تقاطع السياسات الفرنسية والتركية والقطرية في دمشق
د.عدنان السيد حسين
«فرنسا ستكون وفية لتاريخها، وهذا سبب وجودي على المنصة». إنه تصريح للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد وأمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ورئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، في قمة دمشق الرباعية التاريخية.
العنوان الأبرز للقمّة هو «السلام في الشرق الأوسط»، على الرغم من الاهتمامات الجدية بموضوعات وقضايا إقليمية ودولية، من لبنان إلى العراق إلى القوقاز إلى دارفور وغيرها..
الفرنسيون صاروا مقتنعين أكثر من أية مرحلة ماضية بدور دمشق في العملية السلمية، خاصة بعدما نشأت مفاوضات غير مباشرة برعاية تركية. مفاوضات سورية-إسرائيلية لا تنطلق من الصفر، تكفي إشارة إلى وديعة رابين قبل أكثر من عقد من الزمان، وما تركته عند الطرفين السوري والإسرائيلي من ملفات على الأمن والحدود والمياه والتطبيع… كل ذلك على قاعدة الانسحاب الشامل من الجولان المحتل.
ولأن فرنسا وفيّة لتاريخها، حسب تصور الرئيس الفرنسي، هناك تحرك لدفع هذه العملية السلمية الجديدة. هل تستعيد باريس دوراً مفقوداً في الشرق الأوسط؟ هناك رغبة فرنسية للعب هذا الدور، بيد أن الدور الأميركي المسيطر على العملية السلمية في الشرق الأوسط منذ عقود تكفّل بإزاحة الدور السياسي الفرنسي والأوروبي. ظل دور الاتحاد الأوروبي مشجعاً من خلال بعض المبادرات، والدعم المالي والاقتصادي لدول المنطقة وللسلطة الفلسطينية، دون أن يأخذ بعداً سياسياً واضحاً وحاسماً.
قد يفيد الاتحاد الأوروبي في هذه المرحلة الأخيرة من عهد الإدارة الأميركية الحالية، نظراً لانشغالها بالانتخابات الرئاسية في شهر نوفمبر المقبل. وقد تُطرح بعض الأفكار حيال دور اللجنة الرباعية الدولية، التي توارت في السنة الأخيرة. وربما يُسلّط الضوء على خارطة الطريق المجمّدة فعلياً في عهد الحكومة الإسرائيلية الحالية وعلى مؤتمر أنابوليس… غير أن كل ذلك لن يوجد لفرنسا، أو للأوروبيين ثقلاً إضافياً إذا لم تتفق دول الاتحاد الأوروبي على إستراتيجية جديدة في الشرق، تأخذ في الاعتبار انكفاء الاستراتيجية الأميركية في العراق وأفغانستان وفلسطين.
لذلك، كان الرئيس الفرنسي حاسماً وواضحاً لجهة القول «يجب أن نتقدم.. لن نتقدم بمفردنا، نحن حلفاء للولايات المتحدة، ونثق بالأميركيين. ليس لدينا التحليل المشترك مع سورية في هذه النقطة… نحن بحاجة إلى سورية بشأن لبنان وإيران. سورية يجب أن تقوم بهذا الدور». كلام واضح يؤشر إلى تفهم فرنسي عميق للدور الأميركي في العملية السلمية، وإلى أهداف فرنسا من قمة دمشق الرباعية. إنها في اختصار، تشجيع للعملية السلمية السورية-الإسرائيلية، مهما كانت الأدوار الإقليمية والدولية فيها، ودفع جديد لتفاهم سوري-لبناني على قاعدة اتفاق الدوحة يساعد الفرنسيين على رعاية مصالحهم في شرق المتوسط، ومحاولة غربية بوجه عام لتشجيع دمشق على المضي في سياسة منفصلة عن إيران انطلاقاً من أزمة الملف النووي، التي صارت أزمة دولية بامتياز. ما ساعد على نجاح القمة الرباعية، التقاء السياسة التركية والسياسة الفرنسية على دفع العملية السلمية، كما أسلفنا، ومحاولة تسوية أزمة القوقاز بعيداً من سياسة التهديد الأميركي. تسوية تنطلق من أهمية الأمن الأوروبي المنشود، وتجنّب الانزلاق إلى مواجهات أخرى في أوكرانيا وبولونيا وتشيكيا، والمنطقة الأوراسية عامة. تسوية لا تعيد العالم إلى أجواء حرب باردة جديدة، على الرغم من الصعوبات الموضوعية التي تحول دون تجدّد مثل هذه الحرب.
الأتراك، قطعوا شوطاً في ترتيب علاقاتهم الإقليمية مع سورية والعراق وإيران وإسرائيل ومجلس التعاون الخليجي. هم يعرفون أن ثمن الاستقرار الإقليمي هو تسوية مستقرة للصراع العربي-الإسرائيلي، وهم لذلك يدركون دور دمشق في هذا المضمار. والأتراك نجحوا في لعب دور الوسيط الموثوق من أطراف الصراع، وهذه مقدمة ضرورية لنجاح أية مفاوضات جادة وهادفة. يريدون في المقابل ترتيباً جديداً لمصالحهم في الشرق الأوسط، وانفتاحاً إضافياً على الغرب الأوروبي يمهّد لانضمامهم إلى الاتحاد الأوروبي.
يبقى أن الدور القطري مهم على أكثر من صعيد. فالدوحة أنجزت تسوية لبنانية داخلية بتشجيع من فرنسي، ومعرفة فرنسية بتفاصيل الداخل اللبناني. وتعرف باريس أن للدوحة دوراً إضافياً في زمن الخلاف السياسي بين دمشق والرياض لأسباب مختلفة. هذا بالإضافة إلى نجاح دولة قطر خلال السنوات الأخيرة في لعب دور تسوَوي على أكثر من صعيد، وفي غير قضية شرق أوسطية. إنها نقطة تواصل خليجي في البيئة الخليجية، وموقع تفاوضي بشأن أزمات المنطقة بموافقة أميركية وتشجيع أوروبي… لذلك، تقاطعت السياسات والأدوار لأطراف قمة دمشق من أجل إحداث نقلة نوعية في تسوية أزمات المنطقة ونزاعاتها.
في هذا الجو المتغيّر منذ انعقاد قمة الاتحاد من أجل المتوسط في باريس، تخرج دمشق من دائرة الحصار الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي. وتستعيد تدريجياً دورها في معالجة الأزمات والنزاعات المذكورة.
دمشق هذه تفضّل تأجيل المفاوضات المباشرة مع إسرائيل إلى العام المقبل، لسببين هما: ولادة إدارة أميركية جديدة تستطيع لعب دور فاعل في العملية السلمية بعيداً من المشكلات التي حصلت في عهد الإدارة الحالية. وعجز حكومة أولمرت عن القيام بمتطلبات العملية السلمية لأسباب إسرائيلية داخلية. ويشدد الرئيس السوري على ضرورة الحوار مع الإدارة الأميركية بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث ستنشأ ظروف ومعطيات جديدة في زمن المتغيرات الدولية. وعلى الأرجح فإن التوجه الإسرائيلي-السوري برعاية تركية هو التوصل إلى (إعلان مبادئ) للسلام بين الطرفين، ربطاً بالسلام الشامل وتسوية قضية فلسطين.
إلى ذلك، تريد دمشق تنفيذ اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وتراهن على دور باريس، على الرغم من معارضة لندن. وطالما أن العلاقات التجارية السورية-الفرنسية قد أخذت طريقاً جديداً من التعاون عبر اتفاقات اقتصادية، فإن لغة المصالح هي التي ترعى تطور العلاقات الفرنسية-السورية.
لقد طوت باريس ودمشق معاً أربع سنوات من تجميد العلاقات أو تراجعها الدراماتيكي على الأقل منذ صدور قرار مجلس الأمن الدولي، الرقم 1559 بتاريخ 2/9/2004، خرج الجيش السوري من لبنان، بعيد اغتيال رفيق الحريري، ووقعت اضطرابات ونزاعات داخل لبنان، وفي العلاقات اللبنانية–السورية، بالتزامن مع تدخل فرنسي واهتمام كبير بالمسألة اللبنانية. هذا صار من الماضي، فقمة دمشق الرباعية فتحت مرحلة جديدة من العلاقات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط. هناك قوى جديدة ناهضة، وسياسات جديدة تُرسم، وتحفّز لتسوية ما اصطلح على تسميتها «أزمة الشرق الأوسط» التي أرّقت العالم منذ ستة عقود!
كاتب من لبنان