.. حول القمة والأمة العربيتين ونظاميهما
موفق نيربية *
مؤتمر قمة عربية آخر على الطريق، فلعلّ شيئاً جديداً يمكن أن يظهر، بعوامل داخلية أو إقليمية أو دولية، لا فرق. ونأمل في أن لا يتزايد الفتق والتفسّخ والضعف، وفي حجمٍ أقل للخلافات العربية، بالتبويس والولائم، وربّما بالمصاهرة.
كانت نشأة النظام العربي بعد الحرب العالمية الثانية خاطئةً بالأساس، ليس فيها من التطور إلاّ ارتباطها بالخروج من الحالة الكولونيالية، أو من حالات أكثر تخلّفاً. قام هذا النظام على طموحات عربية مأثورة، وباتّفاق ضمني على تصفية الاستعمار القديم، لمصلحة العملاق الأكثر انتصاراً في الحرب: الولايات المتحدة الأميركية. وبرضا من الاتحاد السوفياتي، الشريك في مبدأ حق تقرير المصير، بحيث يمكن أن تكون له حصة من هذه التصفية بالكدّ والجهد. زيارة روزفلت إلى مصر في طريق عودته من يالطا، وبعده تشرشل، واجتماعهما إلى الملك عبد العزيز والملك فاروق، ثم تواجد الرئيس السوري شكري القوتلي بشكل متواقت، أسّست لنواة النظام العربي الجديد، الذي بدا كأنه يمكن أن يشكّل جدار قوة ومقاومة، أو انضباط قبيل تأسيس الدولة اليهودية المنتظرة.
فلا بدّ من أنّ هنالك خللاً في البداية، ربّما كان اهتمام الأنظمة السائدة آنذاك، أو التي ورثتها، بضمان وجودها واستقرارها واستمرارها وحسب. وإلاّ، فلماذا يتكرّر الدوران في حلقة مفرغة متكررة، بطاقة عجيبة على مقاومة مفاعيل التاريخ والعصر، وحاجات الشعوب؟!
بعد أعوام قليلة من تلك البداية، قال رجل دولة شارك في العملية ثم ابتعد مرغماً: ربما كانت الغلبة لنا لو كانت المعارك تُكسب بالخطب الحماسية والكلام الفضفاض. ولا سبيل إلى إنكار ما كان يتميز به رؤساؤنا في ميادين المزايدة الشعبية وتضليل الجماهير، على نمط «فلسطين عربية… وستبقى عربية!».
بقيت من فلسطين بعد حرب 1948 منطقة نجت سميت بالشرقية – قبل أن تصبح «الضفة الغربية»، سيطر عليها جيش الأردن، كما سيطر الجيش المصري على قطاع غزة. ثم نجحت سياسة الملك عبد الله في ضم هذه المنطقة إلى أمارته التي أصبحت المملكة الأردنية الهاشمية.
وحين أثير هذا الموضوع في اللجنة السياسية، في نيسان (ابريل) 1950، هاجم المندوبون كلهم، عدا المندوب العراقي، مشروع الملك عبد الله وأبانوا بأن أوضح نتائج الضم هو محو اسم فلسطين نهائياً عن الخريطة، ولم يدافع عن الضم سوى الشريقي مندوب الأردن. وبلغ به التوتر مبلغاً عظيماً، فانفجر في وجهه أضعف الحاضرين: عبدالرحمن عزام. فتراشقا بالسباب والشتائم، وانتهى الأمر بأن قال الشريقي لعزام «أنت جاسوس… نعم جاسوس إنكليزي قذر…». وكاد الأمر يصل إلى تبادل الصفعات، لولا تدخل رياض الصلح الذي حال دون اللجوء إلى الأيدي في تبادل «الحجج والبراهين».
وليتك أيها القارئ رأيت صلاح الدين ويوسف ياسين يهرولان إلى باب القاعة فيفتحانها ويشيران على الحجاب بإخلاء الممرات والأبهاء، حتى لا يصل إلى مسامع أحد ما كان أعضاء اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية يتبادلونه من «آراء وحلول واقتراحات… لجمع شمل العرب ومعالجة قضية فلسطين». وحين رفعت الجلسة كان كلنا ناقماً وآسفاً على ما تردت إليه الأمور. وفي الاجتماع اللاحق، جلسنا على مقعد عزام، فكان هو إلى يساري والشريقي إلى يميني، لكي أحول بجسمي عند الاقتضاء من دون شوط آخر من الملاكمة بين الاثنين!» (مذكرات خالد العظم – الجزء الثاني – ص251 – 252). وبغضّ النظر عن مدى دقة الرواية والأسماء وغير ذلك، يكفينا المقارنة مع مشاهد من القمم اللاحقة!
تعرّض النظام العربي إلى هزّة كبرى بعد قيام إسرائيل التي لم تشغله كثيراً إلاّ بالبيانات والخطابات وطرق استخدامها لاستدامة الحكم والحكام. ودخل مباشرةً في انقسامات حادة بين محور السعودية ومصر من جهة، والمحور الهاشمي العراقي الأردني من جهةٍ أخرى، وبينهما سورية ولبنان في الوسط، مع نجاح أكبر للمحور الأول في انضمام السوريين إليه، واللبنانيين في مرحلةٍ متأخرة.
لكنه تلقى دعماً كبيراً في 25/5/1950، في التصريح الثلاثي «الأميركي – البريطاني – الفرنسي»، الذي جاء في بنوده الثلاثة:
أولاً: تعترف الحكومات الثلاث بأن الدول العربية وإسرائيل أيضاً تحتاج إلى رفع مستوى تسلح القوات المسلحة بنسبة معينة لتعزيز أمنها الداخلي، ولتأمين دفاعها الشرعي عن ذاتها، وللسماح لها بالقيام بدورها في الدفاع عن تلك المنطقة بأسرها.
ثانياً: تلقت الدول الثلاث تأكيدات من دول المنطقة التي تريد شراء الأسلحة بأن مشتريات السلاح لن تستخدم ضد دولةٍ أخرى، وسوف يشمل ذلك أية دولة تطلب شراء السلاح لاحقاً…
ثالثاً: تعلن الدول الثلاث عن اهتمامها ورغبتها في تكريس معارضة غير قابلة للتحول والتغيّر لفكرة الالتجاء إلى القوة بين دول المنطقة…».
بكلمات أبسط: أمن إسرائيل واستقرار الأنظمة التي تقابلها، بما يتضمنه ذلك من نفط أيضاً، وبالطبع. الغائب الوحيد كان ولا يزال إنسان المنطقة بحاضره ومستقبله، الذي يشاهد مؤتمراً للقمة كلّ عام مؤخراً، ويُترك لعوامل المدّ والجزر، تلعب فيه وتحافظ على لدونته وطواعيّته.
تنعقد هذه القمة من غير جدول أعمال حقيقي، إلا إمكانية تغطية الخلافات العربية موقتاً، لو أمكن ذلك. فلا المصالحة الفلسطينية ممكنة الآن، ولا المبادرة العربية جاهزة لاحتمالات السلام المدعوم من الإدارة الأميركية الحالية أكثر نسبياً من أية مرحلة سابقة. ومع ذلك، ربما كان خلاف النظام مع العراق سيبرز من جديد، لأنه أصبح – رغم احتلاله وآلام مخاضه الهائلة – احتمالاً للمدنية والديموقراطية لا يحمل الجميع أيّ ودٍّ نحوه.
تنعقد القمة في دولة عربية تعلن الجهاد على سويسرا، ومشروع تقسيم لنيجيريا، وغضباً على لبنان، وامتناعاً عن أداء التزاماتها المالية للجامعة، وأشياء أخرى كثيرة. وستكون قيادتها في رئاسة المجموعة العربية خلال العام المقبل. في حين لا أحد يهتمّ ببناء دولته على النسق المعاصر، ولا بمجتمع مدني ضروري، ولا بمواطنٍين يجب ألاّ يبقوا رعايا… فلن ننتظر نتائج القمة هذه المرة، ولن نجزع لانهيار النظام البالي، فلعلّ الجديد لا يبنى إلاّ على أنقاضه.
في جدول أعمال القمة بحث المبادرة العربية بين سحبها والاستمرار فيها، وقضية القدس، ومسألة تعزيز ثقافة حقوق الإنسان، وابتكار آليات لإدارة الخلافات، والخلاف المقيم حول المصالحة الفلسطينية، والصراع على منصب الأمانة العامة للجامعة؛ وجميعها تستدعي إشارة استفهام وتعجّب بعدها، لأنها استدراك للسقوط… من طريق الانسحاب إلى الخلف.
* كاتب سوري
الحياة