التصريح بالتمثيل: انفتاحا على مسرحة جديدة
حوار مع غاو كسينغجيان حامل جائزة نوبل في الأدب لعام 2000
غاو كسينغجيان (المولود سنة 1940) كاتب روائي ومسرحي ومخرج وناقد مسرحي ورسام صيني الأصل فرنسي الجنسية سرعان ما فرض نفسه كأحد رواد المسرح والأدب الطليعيين مما كلفه مضايقات خطيرة. وهو يعيش منذ سنة 1988 بباريس وهو الذي يكتب بالفرنسية بالإضافة إلى الصينية – حيث يواصل اعماله الأدبية والفنية كما يدعى في مختلف أرجاء العالم. وقد حصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 2000
* سيد غاو كسينغجيان، تعتبرون في بلدكم احد رواد مسرح جديد ينعت تارة بالتجريبي وتارة بالحداثي أو حتى بالطليعي. وأنتم كاتب ومخرج ورسام، قادتكم انتقائية أنشطتكم وتكامل تجاربكم وأبحاثكم، بطبيعة الحال وفق مسار تقدمكم ووفق رغبتكم في تقديم شهادة عن هذا المسار، إلى صياغة بعض التصورات والمقترحات حول المسرح ومن أجل المسرح: هل يمكنكم تقديم ملخص حول رؤيتكم الشخصية للمسرح يمكِّننا من إحاطة أفضل بالكتابة المسرحية لديكم؟
*إن الحديث عن المسرح في المطلق بالنسبة لي أمر وهمي ويبدو أنه من الصعب تقديم إجابة واضحة وشافية عن السؤال الجوهري: ما المسرح؟ لكنه لا يمكن تجنب هذا الجواب إذا ما أردنا بناء عمل مسرحي متماسك.
*لقد بدأت وأنا شاب في الجامعة كتابة مسرحيات وتسيير فرقة مسرحية للطلبة، وكان ذلك قبل ‘الثورة الثقافية’. لكنه بعد إقامة جبرية في البادية لمدة تعدت الخمس سنوات وجدت نفسي أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن أمارس مسرحا وفق توجيهات السلطات الرسمية التي كانت تجل الرجوع إلى الواقعية الاشتراكية على النمط السوفيتي، وإما أن أنخرط في الهامش مع ما يقتضيه ذلك من مخاطرة. ولما لم يكن الحل الأول ليرضيني البتة فقد آثرت دون أدنى تردد الحل الثاني.
وبالمحصلة فقد تمكنت من إجراء بحوث باشتغالي مع ممثلين ومخرجين، وقادني تفكيري حول مختلف الأشكال المسرحية التقليدية والمعاصرة والغربية والشرقية إلى مقاربة مسرحة (th’atralit’) جديدة من خلال تجريبها.
*إن أبحاثكم حول أداء الممثلين ترتبط ارتباطا وثيقا باشتغالكم في الكتابة وهما بعدان يستلهمان من بعضيهما. فهل يمكنكم أن توضحوا فيما يكمن ما تسمونه ‘بحثا عن مسرحة جديدة على الركح’ مع تحديد صلاتها بـ’مسرحة النص’؟
*أعتقد أن جوهر المسرح هو بيان التمثيل بالتمثيل فلا وجود للمسرح بالنسبة لي إلا من خلال لعب الممثل مع الجمهور. إن وجود المسرح نفسه رهبن بهذا التواصل.
وإن من يستأثرون بالمسرح حاليا في الغرب هم في غالب الأحيان مخرجون يستخدمونه للتعبير عن آرائهم الخاصة بحيث لم يعد فيه المؤلف والممثل غير عناصر ملحقة وتكميلية في حين أعتبر أن الممثلين هم مفتاح المسرح!
تكاد تقوم دائما في الغرب مقابلة بين تصورين اثنين: إما أن الممثل يتماهى مع الدور الذي يؤدي وإما أنه يؤديه مع بعض المسافة؛ أما التصور الذي ابتدعته من خلال مراقبة الممثلين في المسرح ذي التقاليد الشرقية فيرتكز على إبراز ثلاث درجات في التطور الملازم لأداء الممثلين سواء كانوا شرقيين أم غربيين: هناك الأنا (الشخص الحي) والممثل (صفته) والدور. أنا، أنت وهو(je, tu, il) . وتوجد داخل هذا المسار الذي يشهد دخول الممثل في الدور مرحلة بينية أسميها ‘الممثل المحايد’.
إذا تمكن المرء من مراقبة أوبرا بيكين جيدا كما سنحت لي الفرصة بذلك فإن هذا التطور واضح إذ يبدأ الممثل باستخراج ذاته بالتدريج من حياته اليومية ثم يدخل في حالة الممثل المحايد. وبالتوازي مع ارتدائه للألبسة وتنكره بالمساحيق فإنه يتطهر:إنه التحييد؛ وعند الانتهاء تصير هيئته العامة هيئة إنسان آخر وكذا صوته ونظرته وتنفسه واستقامته، ودون أن يكون قد أكمل دخوله في الدور الذي أسند له فإنه يوجد في الممر وسيحتفظ بآثار لهذا الممر على الركح.
هناك لحظة لعب قصيرة تجعلنا نلمس هذا الحدث: إنها عند الدخول إلى الخشبة لحظة التعريض للنور التقليدية. وبوجود الممثل قبالة المتفرجين فإنه يربط للتو تبادلا معهم وفي تلك اللحظة يكون في نفس الآن الدور والممثل والأنا، يقيِّم ذاته ويعرضها على الأنظار ومن خلال هذا التبادل مع الجمهور يكشف دوره.
خلال التقديم لا يعود من يتجلى في بعض الإيماءات والوضعات هو الفرد أو الشخصية بل هو الممثل المحايد الذي وكأنه في حالة توقف يقول: ‘أنظروا كيف يُلعب دوري’ ويعدل أدائه في تلك اللحظة بنفسه ليجد الطلاوة والبهجة الضرورية للتوحد مع الجمهور. فهو بذلك يرصد ويراقب ويعدل أداءه مع أناه ويخلق بهذا التطور مباعدة ومسارات ذهاب وإياب يحفظ من خلالهما حيوية التبادل مع المتفرجين؛ ذلك التبادل الذي يعطي للدور كامل صحته.
* معنى أنه يتم تذكير الجمهور أنه يوجد في المسرح لا في الواقع. ألا يمكننا القول إن ‘لعبة التصريح بالتمثيل ‘ تشكل جوهر وتميز هذه المسرحة للغة الخشبة؟
* تماما فمسرح التقاليد الغربية يحاول في غالب الأحيان خلق إحساس بالصدق على الخشبة عبر طريق التجربة النفسية المعيشة وعبر إعادة تشكيل الواقع على طريقة المدرسة الطبيعية. وهو مسرح يبتغي إيقاظ التحام إعجاب عند المتفرجين بهذه المهارة في تقليد الواقع.
وعلى العكس من ذلك يؤسس مسرح التقاليد الشرقية إحساسا بالواقع المباشر للأداء على الخشبة من خلال أساليب فنية متنوعة، فيلجأ إلى شعرية الخيال مع تنبيه المتفرجين بوضوح تام وتذكيرهم باستمرار أنهم يشاهدون عرضا مسرحيا وأن الفضل في إمكان تذوقه والاستمتاع به يعود إلى أداء الممثلين خاصة.
وأنا شخصيا أعتبر أن هذه المسرحة التي تعلن عن ذاتها حجر الزاوية بالنسبة للمسرح الحي.
*هل يمكن التوفيق بين هذه المقاربة للمسرحة والكتابة المسرحية؟ وعلى أية أشكال؟
*بكل تأكيد ؛ فيمكننا أن نجد هذه المسرحة عند العديد من الكتاب وقد اختفت داخل بنية أو كتابة بعض مسرحياتهم.
فالمقاطع المنطوقة في الأوبرا الصينية تشكل طريقة للممثلين يقدمون أو يلخصون من خلالها سير الأحداث أو حالة الشخصيات ضمن سرد بضمير الغائب. وكذلك الأمر بالنسبة للأحاديث الذاتية (apart’) التي هي الجمل الاعتراضية للممثل-الراوي وبالنسبة للاستطرادات التي هي الجمل الاعتراضية للراوي-الممثل الذي يعلق على سلوك الشخصيات بغاية الحفاظ على التواصل مع القاعة من خلال إنعاش هذا التواصل.
هل نحتاج لأمثلة أخرى؟ هناك الجوقة في المسرح الإغريقي القديم والراوي في مسرح بريخت اللذان يسردان للجمهور سير الأحداث ويحققان في الحال تأثيرا للمسرحة (effet de th’ëtralit’)، زد على ذلك الحوارات الداخلية لشخصيات شكسبير التي لا تكتفي بتاتا بعرض حالاتها النفسية لكنها تقدم كذلك انفعالاتها وأفكارها بشأن الهوى والحياة والموت وبشأن الصحيح والخطأ، في عالم تسوده المظاهر.
وكذا مسرح جينيه (Genet) بوجهه الطقوسي وما إلى ذلك. .
* وإذا ما مضينا إلى منتهى هذا المنطق نجد أن السرد باعتباره كذلك يتحول إلى المستوى الثانوي، ألا يعدو كونه مجرد ذريعة؟
*يرتكز المسرح التقليدي على تقلبات الحبكة (intrigue) أي التقديم الابتدائي والعقدة والحل الختامي، ويتأسس على الخلافات بين الشخصيات والتناقضات الباطنية للطبائع.
أما مسرحي أنا فلا يتضمن على العموم قصة بالمعنى التقليدي وحتى إن أمكن اكتشاف حبكة ما بداخله فهو لا يسعى إلى السرد المسرحي وإنما يبغي خلق موقف ما.
إن تطور موقف متقلب يحمل مسرحة أكثر بكثير مما تحمله عروض النزاعات الداخلية أو الخارجية التي تمثل خارج هذا التطور مجرد ذرائع سطحية تجر أداء الممثلين إلى الطريق المسدود للمدرسة الطبيعية (naturalisme).
تملك الاستعارة المسرحية في حسيتها التجريبية لغتها الخاصة وتعبر عن ذاتها من خلال الحقيقة الملموسة لجرسياتها الجهورية (sonorit’s) أكثر مما تعبر من خلال عالم للدلالات (s’mantique). إنها تتمفصل على عالم تراكيب (syntaxe) يجب فيه بحكم قوته المسرحية أن يكون محملا بالصور وحيا بالتقلبات.
ليس هناك أي وهم تخلقه الوسائل التقنية ـ أعني هذه التأثيرات الخاصة التي تروج كثيرا حتى في المسرح- قابل أن يحل محل سحر وجاذبية اللغة والتمثيل، فهي مجرد أساليب ثانوية لا مبرر لها في اغلب الأحيان.
وإذا كانت الوسائل التقنية تقود إلى التضحية بأداء الممثلين عبر خنقه أو عبر تفقيره في أفضل الحالات، فأنا أؤكد أن المسرح مهدد بخطر الموت.
* كلمتكم في الختام..؟
* إن المسرح يجسد على الخشبة في نفس الآن عالما واقعيا يدرك مباشرة وعالما تخييليا يعول على خيال الجمهور؛ ففي زمان ومكان محدودين يمتد زمان ومكان لا ينتهيان من حيث المبدأ .
يمتزج الماضي والحاضر والمستقبل ويتلاقى عالم البشر والجنة والنار ويتداخل ويتشابك الواقع والخيال والأحاسيس.
ذاك ما يعطي للمسرح سحره وتميزه.
فعلى الكتاب المسرحيين أن لا يعيقوا انطلاق طاقاتهم الإبداعية تحت ذريعة الرغبة في إعادة تشكيل حقيقة المواقف، ودون جدوى في أغلب الأحيان. فالمسرح الحديث لا يمكنه أن يجد حرية تعبيره إلا إذا تخلص من زينته وآلياته (d’cors et machineries) وعاد إلى فضاء مجرد ومعرى مثل خشبة الأوبرا الصينية أو ساحات أداء الفنانين المتجولين.
إنه من اللازم إعادة تأكيد الطابع الافتراضي للمسرح من خلال أداء الممثلين. وما أبحث عنه في كتاباتي هو قبل كل شيء تأكيد وتمديد وتطهير هذا التطور للمسرحة القائم على الإثبات الواعي لتعاقد التمثيل.
ومهارة الممثل يجب أن تندرج في هذا المسلك المزدوج: يرتدي قناعه حينا وينزعه حينا آخر؛ فيقودنا بذلك في آن معا إلى حقيقته وإلى تخييله عائدا بنا إلى وهمنا الأصلي: التمثيل وبهجته.
حوار أجراه: إميل لانسمان وباتريك س. كارنيير
ترجمة. المبارك الغروسي
الحوار منشور كملحق بمسرحية (على حافة الحياة) الصادرة عن دار لانسمان البلجيكية
AU BORD DE LA VIE
XINGJIAN, GAO, ‘ditions Lansman, Bruxelles, 05/2001
القدس العربي