صفحات مختارة

مراكز الأبحاث العربية وهزال إنتاج المعرفة

خالد غزال *
تقدم الارقام الواردة في احصاءات اليونسكو وتقارير التنمية الانسانية العربية صورة غير مبهجة لكيفية تعاطي العالم العربي مع الأبحاث. فنسبة التمويل العربي للبحث العلمي تتراوح بين 0.1 في المئة و0.3 في المئة لمجمل العالم العربي، تدخل ضمنها النفقات الادارية، فيما تصل في السويد وفرنسا مثلاً الى 3 في المئة من الموازنات العامة. اما في اسرائيل، فتصل نسبة الإنفاق على الابحاث العلمية الى ما يوازي 4.7 في المئة من الموازنة العامة للدولة، وما يوازي 30 في المئة من الموازنة الحكومية المخصصة للتعليم العالي. اما في ما يخص الانتاج المنشور سنوياً، فإن مجموع الابحاث في الوطن العربي لا يتعدى 15 الف بحث، فيما عدد اعضاء هيئة التدريس في الجامعات والمعاهد العليا يصل الى حوالى 55 الف استاذ، اي ان معدل الانتاجية هو في حدود 0.3 في المئة، بينما يبلغ معدل الانتاجية في الدول المتقدمة حوالى 10 في المئة.
يثير الوضع «المزري» لإنتاج المعرفة عبر مراكز الأبحاث عدداً من الامور التي تتصل بدرجة التطور والتقدم، وبالموقع المتخلف للمجتمعات العربية في هذا العصر. ليس مصادفة ما نراه من عدم اهتمام السلطات العربية بإقامة مراكز ابحاث تدعمها. يتصل الامر بكون هذه الابحاث، خصوصاً في جوانبها الاجتماعية والاقتصادية… ستسلط الضوء على مكامن الخلل في السياسات التنموية الجاري اتباعها، وتكشف طبيعة البنى والتشكيلات القائمة، وتطرح مباشرة وسائل الإصلاح والتطوير للخروج من النفق وفك الحجر عن معضلات التقدم، وهو امر قد لا تجد السلطات العربية القائمة مصلحة في انتاج مثل هذه المعارف. يزيد الامر سوءاً ان السلطات القائمة غالباً ما تفرض على مراكز الابحاث خضوع تقاريرها الى موافقات مسبقة، وتعديل ما تراه غير متلائم مع سياستها العامة، وهو ما ينفي عن الابحاث صدقيتها العلمية وموضوعيتها في تقديم الحقائق.
في العالم المتقدم، في اوروبا وأميركا وكذلك في اسرائيل، يلعب القطاع الخاص دوراً مهماً في تمويل المراكز وفي نشر نتاجها، لا نعثر في العالم العربي على مثيل لهذا التوجه من القطاع الخاص، الا في ما ندر، فالتمويل يذهب الى محطات اعلامية فضائية والى بناء منشآت لا تحتاجها الشعوب العربية في تقدمها، او الى استيراد سلاح لن يمكن استخدامه للمصلحة العربية، ما يضع مراكز الابحاث العربية في معضلة التمويل الشحيح من الدولة، وشبه المعدوم من القطاع الخاص. اما ما يُجرى انتاجه من ابحاث، فتورد تقارير عربية ان معظمها يرقد في رفوف المكتبات، ولا تُجرى الافادة منه في تطوير المشاريع او في خطط التنمية.
من المعضلات التي تواجه المراكز البحثية العربية ما يتصل بالباحثين انفسهم. يحتاج الباحث الى استقلالية في عمله والى حرية في نشاطه، من دون خضوع لوصاية على فكره وانتاجه، وهو امر يصعب توافره في شكل فعلي في ظل انظمة وصائية ومتسلطة تخاف من حرية الرأي والتعبير وكشف الحقائق والمستور في مجتمعاتها. ويريد الباحث ألا تحد التقاليد الاجتماعية والثقافية السائدة والمؤسسات الاهلية القائمة من حريته في البحث، وهي قيود تصاعدت في السنوات الاخيرة مع انتشار الحركات المتطرفة ذات الطابع الاصولي، التي ترى في البحوث العلمية والفكرية ما يتناقض مع فهمها المعين لمسائل الحياة والبشرية، وهو ما عرّض الكثير من الباحثين الى تهديدات في حياتهم الشخصية جواباً عن المعلومات والوقائع التي خرجوا بها. ويحتاج الباحث الى استقرار مادي وتفرغ كامل لنشاطه، مما يعني ضرورة موازنة تتوافق مع المهمة التي على الباحث القيام بها، وهو موضوع شائك بالنظر الى الحجر على التمويل ورصد مبالغ ضئيلة للإنفاق على هذه المراكز. هذه العقبات التي تنتصب في وجه الباحث، جعلته يفتش عن بلاد اخرى يلجأ اليها وخصوصاً في بلاد الغرب المتقدم، حيث يمكنه ان يحظى بالحرية التامة في البحث، وبالأمان الشخصي بعيداً من التهديد بالقتل، اضافة الى الرواتب المغرية التي تقدمها مراكز الابحاث سعياً الى استقطاب الكفاءات العربية. لذا لم يكن غريباً ان نرى ان مراكز الابحاث الغربية تعج بالباحثين العرب من اصحاب الكفاءات والذين يلعبون دوراً مهماً في انتاج المعرفة في تلك البلاد.
اما اسوأ ما تشهده مراكز الابحاث العربية، فهو بعض ما يصدر عن اقسام واسعة من الانتلجنسيا العربية المشككة في هذه المراكز. من المعروف ان مؤسسات دولية تقوم بتمويل مراكز ابحاث، كلياً او جزئياً، في معظم بلدان العالم الثالث، لمصلحة ابحاث علمية في الصحة والبحث عن الثروات الطبيعية وغيرها… لم تنج المراكز المستفيدة من هذه المساعدات من الاتهام لها بالعمالة الى الامبريالية، ووقعها بالتالي تحت سهام الرفض والتجريح، وهو مسلك لا يزال محكوماً بعقدة النقص العربي تجاه الغرب، ومخاصمته الكاريكاتورية عبر رفض الافادة من تقدمه العلمي.
في منطقة عربية تعاني اسوأ درجات التخلف في كل المستويات، خصوصاً العلمية منها، وفي ظل الصراع المحتدم مع المشروع الصهيوني ذي الطابع الحضاري والعسكري في آن، يحتل دخول العالم العربي في العصر الحديث القائم في قوته الرئيسة على مقدار التمكن من انتاج المعرفة واستيعابها، المركز الاساس في التقدم وملامسة الطريق نحو استعادة القوة والاستقلال والتحرر.

* كاتب لبناني
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى