آخر مرة، آخر فرصة !
ميشيل كيلو
منذ عشرين عاما على الأقل، والفلسطينيون يفاوضون أميركا وإسرائيل دون نتيجة تعادل الجهد التفاوضي أو تلبي الأهداف الوطنية المشروعة لشعب فلسطين. لكنه يقال قبل كل جولة تفاوض: هذه آخر مرة نفاوض فيها وآخر فرصة نمنحها للعدو. بعد الآن، سيكون لنا كلام مختلف وأفعال مختلفة، إذا ما فشلت المفاوضات، لأننا بلغنا نهاية قدرتنا على الصبر وقررنا قلب الطاولة على رأس من لا يعطينا حقوقنا، بغض النظر عن اسمه وصفته، وسواء أكان دولة عظمى هي الأعظم، أم دولة الاحتلال المباشر: إسرائيل.
قبل قرابة ثلاثين عامــا، عندما بدأت مــسيرة المــفاوضات، قيل للمرة الأولى إنها فرصــة العــدو الأخيرة للاعتراف بحق الشعب العربي الفلسطيني في إقامة دولته الحـرة والمستقلة والسيدة على أرضه الوطنية الخاصة، التي احتلها عام 1967، ويجب أن يخرج الاحتلال منها، لتقوم عليها دولة عربيــة فلســطينية، ويمكن حل مشكلة اللاجئين وفق قرارات دولــية تعطيهم حق العودة إلى وطنهم. في ذلك الوقت، قيل لمن حــذروا من الانزلاق إلى مفاوضــات بلا نهاية: إن كبار الساسة الأميركيين نصــحوا قادة منــظمة التحرير برفض وجود أية مستوطنات إسرائيلية في أراضي الدولة، وأي تعديل على حدودها، أو أي تبادل في أراضيها. وذكرنا الذين أوردوا هـذه المعلومات أن بريجنسكي، مستشار الرئيس كارتر لشــؤون الأمن القومي، هو الذي قدم هذه التوصيات والنــصائح، فمن غــير المعقول أن لا يكون جادا فيما قاله، أو أن تكون آراؤه مجرد وجهة نظر شخصية تخصه وحده.
… وبما أن المفاوضات تقوم على سلسلة من التنازلات أو التسويات المتبادلة والمتقابلة بين المتفاوضين، فإنه لا ضير على المنظمة إن هي مهدت لنجاحها بتقديم التــنازل الذي لا تنازل بعده أو مثله، ألا وهو الإقرار بالأمر القائم والاعـتراف بحــق دولة إســرائيل في العيش ضمن حدود معترف بها، خاصة أن هذا الاعتراف لن يغير شيئا في الواقع، وسيمهد، بالمقابل، لاعتــراف إسرائيل بدولة فلــسطين العتيدة، علما بأنها لن تقوم بدونه. أما مــا يحدث على صعيد الاستيطان والتوسع والعنف المنظم ضد شعب فلـسطين، فهو لا يعدو كونه محاولات يحسّن العدو من خلالها موقفه التفاوضي، وليس وقائع نهائية لا عودة عنها، وسيثبت التفاوض أنه لم يفد منها، وأنها إلى زوال أكيد.
عندما كان أحد منا، نحن القريبين من النضال الوطني الفلسطيني والعاملين في أجهزة ومؤسسـات منظمة التحــرير أو حــركة فتح، يبدي شكوكا في سهولة هذا الحل، ويذكر بحقيقة أن ميزان القوى الدولي والعربي / الإسرائيلي لا يتيح قيام دولة فلسطينية، بما أن السوفيات، حلفاء فلســطين الأقـوى، هزمـوا، والعـرب يديرون ظهورهم للقضية، ويحجمون عن دعم بإمكانــياتهم وعلاقــاتهم الهائلة، ويدأبون على لعب ورقة فلسطين لصالحــهم، كان الجواب يأتي تبسيطيا: صارت أميركا مقتنعة أن سيطرتها على العالم لن تستقيم دون حل القضية الفلسطــينية، فالمسألة لا تتصل، إذاً، بموازين القوى المحلية أو الدولية، بل باستراتيــجيات عليا تسهل تحول واشنطن إلى قطب عالمي أوحد، وإمساكها بأوراق الــشؤون الدولية لفترة طويلة قادمة. أما أن تكون سياساتـها منسقة مع إسرائيل، لجر المنظمة إلى بيئة سياســية مغايرة للبــيئة التي أنجبتها، ولإدماجها في بنية عامة تعــمل، بعد انتصارها في الحرب الباردة، على إقامتها داخل منطـقة حاسمة الأهمــية عالميا واستراتيجيا كمنطقتنا، بنية مجافية لمصالح فلـسطين مقوضة لأهدافها، فهذا ما تم نكرانه بإصرار، واعتبر ضربا من التفكير التآمري الخيالي.
كان لسان حال رسميي المنظــمة يقول قبل كل جــولة مفاوضات: هذه آخر مرة نفاوض فيها، وآخر فرصة نعطـيها لأمــيركا وإسرائيل، فما الضرر في أن نمسك بندقيتنا بيد وغــصن الزيتون بالأخرى، نضغط عسكريا بالأولى على العدو، ونشجــعه بالثاني على السعي إلى سلام يعرف أنه حتمي لا مهرب له مــنه، بعد أن تعب شعبه وجيشه، وتبدلت أحواله، وتخلى عن مشروع إسرائيل الكبرى، وصار مجبرا على الاستجابة لمطالب فلسطينية وطنــية ومشروعة، تخلو من أي تهديد صـريح أو مضـمر لوجــوده. دعونا، أيها الــقوم، نفيد من هذه الفرصة، ونحقق بعض مطالبنا، ونقــيم دولة خاصـة بنا تدبر أمور شعبنا وشؤونه، بانتظار حقبة تاريخية آتية لا محالة، ستحمل معها فرصا نضالية جديدة وظروفا قومية مختلفة ستجــعل بالإمكان تحرير فلسطين من النهر إلى البحر وإقامة دولة واحــدة فيها، فلسطينية وديموقراطية. لقد فرضــت ظروفنا الذاتيــة والعربية والدولية المرحلية على نضالــنا الوطني، وأجــبرتنا على قبول التحرير على مرحلتين، نقيم في أولاهما دولة ونحــقق أعلى حد ممكن من مطالبنا الوطنية، فمن غير الجـائز إطلاقا تضيــيع فرصتها مهــما خالف عائدها أهدافنا الحقيقية، لأن ذلك يعني تخلينا عن القاعدة الضرورية لحل مشكلات شعبنا المشرد والمضطــهد، ولاستــئناف نضالنا في المرحلة الثانية، التي ستــكون مختلفة في شروطها عن المرحلة الحالية، فإن رفضنا ما هو معروض علينا ومتاح لنا اليوم خرجنا من التاريخ وتخلينا عن وطننا وشعبنا وحقوقنا: في الحاضر والمستقبل.
هذه المعادلة ما كانت لتنـجح إلا بشــرطين: أولا: حــفاظ المقاومة على وضعها الذاتي كمـقاومة، مناضلة وموحــدة، وتعزيزه وتحسينه بلا توقف، مع امتــلاك بديل للتفاوض يمكن الضغط بواسطته على العدو، وإزالة ما قد يضعه من عقبـات وعراقيل في طريق تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطــينية سلميا، وثانيا: رفع سـوية الدعم العربي والدولي لفلسطين إلى الحد الذي يجعله عنصر ضغــط فعالا على أميركا، يقنعها أن حل القضية الفلسطينية مصلــحة وطنية وقوميــة عربــية ودولية، وأن الــعرب مصــممون على جعــلها تقبل مطالب فلسطين، وإلا فإنهم سيحققونها، بما لديهم من إمكانيات سياسية وعسكرية واقتصادية… الخ حـربا. المشــكلة أن وضع فلسطين الذاتي تدهور بسرعة، مع انقسام المقاومة إلى معسكرين متعاديين: إسلامي ووطنــي، وما لازمه من انــتقال مركز ثقل الصراع إلى علاقات المنتمين إليهما، وكــان قد تركز طيلة عــقود على العلاقات مع العدو. وأن التفــاوض حــدث في ظل دور سلبي عربي، بدأ مع مؤتمر القمة في الرباط عام 1974، الذي اعتــرف بالمنــظمة ممثلا شرعيا ووحيدا لفلســطين ونفض يد النظام العــربي من القضية بحجة أن للبـيت ربا يحميه هو المنظمة، ممثل فلسطين الشرعي والوحيد.
واليوم: لم يعد هناك آخــر مرة وآخر فرصة، فقد انفتح الباب أمام دوران عبثي في حلقة تفاوض مفرغــة تجر الطرف الفلسطيني من خيبة إلى أخرى، ومن فشل إلى آخر، بينما تتضخم الخلافات الفلسطينية الداخلية وتتحول إلى تناقضــات عدائية، ويكتسب الصراع الفلسطيني / الفلسطيني شرعية شعبية متزايدة، ويحل تدريجيا محل الصراع ضد عدو يوسع ويسرع استـيطانه إلى حد لم يبق معه مكان حتى لجهة نالت اعترافا دوليا هي السلطة الوطنية، المحصورة في رقع ضيقة، داخل بعض المكاتب والبيوت، والتي تفقد أكثر فأكثر قدرتها ـ القليلة أصلا ـ على ضبط أمورها الخاصة، وتدبير أمور شعبها.
اليوم: انقلبت الآية وصــار وضع فلــسطين مرتبــطا بإرادة عدو محتل ينازعها الأرض والسيادة، بعد أن كان وضعه هو مرتبطا، قبل سنوات قليــلة، بالقرار الوطنــي الفلســطيني. لا حــاجة إلى القول: إن فلسطين المستقلة والحرة لن تقوم بقرار إسرائيــلي، وإن المسافة إليها ستزداد بعدا، إن استمر العداء الوطني/ الإسلامي، وعجزت قيادات المنظمات عن إخراج نفســها وقضــيتها من احتجاز استراتيجي غدا قاتلا بكل معنى الكلمة، يلغي أكثر فأكثر ما تحقق بتضحيات شعب يضيعه وضع سياسي لم يعـد إفلاسه خافيا على أحد.
لا يحق لأحد إعطاء العدو فرصــة أخيرة، مباشرة كانت أم غير مباشرة. ولا يحق لأحد إغلاق البــاب أمام منح فلســطين هــذه الفرصة، كي لا تكف سياسيا عن الوجود، ولا يفــضي انخـراط قـادتها في مزيد من التـفاوض إلى انخراطـها هـي في مزيد من التلاشي والهلاك!
السفير