القضية الفلسطينية: عربية أم إقليمية؟
د. خالد الدخيل
كان للأزمة الأخيرة بين واشنطن وتل أبيب إيجابية واضحة، دفعت الطرفين لوضع أوراقهما على الطاولة. في كلمتها أمام مؤتمر “آيباك” في العاصمة الأميركية، الإثنين الماضي، جهدت وزيرة الخارجية في تأكيد أن موقف الإدارة الرافض للاستيطان نابع من حرصها على أمن إسرائيل. كانت الوزيرة تقدم مرافعة ساخنة أمام اللوبي اليهودي. من ناحيته كان نتنياهو واضحا في رفضه للموقف الأميركي عندما قال عشية مغادرته إلى واشنطن “البناء في القدس الشرقية لا يختلف عن البناء في تل أبيب”، وبالتالي “سوف يستمر الاستيطان في القدس كما كان عليه خلال الـ42 سنة الماضية.” هكذا يعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، رفضه لفكرة السلام لصالح فكرة الاستيلاء على الأرض. وزير خارجية نتنياهو سبق له وأن كان أكثر وضوحاً عندما قال العام الماضي بالنص: “بعد 16 سنة من اتفاقية أوسلو ليس هناك اتفاق سلام شامل مع الفلسطينيين، ولا يمكن التوصل إلى هذا الاتفاق في الـ16 سنة القادمة”، مضيفا أن “أولئك الذين يقولون بأن حل الدولتين سوف ينهي الصراع لا يعرفون شيئاً عن ما يتحدثون، أو أنهم يمارسون التضليل بشكل متعمد.” (جيروزاليم بوست، أغسطس 23، 2009م). ومن بين الذين مارسوا ويمارسون التضليل، كما يوحي قول ليبرمان، الرئيس الأميركي السابق بوش الابن، والرئيس الحالي أوباما.
كان السؤال دائماً عن الموقف الأميركي من إصرار إسرائيل على أن الأولوية للاستيطان، وليس للسلام، وأن المفاوضات، غطاء ناعم للغة القوة، ولتوازنات القوة. الآن يتضح أن إدارة أوباما، أو هكذا يبدو على الأقل، ترى عكس ذلك، وتعتبر أن أمن إسرائيل يتطلب السلام وقيام الدولة الفلسطينية، وأن الاستيطان عائق أمام السلام. إلى هذا الحد تبدو الأمور واضحة. لكن يبقى سؤال مقلق: ماهي حدود الرفض الأميركي للرؤية الإسرائيلية؟ وهل يمكن أن يخرج هذا الخلاف عن إطار وحدود التحالف التقليدي بين الطرفين؟
لا يكتمل هذا السؤال إلا بسؤال آخر: هل يملك العرب ما يفعلونه لدعم موقف الإدارة، أو لاستثمار هذا الموقف داخل أميركا وخارجها؟ يبدو السؤال خارج السياق. وهذا هو المأزق العربي: لا يستطيع العرب مواجهة إسرائيل عسكريا، ولا يستطيعون مواجهتها سياسيا على الساحتين الأميركية والدولية. بل إن إسرائيل تستخدم اتفاقات السلام مع الأردن ومصر، وتستخدم الخلافات العربية العربية أيضاً، للتغطية على الاستيطان. ربما أن الإدارة الأميركية ضعيفة سياسياً أمام سطوة اللوبي اليهودي، وحلفاء إسرائيل في الداخل. لكن الضعف العربي أكثر تعقيداً من ذلك لأنه مركب: ضعف سياسي في الداخل، وضعف عسكري أمام إسرائيل، وضعف سياسي آخر أمام أميركا والمجتمع الدولي. حتى الآن تبدو الأطراف العربية خارج المشهد في انتظار القمة العربية في ليبيا. لاحظ أن عمر الاستيطان، كما قال نتنياهو، 42 سنة، وتهويد القدس يتصاعد، ولم يواجه عربيا إلا بالصمت أحيانا، وأحيانا أخرى بشعار “الاعتدال والممانعة”.
ماذا يعني الصمت العربي لأكثر من أربعين سنة أمام الاستيطان؟ هل هو استسلام لواقع أصبح من المتعذر تغييره؟ هل هو تفويض إلى حين للإدارات الأميركية في زحزحة الموقف الإسرائيلي؟ أم أنه صمت من يملك خيارات عدة، وينتظر اللحظة المناسبة؟ عدم وضوح الموقف العربي بحد ذاته علامة على ضعف تستغله إسرائيل أيما استغلال أميركيا ودوليا. يثير الصمت ماهو أكثر من ذلك: هل يحمل في طياته أن القضية الفلسطينية تحولت، أو في طريقها للتحول من قضية عربية إلى قضية إقليمية؟ الفرق واضح. إذا كانت قضية إقليمية، فإن هذا يعطي الحق لكل الأطراف الإقليمية القادرة على التدخل والتأثير في مسار القضية في الاتجاه الذي يخدم هذه الأطراف. أما إذا كانت قضية عربية في أصلها وفصلها، كما هو الواقع، فإن هذا يفرض على الدول العربية مسؤولية والتزامات كثيرة، لا تبدو قادرة عليها، أو لا تبدو راغبة في تحملها، وربما كليهما معا. طبعا تصر الدول العربية من دون استثناء على أن فلسطين ليست فقط قضية عربية، بل قضية العرب الأولى.
المفارقة أن هذه الدول تتصرف، من ناحية، بما يعكس الصفة العربية للقضية، ومن ناحية أخرى على أساس أنها قضية إقليمية. السلوك الأردني والمصري، ربما أكثر من غيرهما، يغلب الصفة الإقليمية للقضية. يمكن الإشارة إلى موريتانيا كحالة استثنائية مستجدة، وذلك حين أعلنت هذا الأسبوع قطع علاقاتها بالكامل مع الدولة العبرية. لكن هذا تطور محدود الأثر، إلى جانب أنه من نوع الاستثناء الذي يثبت القاعدة. الصفة الإقليمية للقضية تشير إلى تنامي الصفة الوطنية للدولة العربية. وهذا تطور طبيعي ومتوقع، لكن الإشكالية أنه لم يصاحب هذا التطور وضوح كاف، ومكاشفة مباشرة عن طبيعة علاقة هذه الوطنية ببعدها العربي. ما يؤشر إلى حالة ارتباك تعكس طبيعة تطور الدولة العربية حتى الآن. المفارقة الأخرى، أن الدول العربية ترفض تدخلات إيران، وهي دولة من دول الإقليم، في القضية الفلسطينية انطلاقا من أنها قضية عربية. في الوقت نفسه لا يعترض العرب على التدخل التركي في مسار القضية نفسها، خاصة من البوابة السورية. حالة الرفض والقبول هذه تعكس مرة أخرى درجة الارتباك العربي!
ما بين الصمت العربي، والتعنت الإسرائيلي، سيلجأ الأميركيون على الأرجح إلى طلب مبادرات عربية للخروج من المأزق. للصمت والارتباك ثمن باهظ أحيانا. لا يجدي القول بأن لجوء الأميركيين لهذا الخيار دليل على انحياز واضح، أو فشل في إقناع إسرائيل بجدوى السلام. هذا صحيح، لكنه لا يبرر ما وصلت إليه الحالة العربية. ربما قيل إن الأميركيين يبدون وكأنه ليس لديهم ما يغرون به إسرائيل، أو ما يضغطون به عليها. هذا رغم أن إسرائيل تعتاش من المعونات الأميركية، وتعتمد على الحماية الأميركية بكل أصنافها، الأمنية والعسكرية والسياسية. هل صحيح أن أميركا عاجزة أمام إسرائيل؟ أم أنها مقتنعة في العمق بمشروعية رؤية إسرائيل ومواقفها من “السلام”؟ ربما أنها تستسهل حلب التنازلات العربية عند كل ملمة؟ قد لا يبدو منطقيا أن أميركا عاجزة عن دولة صغيرة تعتاش على معوناتها وحمايتها! لكن يجب الحذر من أخذ العجز الأميركي بمعناه المباشر، وبمعزل عن الخيارات الأخرى. عجز أميركا في حقيقته اختيار فرضته رؤيتها ومصالحها، وليس، كما يبدو للبعض، انصياعا أو خضوعا للمنطق والمصالح الإسرائيلية. من هذه الزاوية، الصدام مع إسرائيل مكلف سياسياً. الكلفة المباشرة هي كلفة الساسة الأميركيين أمام اللوبي الصهيوني، وهذه كلفة عالية في نظام ديمقراطي يستند إلى المصلحة السياسية، ويعتمد الانتخاب المباشر وسرية الاقتراع، ويتسع لدور كبير لجماعات الضغط. الكلفة الأكبر هي حجم وطبيعة الأثر الذي يمكن أن يتركه هذا الصدام على الاستراتيجية الأميركية ليس فقط في المنطقة، بل في ما هو أبعد من ذلك. ترتكز الاستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط على التحالف مع إسرائيل، قبل غيرها. هذا لا يعني أن أميركا تعتمد على إسرائيل أكثر مما تعتمد الأخيرة عليها. أبدا، لكنه يعني أن شيئا مفقودا في المعادلة الإقليمية لهذه المنطقة، وهو تحديدا الطرف أو الأطراف العربية. هل تستطيع الدول العربية، أو بعضها إدارة خلاف شرس مع واشنطن، كما تفعل الدولة العبرية حالياً، وفي الوقت نفسه تحتفظ بعلاقتها المتينة معها؟ هناك مؤشر آخر. جميع الدول تقريباً تدرك نصاعة الجانب الأخلاقي للقضية الفلسطينية. لكن الجميع تقريبا أيضا يدرك بأن الجانب العربي الذي يمثل هذه القضية، إلى جانب أنه ضعيف سياسياً، لا يتماهى مع البعد الأخلاقي لهذه القضية. حتى القوى السياسية التي تمثل الشعب الفلسطيني بدأت مؤخرا تفقد الكثير من مصداقيتها السياسية والأخلاقية. لم ينجح العرب على المسرح الدولي، بما فيهم الفلسطينيون، إلا في البعد الأخلاقي للقضية، وهو أبسط الأمور، لكنهم فشلوا في جانبها السياسي، وهو الأصعب. المشهد يغري الإسرائيليين بالتعنت، ويثير حذر الأميركيين من التمادي في تصعيد الخلاف مع تل أبيب!
الاتحاد