متى نرد الاعتبار لامتنا العربية؟
ميشيل كيلو
لم يعد الإفساد هامشا من هوامش الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العربية، بل صار الجوهر الذي تتعين بدلالته الهوامش الأخرى جميعها، حتى ليمكن تصنيف حياتنا المعاصرة إلى قسمين: واحد كان الفساد فيه فاعلية جزئية ومتفرقة قامت على هامش إدارة وتداول للثروات والشؤون العامة أساسه العمل المنتج والمنضبط بالقانون، وآخر غدا الإفساد فيه مضمون الحياة الرئيس، حتى صار كل ما عداه موضوعا في خدمته.
وبما أن الإفساد ليس من جنس الحياة وضروراتها، فإن بروزه أصابها بتشوهات عميقة أصابت كل جانب من جوانبها ونشاط من أنشطتها، جعلتها حياة مربكة وعصيبة يمضيها المواطن تحت وطأة فواجع متنوعة تسببها، لا تترك له غير أحد خيارين: أن يقبل الإفساد فتفقد حياته عاديتها وطبيعيتها، ويلازمه إحساس بالعار يقوض احترامه لنفسه، مع أن الإفساد يغلق دروب عودته إلى حاله المألوف، ويوهمه أنه بواسطته وحده يستطيع مداراة عوراته الأخلاقية واكتساب مكانة اجتماعية، أو أن يرفضه فيعيش فقيرا ومنبوذا في المجتمع الفاسد، مع ما يعنيه ذلك من حرمان في مجتمع غارق في الاستهلاك، يذكره دوما بأنه يملك من مؤهلات الفساد ما يملكه سواه، فلا يجوز أن يظل ضحية شرفه واستقامته، ولا بد من أن يتخفف منهما.
في القسم الأول، السابق لزمن الإفساد، كان عدد الفاسدين قليلا، وكان هؤلاء يمارسون فسادهم كطفيليين يعيشون على هامش الكد والعمل، يحرصون على سرية فسادهم، كي لا ينبذهم المجتمع ويدينهم زملاؤهم في العمل. لم يكن الفاسد فخورا بنفسه، ولم تكن أخلاق الإفساد قد انتشرت بعد وسيطرت وغدت لها قيم خاصة، ينظر الناس إليها بمعايير تتصل بالكسب، الذي يعتبرونه حلالا، وتجعلهم يرون في الفساد مصدر ثروة هي مصدر للشرف والفخار، ضمن عالم يمشي على قاعدة : ‘لا يستوي الذين يملكون والذين لا يملكون’ ويرفض طرح أية أسئلة عن مصدر الثروات الشخصية، وإنما يكتفي بإثبات حقيقة وجودها ويتباهى بما يترتب عليها من عز وجاه، خاصة وأنها تكون مدعومة دوما في مجتمع الإفساد والفساد بسلطة المال والسياسة، التي تمجد الثراء دون أن تسأل عن هويته الأصلية، وتكتفي بكون الفاسدين أثرياء قادتهم ثروتهم إلى نمط من الحياة ليس لأحد الحق في سؤالهم عن أي أمر سابق له، بالنظر إلى أن ثروتهم تفوق في قيمتها وتأثيرها سائر نعم مجتمع الاستهلاك، الفاسد والمفسد.
أما في القسم الثاني، الحالي، فقد غلب طابع الإفساد على كل شيء، وصار له اقتصاده السياسي وغدا سياسة رسمية مدروسة ومرعية الإجراء ـ كما يقال ـ، يعاقب من يعترض عليها أو يناهضها، ويلاحق من يطلب التصدي لها أو الحد منها، وينظر إليه كعدو للأمر القائم، الذي أقلع عن توزيع الدخل الوطني بعدالة، وأحل محله الإفساد، الذي شوه الاقتصاد والسلطة وحامل السياسة الاجتماعي، وغيّر وظيفة ومعنى المواطنة والوطن، وبدل المنظومة الأخلاقية، التي نمت بنمو مجتمع العمل والنظر وتوسعت بتوسع أنشطته، الإنتاجية والفكرية، واستبدلها بمنظومة تقبل معاييرها الأخلاقية تفسيرات كيفية تتنوع بتنوع الأفراد، تعتبر جميعها شرعية مع أنها تتضارب من فرد لآخر وتؤدي إلى انحطاط عام يطاول الدولة والمجتمع والسلطة وتاليا حياة المواطنين الأفراد، الذين يجدون أنفسهم مدفوعين إلى حالة من الاحتراب تلغي كل شرعة تعاقدية بينهم، وتبطل ما ينجم عنها من أنماط سلوك تتصف بالقبول والشرعية، وتعيدهم إلى حالة من التوحش كتلك التي وصفها هوبز، حيث ‘الإنسان ذئبا للإنسان’، وحتم التخلص منها وجود عقد اجتماعي وسياسي أسس الدولة وحمى الأفراد وملكيتهم وجعلهم مؤهلين لحكم القانون وقابلين به، وقلبهم إلى كائنات سياسية تحمل عموميتها المجتمعية في خصوصيتها الإنسانية والفردية ، بينما يردهم الإفساد في طوره الراهن إلى حالة ما قبل مدنية ومجتمعية، يجعلهم مؤهلين لأن يحكموا من خارج أي عقد أو قانون، ويحولهم إلى كائنات غير سياسية، ينفي مجرد وجودها حال المدنية السياسة – والمجتمعية الطبيعة – .
يقسم نمط إنتاج الإفساد المجتمع إلى مراتب تختلف عن الطبقات والفئات الاجتماعية، التي ترتبت على الاقتصاد الإنتاجي، فهو يقيم أصنافا اجتماعية لا ينطبق عليها وصف الطبقة، لأنه لا تتشكل في سياق إنتاج، ولا تقوم على مشتركات تلحمها فتكون منها مجتمعا تختلف بنيته عن بنية كل واحدة منها، وله مصالح أوسع من مصالحها منفردة ومجتمعة. في نمط إنتاج الإفساد، وهو يزيح تدريجيا العمل المنتج كنمط عيش، تقوض الأصناف الطبقات كتشكيلات اجتماعية/ سياسية تحمل مشروعا خاصا ميدانه المجتمع كله، أو تعيدها إلى مرحلة ما قبل تكونها داخل المجتمع الحديث، فلا تعود مصالحها الخاصة تتعين بالمصالح العامة، بل يحدث العكس، تنتفي المصالح العامة حيث تسود هي، ولا يبقى من أهمية لدورها في إنتاج واستهلاك وتوزيع الثروة، في حين يرتد المجتمع من طور يحمل بذورا مدنية إلى طور سابق له، هو طور ما قبل أهلي، يغلب على تكويناته طابع ناف ولاغ للمجتمع، يتوطد أكثر فأكثر ويصير حاضنة نمط إنتاج الإفساد وحامل سلطته السياسية، الأصنافية والفئوية مثله. بسبب هذا التشوه المزدوج، تفقد الملكية معناها ووظيفتها الاجتماعية وخصائصها التقدمية، ولا تعود حمايتها من مهام التعاقد، الذي ينتفي بدوره بانتفاء المواطنة والحرية والملكية الفردية المنتجة والقانونية.
ما أن تنطلق عملية الإفساد، حتى تتطور في مسارب تحفرها آلياتها الذاتية، ويصير من الصعوبة إن لم يكن من الاستحالة – بمكان كبحها أو إبقائها حبيسة أطر ضيقة أو محددة لا تتجاوزها. عندئذ، يقضي الإفساد على ما قد يعترض سبيله من أعراف وتقاليد وأخلاق وقوانين ودساتير، وعلى من يقاومه من المواطنين، ويسقط كل ما قد يحد منه أو يقيد انفلاته، ويتعزز هذا التطور بقدر ما يزول الفارق بين الملكية الخاصة والعامة ويتلاشى حق التملك ذاته وينهار النظام القانوني بما هو نظام شرعي ناظم لعلاقة الفرد بالمجتمع والدولة، وتحل إرادة تعسف ونهب عصاباتية وكيفية محل إرادة الهيئة العامة الضابطة والكافلة للكل المجتمعي، ولحياة وحرية الأفراد كمواطنين في دولة.
بذلك، يتخطى الإفساد شيئا فشيئا شرطه الاقتصادي وبيئته الذاتية، ويحكم قبضته على مجمل الحياة الخاصة والعامة، فلا تبقى الدولة دولة، ولا يرى المواطن في السلطة غير التسلط، وينقلب الإنسان الفرد من مواطن في دولة وعضو في مجتمع إلى فرد عدواني تسوقه غريزة طامعة ومدمرة، لا تترك في حياته أي مكان لأي شيء عام، بعد أن غدت حياة ذئب يعارك ويقاتل ذئابا، فريسته قطعة من جثة المجتمع والدولة والإنسان.
في أحد أعوام ثلاثينيات القرن الماضي، قال قائد الثورة الصينية ماو تسي تونج: إن الثورة تريد رد الاعتبار للأمة الصينية وجعلها طرفا فاعلا في التاريخ، بإنقاذها من الفساد. متى نرد الاعتبار لأمتنا ونجعلها طرفا مؤثرا وفاعلا في التاريخ، بإنقاذها من إفساد تقضي عليها التشوهات التي أحدثها في جسدها وروحها؟
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي