حرية التعبير وتهديد العنف
يوس فيرهولست
إن حرية التعبير هي حرية كاملة غير منقوصة. فالمرأة إما أن تكون حاملاً أو لاتكون. وكذلك الإنسان إما أن يكون حياً أو ميتاً. هكذا هو الحق في التعبير عن الرأي الذي لايقبل النسبية. ووفق هذا الوصف نحن في حالة من اثنتين لا يقبل المنطق الجمع بينهما. إما أن تكون حرية التعبير موجودة أو لا تكون.في حالة حرية التعبير الممنوحة من سلطة ما يتساءل المرء فيما إذا كانت السلطة فوق الفرد، وهي التي تحدد له مايجب أن يسمعه وما عليه قوله. والواقع أنه بمجرد أن يسن أي تحديد لحرية التعبير يعني هذا أن تلك الحرية قد تم شطبها. كل ما يمكن للإنسان قوله أو سماعه يصبح في هذه الحالة لمصلحة السلطة التي سمحت به. وفي هذه الحالة يسقط الفرد في حقل الوصاية التي يمارسها عليه آخرون ويرسمون حدودها. المعيار ليس اتساع تلك الحدود أو ضيقها ولكنه قضية وجودها من عدمه. حرية التعبير غير المشروطة هي شرط أساسي لأية ديمقراطية. فقوانين الرقابة لا تتفق منطقياً مع الديمقراطية. لأن الديمقراطية تعني حرية النقاش بينما قوانين الرقابة تتنافى مع هذه الحرية.
الحجج والذرائع التي تستعمل ضد حرية الكلمة تتألف بشكل عام من نوعين: أحداهما يمكن تمثيلها بهذا الرد الذي وصلني من أحد مراسليَّ بعد نشري إحدى المقالات:
(… أنا أتفهم نداءك وحججك للسماح بالعنف ضد حالات مثل الأنظمة القمعية. ولكن عندما يدعو شخص ويهددني وأنا خارج من بيتي أن أنصاع له وأتبع الطريق الذي يشير به عليَّ، فإنني أجد حريتي البدنية في هذه الحالة مهددة يومياً في بلدي. ويبدو أن هكذا تهديد شخصي شفهي قريب من التهديد الفعلي وبخاصة عندما يصبح الخوف من تحول التهديد اللفظي إلى فعل أمراً واقعاً.)
هذا المثال العدواني بالابتزاز بالتهديد بالعنف، هو المثال الأكثر تعبيراً عن الاحتجاج ضد دعوة تقييد حرية التعبير. ومن الواضح أنني أعرت هذا الجانب القليل جداً من الاهتمام، وسأستخدم المثال السابق لأصحح هذا الخطأ.
حرية التعبير والمنتديات
حرية التعبير عن الرأي هي في الحقيقة حق لكل إنسان، أن يكون السيد فيما يعتقد، وهذا يتضمن حقه في عدم التنصت على حديثه حين لايرغب بذلك. لا أحد يملك الحق في حشو رأس الآخر بمحادثة لا يريد الآخر سماعها. فالتعبير الحر هو نشاط يجب أن يجري على الأقل بين شخصين متفقين بملء حريتهما على ذلك. هذا التوافق يمكن أن يكون عبر الاشتراك الحر في منتدى مثلاً. وهذا المنتدى يجب أن يكون مؤسساً بحرية ليس لأنه لا توجد قيود على المحتوى، وإنما لعدم وجود إمكانية التقييد على المكان الذي تجري فيه المحادثة.
المنتديات قد تكون كبيرة أو صغيرة. عامة للجمهور أو خاصة وشخصية. ومؤسسي المنتديات الخاصة يمكنهم وضع الشروط التي يرون أنها تناسبهم. بحيث يمكن لغير المهتمين ومن لاعلاقة لهم به تجنبه بسهولة ودون أية تكاليف. هذا الشرط الأخير لا يتم الوفاء به في المثال الذي استشهدت به من المراسل. فعندما ينتظرني شخص أمام بيتي ليهددني يكون بذلك قد تعدى بذلك على حقوقي الشخصية. هو يضطرني بتصرفه هذا إلى محادثة لا رغبة لي فيها. وعندما يريد المرء القيام بتهديد لفظي ما يجب أن يبحث لذلك عن المحفل المناسب. فالصعوبات تأتي ليس مما يمكن قوله، بل من المكان الذي قيل فيه.
التعبير عن النية كفعل منطوق
دعنا نقول أن شخصاً أسس له موقع إنترنت ومن خلال هذا الموقع بدأ بتهديدي بالموت. هذا الموقع يمكنني تحاشيه بدون تكلفة. ومع ذلك جرى إطلاعي على التهديد عن طريق شخص ثالث. هذا التهديد يمسني من جهتين لا بد من التمييز بينهما. أولاً ينتج عنه عدم ارتياح نفسي. هذا الأمر لا يكفي للاعتراض إذ لا أملك الحق البديهي في الراحة النفسية. فإذا كنت مسلماً متديناً فإن ظهور رسم كاريكاتوري للنبي محمد قد يسيء إلى حالتي النفسية. ولكن هذا لا يعني أن الرسوم الكاريكاتورية يجب حظرها. ليس لدي الحق في تسيير الآخرين وفق رغباتي.
الأمر الثاني أن التهديد ينتج عنه خسارة مادية. ومع التهديد ينشأ في محيطي المادي عنصر مخاطرة جديد، حيث يجب تسوية أمره من خلال تحديد سلوكي. الظهور العلني يصبح خطراً. حرية الحركة باتت مقيدة. نشر الكاريكاتير لا يتسبب للمسلم بأية خسائر مادية، ولكن التهديد بالقتل له تبعات مادية سلبية على المهدَّد. ولذلك كنت قد ميزت بين حرية التعبير وبين التعبير عن النية كفعل منطوق. ولكن تمييزي ذاك اقتصر فقط على بعض المجالات المحددة من التهديد. ومن الواضح أن هذه ثغرة خطيرة يتعين سدها.
يستند منطق الحق بحرية التعبير على تقدير أنه لايوجد حق لأحد بالتسبب بالضرر النفسي أو أي نوع من الضرر غير المادي للآخرين. الاختلاف في الرأي لا تأثيرات سلبية له على المختلفين، ولكن لها تأثير على المناخ العقلي المفصول عن العالم المادي باحتساب وعي المستمع المتمتع بالضمير والفهم. الأفعال التي يحتسبها المستمعون في المناخ المادي تعود في أصلها إلى قرار الإرادة الحرة للمستمع التي يجب أن تفهم في إطار النشاط الإبداعي.
في هذه النقطة يجب أن يكون التمييز حاسماً. والمثال الكلاسيكي لنية الفعل المنطوقة هو أن يصرخ أحدهم في صالة غاصة بالناس بكلمة “نار”. فكلمة نار هنا هي في الواقع ما يعادل إنذار أوتوماتيكي، وما على الجميع في هذه الحالة كرد فعل منطقي ومن أجل قضية عادلة ودون المزيد من الفحص والتمعن، سوى الاستجابة وأن يهرعوا لإخلاء الصالة.
بين النطق وبين هذه النتيجة الفعلية لاتوجد سوى لحظة قصيرة جداً، ليتمكن الفرد خلالها من التقدير والمحاكمة المنطقية للأمر. ليس هناك خيار أخلاقي ولذلك فالنتيجة هنا تلقائية. لهذا يمكن تسمية هذا النداء بنية الفعل المنطوق.
أمثلة أخرى يمكن إيرادها. كأن يسأل التائه عن الطريق فهو يخضع بشكل أو بآخر لتعليمات المرشد وكذلك المريض لتعليمات طبيبه. فكلاهما المتحدث والمتلقي يدركان أن لا سبيل للمتلقي سوى اتباع إرشادات المتحدث.ولكن كيف التصرف الآن مع حالات التهديد اللفظي؟ نحن لاحظنا ان هذا التهديد ينتج عنه عامل خطر مادي جديد، والذي له تبعات مادية. فالتهديد في هذه الحالة هو فعل منطوق.
كيف يمكن للفرد في مجتمع حر التعامل مع تهديد غير شرعي؟ الأضرار المادية الناجمة عن التهديد لا يمكن فصلها عن النوايا المجهولة للمهدد. فمن الممكن ألا يكون المهدد في وارد ارتكاب أي عمل عنفي. هو ينطلق من حقيقة أن المهدَّد لا يعرف هذا الأمر ولذلك يرغب في وضعه تهت الضغط بالتهديد معتمداً على جهله ذاك. ولكن يمكن أن يكون التهديد صادقاً. لتوضيح القصد نقرر أن المهدَّد له الحق في البحث عن طبيعة التهديد إن كان حقيقياً أم لا. إذا أوضح المهدِّد بأن تهديده ليس صادقاً، يكون التهديد بذلك قد زال، وتبقى الأضرار المادية التي يجب أن تسوى. إذا تبين أن التهديد كان حقيقياً وصادقاً، أو لا يزال هناك قدر كبير من الشك، في هذه الحالة يجب عزل المهدِّد أو جعل تنفيذ تهديده غير ممكن.
العنف والدولة
النظرية السياسية القائلة بأن الدولة كمؤسسة تحتكر العنف هي صحيحة، ولكن هذا الاحتكار قائم على أساس نوع من أنواع العقد الاجتماعي مقابل قائمة طويلة من الواجبات أهمها التزام المساواة في المعاملة لجميع المواطنين. أنا لا أتفق تماماً مع هذا الرأي لأنني ووفق حقي بحرية الاختيار لم أوقع على عقد من هذا النوع إن لم تتوفر إمكانية حقيقية للفرد في الدفاع عن نفسه للاستمرار في الحياة. عندما تحتكر الدولة العنف، وعندما تكون أية دعوة للتصدي لهذا الاحتكار للعنف بعنف مقابل جريمة يعاقب عليها القانون، فإن الأبواب تصبح مشرعة لإمكانية الاستغلال والديكتاتورية. اللتان لسنا بحاجة للنظر خارج حدودنا لنراها أنها متواجدة حولنا. فالدولة غير الفعالة تضطر مواطنيها للعمل فترات طويلة من السنة لتغطية نفقاتها ونفقات من يسيطرون عليها في التبذير تحت عنوان إجراءات التضامن الاجتماعي. هذا الواقع القاسي هو في الحقيقة إيديولوجية مستترة. إنها متعة العبيد الذين لا يشعرون بعبوديتهم. إنه أمر مريح للعبد وللمستعبِد حين يتم ترويض السلوك على هذا الأساس. ولكن خلف ضباب الإيديولوجية الكثيف هذا يكمن جهاز عنف الدولة الذي سيتعامل مع كل من يجرؤ على الاحتفاظ ولو بعشر الضرائب المتوجب عليه دفعها. ذلك الفرد سيغدو منبوذاً فيجري تشتيت عائلته ونهب محتويات بيته من قبل الدولة باسم التضامن الاجتماعي عن طريق تطبيق احتكار الدولة للعنف وحرمان الآخرين منه.
أية مسوغات منطقية يجري تسويقها لتبرير الحظر على الكلام هي مرفوضة. فالشخص الذي يتعرض للنهب والاضطهاد من قبل منظمة ما من حقه الطبيعي أن يثور وأن يدعو في الوقت ذاته للثورة. ولكن المشكلة هنا لا تتعلق بحرية التعبير وإنما حين يجد المواطن نفسه في مواجهة منظمة مسلحة تنهبه أي الدولة المحتكرة للعنف.
وطالما أن الذراع المسلح للدولة يتصرف بشكل لا يسيء إلى سيادة المواطن وحريته فإن الدعوة للمعارضة العنيفة تبقى مرفوضة وبلامعنى.
في الأنظمة الديمقراطية الحرة تجري نقاشات من هذا النوع وعلى مستويات مختلفة للوصول إلى أفضل صيغة عملية لحرية الرأي رغم وجودها في الواقع العملي ويجري تطبيقها على نطاق واسع. في الوقت ذاته يقبع الآلاف في من سجناء الرأي والضمير في معتقلات الأنظمة التي لا تسمح حتى بالحد الأدنى من التعبير الحر عن الرأي كما هي الحال في سورية مثلاً. وعلاوة على ذلك يجري تلقين المجتمع بالكامل وبكل فئاته وشرائحه ما يجب أن يقوله ويعتقده. حيث تقوم السلطة بدور الوصي على مجتمعها الذي تعتبره قاصراً لا يعي مصالحه. بينما الحقيقة هي أن هذا التصرف هو لحماية السلطة لنفسها من أية معارضة قد تحل محلها. لذا فإن مسألة حرية التعبير تبقى من المواضيع المؤجلة إلى أجل غير مسمى وفي أسفل قائمة الأولويات لدى السلطة. في حين أن المصلحة الوطنية العليا ومصلحة المواطن الفرد تتطلب أن تكون هذه الحرية مصانة بالدستور الذي يجب أن يكون فوق الجميع، وأن يكون النقاش الحر في رأس القائمة. لأنه على هذا النقاش وتفاعل الآراء المختلفة يبنى مستقبل الوطن وتقدمه وسعادة المواطن الحر الكريم المتمتع بكامل حقوقه.
كتبها: يوس فيرهولست
للاطلاع على المقالة الأصلية باللغة الهولندية أنظر موقع الديمقراطية الآن
http://www.democratie.nu/bibliotheek/artikels/het_vrije_woord_en_dreiging_met_geweld.html
كلنا شركاء