صفحات سورية

إعجاب بالصراع التركي على الحجاب لأسباب – هذه المرة – غير تركية

null


جهاد الزين

تثبت اللحظة التركية الجديدة، مرة أخرى، قدرتها على إثارة الاعجاب بالريادية التي تنطوي عليها في العالم المسلم. حتى لو بدت من وجهة نظر آخرين داخل تركيا، على انها انتكاسة في المسار الديموقراطي للجمهورية التركية. لكنها تبدو لي، وبشكل معقد، انها حتى لو كانت انتكاسة تكتيكية فهي لحظة تعبر عن تقدم عميق على المستوى التاريخي في التجربة التركية القلقة والصاعدة معا في بناء دولة علمانية تحديثية في مجتمع مسلم. اعني بذلك حكم المحكمة العليا في انقرة بإلغاء التعديل الدستوري الذي يجيز ارتداء الحجاب في الجامعات.

لقد اثارت التجربة التركية منذ سنوات، وبصورة خاصة بعد العام2002، الاعجاب بقدرة مؤسستها العلمانية “المحروسة” من المؤسسة العسكرية على استيعاب نجاح “حزب العدالة والتنمية” ذي الجذور الاصولية الاسلامية في الانتخابات التشريعية وتشكيله منفردا حكومة استمرت طيلة ولاية المجلس السابق.

هذا معطى متواصل في الحياة العامة التركية حتى لو استمر الصراع عليه الى حد يهدد لاحقا (في الخريف المقبل) باحتمال الحظر القانوني للائحة تضم اسماء ارفع قيادات حزب العدالة والتنمية من ممارسة العمل السياسي. لكن حتى هذه اللحظة المحتملة لا تعني، ولن تعني انهيار التوازن السلمي للديموقراطية التركية… بل الانتقال الى مرحلة صراعية تالية قد يعود فيها التيار ذو الجذور الاصولية الى السلطة مرة أخرى تحت اسم جديد. وهذا حصل مرارا في التاريخ التركي الحديث، سواء حيال الاحزاب الاسلامية او الاحزاب العلمانية. الفارق هو أن هذا التغيير كان يلي الانقلابات العسكرية في الستينات والسبعينات والثمانينات، اما منذ التسعينات فاصبح يأتي بعد “الانقلابات القضائية” كما حصل مع “حزب الرفاه” وبعض الاحزاب “الكردية”. فالدستور لم يعلّق منذ العام 1980، تاريخ آخر انقلاب عسكري… قبل ان تبدأ ما يسميه بعض المعلقين الأتراك مجازا، “انقلابات ما بعد الحداثة” غير العسكرية.

إذن اثار “النموذج التركي”، بل تحول الوضع التركي الى نموذج منذ ان اتاح فوز واستقرار حكومة “حزب العدالة والتنمية” ذي الجذور الاصولية السابقة والتي يطلق زعماؤه عليها وصف “حكومة يمين الوسط” بالمعايير الاوروبية.

الذي اريد ان أركز عليه، ان قرار المحكمة العليا التركية بالغاء اجازة الحجاب في الجامعات من حيث السياق الديناميكي الذي يعكسه في مدلوله العميق قياسا بما يحدث في العالم المسلم بمعظمه تقريبا، من شأنه ان يكون مدعاة للاعجاب مجددا بتطور التجربة التركية كحدث يأتي في الاتجاه المعاكس لحدث فوز “حزب العدالة والتنمية” الاول عام 2002 والثاني عام 2007.

انه تقدم في “النموذج التركي” بحصيلة تطورات في اتجاهين متناقضين ليس من المبكر التفاؤل بأنهما مكونان لنموذج تحديثي صاعد!

الحدث الاول، فوز حزب “إسلامي” في دولة علمانية متشددة، شكل تحديا للانظمة الاستبدادية في العالم المسلم، لم ترتح إليه هذه الأنظمة ولكن جذب انتباه النخب الثقافية والسياسية في مجتمعاتها، وهي نخب قاومت طويلا قبول فكرة تركيا ذات ولاء غربي، لتكتشف بعد طول خيبات وطنية (الصراع مع اسرائيل) وايديولوجية (سيطرة انظمة عسكرية وانتشار الاسلام الاصولي) ان تركيا تتحول بشكل ثابت – ولو قلق – الى نموذج ديموقراطي متواكب مع نجاح تحديثي اقتصادي بنيوي. فبدأت – اي هذه النخب – بالاهتمام الايجابي بل الاعجاب بالتجربة التركية.

الحدث الآخر الذي نعيشه حاليا منذ صدور حكم المحكمة العليا التركية بإلغاء التعديل الدستوري الذي اقر في شباط المنصرم. التعديل الذي يجيز العودة الى ارتداء الحجاب في الجامعات، يشكل تحديا جديدا ولكن على مستوى مختلف للانظمة السياسية في معظم العالم المسلم. وهذه زاوية في النظر الى الصراع السياسي السلمي القائم في تركيا يجب ان يتفهمها ويفهمها معنا العديد من المثقفين الليبراليين الأتراك، وان يدركوا ضرورتها، حتى في لحظة كهذه يعارضون فيها قرار المحكمة العليا.

العالم المسلم اليوم يضم دولتين دينيتين نافذتين هما المملكة العربية السعودية وايران (دولة رجال الدين). ودولة ثالثة كبيرة دينية بالتكوين لأنها تأسست بالمبرر الديني كمبرر قومي، هي باكستان. ودولة رابعة هي الأكبر في عدد السكان يشكل الدين شخصيتها السياسية الثقافية الكاسحة رغم انها ليست دينية بالمعنى الايديولوجي الذي لايران او السعودية هي اندونيسيا. ودولة خامسة كبيرة، بل الأكبر عدديا وثقافيا وسابقا سياسيا في العالم العربي هي مصر.

كل هذه الدول الاساسية في العالم المسلم تعيش اما تحت حكم ديني مباشر وإما تحت سيطرة التيارات الدينية على حياتها العامة، الى حد ان سلطاتها المعادية للاسلام الاصولي، تكاد تحصر خلافها معه على السلطة السياسية الامنية، في حين تستسلم ثقافيا له واعني بذلك تحديداً مصر وباكستان واندونيسيا… وبعض غيرها من الدول الأصغر حجما وتأثيرا.

في هذا الجو، وحدها تركيا الدولة المسلمة الكبيرة (كبيرة، كالأخريات المذكورات بمقاييس العالم المسلم لا كل العالم)، تواجه مؤسساتها وبهذا التصميم هذه “السطوة” الاصولية الشاملة على اجواء العالم المسلم. سطوة ليست مرتبطة بالسلطة السياسية، فمعظم الاحزاب الاصولية معارضة، ولكنها سطوة ثقافية على حياتنا العامة والخاصة.

تركيا الدستورية الديموقراطية “تلعب” اللعبة كدولة وكمجتمع حاملين لمشروع تحديثي، تستوعب الصعود الاصولي بوجهة تغير التيار نفسه. فمن الانصاف القول ان هذه التجربة انتجت “الاسلاميين” الأكثر حداثة وديموقراطية (وربما شعبية) في العالم المسلم باتجاه تبلور تيار “مسلم ديموقراطي” يولد او تستعاد ولادته في القرن الحادي والعشرين على غرار التيار “المسيحي الديموقراطي” الذي ولد في اوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. كنت اقول دائما ان رجب طيب اردوغان “جرى تدريبه” طويلا داخل المؤسسة التركية (بما فيها مع الأسف السجن) لكي يصبح الشخصية القيادية البارزة في العالم، وليس فقط في العالم المسلم، على رأس حزب استطاع استعادة قيادة “المشروع الاوروبي” لتركيا متجاوزاً النخب الكمالية التقليدية ودافعا بالديموقراطية التركية الى مستوى “النموذج”… لكنه ربما هو نفسه لم يعرف ان يقف عند الحد المطلوب بعد فوزه الثاني مثيرا مرة أخرى استنفارا “علمانيا” حادا كان يمكن تلافي حدته على الأقل، لو لم يصر أو ربما أُجبر داخل حزبه على الاصرار على ايصال رئيس جمهورية ذي زوجة محجبة الى قصر الرمزية العلمانية الاول قصر مصطفى كمال اتاتورك في تشانكايا وبعده تعديل دستوري يجيز عودة الحجاب الى الجامعات. في حين ان وجود حكومة “اسلامية” في تركيا كان انجازا تاريخيا يستحق عناء الحفاظ عليه وحده دون مجازفات استفزازية كترئيس عبدالله غول باعتباره الرئيس ذا الزوجة المحجبة.

• •

كاتب هذه السطور يعتقد ان منع الحجاب في الجامعات مبالغة “علمانية” كبيرة، مثل الاجراء الفرنسي الذي منع الحجاب في المدارس الحكومية الفرنسية في عهد الرئيس جاك شيراك.

يومها صدرت اصوات في ايران والسعودية ومصر (ولبنان) تنتقد القرار الفرنسي غير الديموقراطي. واليوم نعرف ان اصواتا من الأمكنة نفسها ستصدر في انتقاد القرار القضائي التركي.

وكما كتبنا يوم صدر القرار الفرنسي، من المفيد التكرار الآن حتى بالنسبة لمراقب معني مثلي كان يتمنى لو سمحت العلمانية التركية بارتداء الحجاب في الجامعات، ان المطلوب في العالم المسلم الآن ليس انتقاد تركيا، الانتقاد ذا البعد الواحد. وإنما “الانتقاد الذاتي” بسبب فرض الحجاب في العديد من الدول المسلمة دون اعطاء حق الاختيار.

في طهران وبيروت والقاهرة والرياض واسلام آباد وجاكرتا والرباط المطلوب لكي يستقيم النقد ان تُطالب الحكومات التي تلغي حق عدم ارتداء الحجاب بالسماح لمن يردن خلع الحجاب من النساء ان يخلعنه.

فإذا كانت الديموقراطية في تركيا وفرنسا تتطلب نقد منع ارتداء الحجاب، الفعل الديموقراطي يتطلب في الدول المسلمة التي تفرض على النساء ارتداء الحجاب ان تعطي من تريد حق عدم ارتداء الحجاب!
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى