني فقد أرجعناه إلى أزمة المشاركة السياسية في المجتمعات العربية كافة، مع تفاوت طبعا بين مجتمعات شمولية وسلطوية وأخرى شبه ليبرالية.

لقد أدت أزمة غياب التعددية السياسية وشيوع مناخ القهر والتضييق على الحريات العامة وسد السبل أمام النشاط السياسي الحر، إلى بروز المدونات العربية باعتبارها منبرا للمعارضة تمارس فيه حريتها الكاملة في نقد سياسات الأنظمة العربية.

غير أنه يمكن القول أن ما نشرناه من مقالات نقدية أو تفسيرية لا يكفي في الواقع. ذلك أننا أمام ظاهرة إنسانية بالغة العمق، وأصبحت تؤثر في حياة ملايين البشر في كل أنحاء العالم، من اميركا إلى الصين، ومن هنا لابد من دراستها دراسة منهجية شاملة.

وقد أتيح لى في الشهور الماضية أن أتفرغ نسبيا لكي أحلل التراث العلمي العالمي الخصب في هذا المجال. واكتشفت أنه أصبحت هناك في العلم الاجتماعي ظواهر مرصودة ومقاسة كميا ومحللة كيفيا، كما أنه هناك نظريات علمية بازغة تحاول تفسير ظاهرة التفاعل بصوره المختلفة عبر شبكة الإنترنت، سواء أخذت شكل جماعات النقاش أو التدوين أو الفيس بوك.

وقد اعتبرت ذلك مرحلة أولى من مراحل البحث الشامل الذي قررت أن أقوم به لدراسة ظاهرة المدونات المصرية من جوانبها الاجتماعية والثقافية والسياسية بناء على دراسة منهجية شاملة، لا تقنع بأدوات تحليل المضمون التقليدية وإنما تتجاوزها الى منهجية تحليل الخطاب، بما يتضمنه من قدرة ليس فقط على تفسير الظاهرة ولكن على تأويلها أيضا.

وسيشارك في هذا البحث فريق علمي متكامل يتم تشكيله حاليا ويضم تخصصات مختلفة، حتى يكون قادرا على الإحاطة المتكاملة بكل جوانب الظاهرة.

نحن بكل بساطة على أعتاب اكتشاف قارة جديدة يطلق عليها بعض الباحثين “جلوبلاند”، هي المحيط المترامي للعالم الافتراضي وأشكاله وصوره المتعددة!

– القاهرة

(باحث مصري)


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى