صفحات مختارةياسين الحاج صالح

في عالم -الخطيئة الأصلية-

null
ياسين الحاج صالح
عرضت سجالات سياسية وإيديولوجية سورية سمة لافتة في العامين الأخيرين. قرر مساجلون بحسم أن مواقف خصومه ليست أخطاء سياسية محتملة بل هي بالأحرى “خطايا أصلية”. ولما كانت هذه محفورة في جبلة أهلها وكيانهم، فقد تبدى أن الخاطئين الأصليين في الواقع “خونة”، وليسوا أصحاب رؤى وآراء مختلفة. وليست مواقف الخطاة الأصليين أخطاء، إنهم هم الأخطاء، بل الخطايا. لذلك كرههم وإظهار العداوة لهم واجب وأصل من أصول السياسة الوطنية الصحيحة، التي تقتضي بالمقابل محبة “المقاومة” و”الممانعة”، ليس في فلسطين ولبنان فقط بل وفي العراق والسودان والصومال أيضا. إنها عقيدة الولاء والبراء، معلمنة قليلا.
كان التخوين قبل ذلك مقتصرا على السلطات حيال معارضيها. وفي انتشاره إلى دوائر جديدة اليوم ما ينبئ بتقدم حاسم لمنطق الاستئثار والاستبعاد، هذا الذي يرفده التكفير الديني المزدهر بحيوية متجددة.
كيف أمكن لذلك أن يحصل؟ الفكرة التي ندافع عنها تقرر ارتباطا بين هذا الصنف من “النقد المطلق” وبين تقدم “تطييف” المجال العام أو تفتيته. التطييف يضفي صفة مطلقة على تمايزات قد تكون عارضة، فيجعل العلاقة بينها علاقة خير وشر أو حق وباطل أو كفر وإيمان أو وطنية وخيانة. يفترض المرء بالمقابل أن تشكيلات عصرية (كتاب، منظمات سياسية..) تعتبر مخالفيها خصوما وليسوا أعداء، ومواقفهم أخطاء محتملة وليست خطايا قطعية. والخطأ نسبي وجزئي وعارض قابل للتصحيح، يمر عليه الزمان فيتقادم ويهون شأنه؛ أما الخطيئة فكلية ومطلقة وجوهرية، لا تتقادم، وتصحيحها ممتنع. ربما تقبل الغفران، لكن ليس قبل التوبة، أي قبل أن ينسلخ الخاطئ من ذاته.
ويقضي التراشق بالخطايا، ومنه التجريم والتخوين والتكفير، على ما قد يتاح من أرضية فكرية وقيمية مشتركة، توحد المختلفين، وقد تضعهم في مواقع الخصومة، النسبية والجزئية والوقتية دوما. النقاش العام ممتنع في هذه الحالة. من هو الخيّر الذي يتبادل الأفكار مع الأشرار والخونة والكفار والمجرمين والمرتدين؟ وفي غياب المشترك تتصلب الاختلافات المتحولة في قوالب جامدة، تجعل من المختلفين أصنافا اجتماعية، أو بالضبط “طوائف”، لا مشتركا يعمها مع غيرها، ولا فوارق تعتمل في داخلها. والعلاقة بين المطلقات النشطة هي إما علاقة إبادة، وإلا فتساكن سلبي.
لكن لماذا تعرض ما يفترض أنها تشكيلات سياسية وإيديولوجية حديثة خصائص طائفية؟ وهل يشير النقد المطلق إلى تسرب منطق الطوائف إلى المنظمات الحديثة؟ جزئيا. الأهم هو تشاكل طوائف قديمة وطوائف حديثة، أعني أن كلتاهما أطر اجتماعية لـ”العقل المطلق”، للتخوين والتكفير والتشرير. بنوعيها، الطوائف نتاج لعمليات تطييف، لا تنشأ تلقائيا من وجود فوارق اجتماعية وثقافية. تتسيس فوارق اجتماعية وثقافية موروثة، فتتشكل في صورة هويات حصرية. لكن أيضا تتصلب فوارق سياسة وإيديولوجية حديثة وعصرية، وتتحول إلى “أصناف” أو “طوائف”، لا تكاد تختلف في شيء عن الطوائف بالمعنى الشائع.
لكن ما أصل التطييف ذاته؟ لا يمكن أن نغفل أولا عن التراث السلطاني المللي لمجتمعاتنا المشرقية؛ إنه قابلية مستمرة للتطييف. ولا نغفل ثانيا عن تنشيطه بفعل انغلاق المنظومة السياسية، أي تشكل طاقم الحكم في صورة مجموعة مغلقة، أشبه بطائفة، قد تمارس فوق ذلك وبوعي فاعلية تفتيتية لأن هذا مناسب لها سياسيا (فرق تسد). في مثل هذا الشرط ينزع المجتمع المحكوم المفقر سياسيا إلى الانتظام وفق هوياته الأهلية بهدف الاستحواذ على قسط من السياسة المحرمة. هذا يمكّنه من التفاوض مع “الدولة”، وهذه تفضل التعامل مع هيئات أهلية تنضبط بمبدأ المسؤولية الجماعية المانع لاستقلال الأفراد. ولعل لبرلة الاقتصاد والإعلام، والدولة جزئيا، تسهل أمر التطييف، بأن ترفع الطلب على تضامنات أهلية للاحتماء من تغيرات اقتصادية واجتماعية سريعة، أو بأن تسهل الظهور العلني للانتظامات الأهلية.
القطاعات والتشكيلات الحديثة من المجتمع في قلب هذه العمليات. وهي اليوم أكثر هشاشة حيالها للسببين المتضافرين التاليين. أولا، تقادم العتاد الفكري والأخلاقي والثقافي لتلك القطاعات الحديثة. التقادم يعني هنا عدم صلاحية هذا العتاد للقيام بالوظائف النظرية والسياسية “المتعدية” التي كان ينهض بها يوما (قبل ثلاثة عقود أو أربعة)، واقتصاره على القيام بوظيفة الهوية “اللازمة”، أي تعارف قطاعات متضائلة هي ذاتها وتمييزها عن غيرها. وثانيا، ذلك الضرب الغريب واللاعقلاني من التحريم الذي يحيط بكل ما يحيل إلى ظاهرة الطائفية، كيفما فكرنا بها وحللناها. ترى، كيف نقاوم الطائفية إن كنا نسدل ستارا كثيفا من الصمت على كل ما يذكر بها؟ بلغ من استبطان كثيرين لهذا التحريم أن صار من قد يقارب المشكلة بالتحليل هو مسببها والمتهم بها! هذا بينما يقر الجميع بتصاعد حضورها واحتلالها حيزات اجتماعية وإدراكية أوسع. تتجسد هنا اللاعقلانية القصوى لهياكلنا السياسية والاجتماعية، والطابع السحري لوعي قطاعات واسعة من المثقفين والناشطين في المجال العام. فالطائفية تتقدم دونما مقاومة لأن مقاومتها تقتضي النقاش حولها والتداول في شأنها، الأمر الذي نحرمه على أنفسنا. هذا مزيج من الغفلة والجبن والتفكير السحري. فرفض التفكير في الواقع السيء لا يجعله جيدا، والخوف من مواجهة الوحش لا يروض الوحش.
والطائفية التي لا تهتم بها لا تكف عن الاهتمام بك. تجد نفسك (ناشطا عاما، مثقفا، منظمة سياسية أو اجتماعية حديثة، دولة..) مسكونا بها ومتشكلا على صورتها مثالها، رغم رفضك المحتمل لها.
وهكذا، لدينا عمليات اجتماعية واقعية تضعف الاختلاط بين الناس والتعارف والتفاعلات الدامجة وتقوي التمايزات الموروثة والفوارق المكتسبة، ولدينا من جهة ثانية عمليات إدراكية كالتخوين والتكفير والتسفيه و”الولاء والبراء”، تضفي على العمليات الأولى القيمة والشرعية والثبات. وليس في وسع فكر متقادم مستبطن لمنطق التحريم أن يقاوم هاتين العمليتين المتضافرتين.
والخلاصة التي نريد الوصول إليها هي أن “الطائفية” هي “الإطار الاجتماعي” لذلك الضرب من “المعرفة” التي تفضل التحريم على “التحليل”، والتخوين على المداولة العقلانية، والتكفير على النقاش المفتوح، والعنف على السياسة، والعداوة على الخصومة، والكراهية على الاختلاف. هل يمكن أن نفكر في العالم الاجتماعي في مثل هذا الشرط إلا بمنطق الجواهر والماهيات لا بمنطق العلاقات والعمليات؟ وبمنطق الأصول لا بمنطق التاريخ؟ أليس التخوين وإخوته آليات لتشكيل الهويات وتسييجها وفرزها عن بعضها؟ وهل يتلامح في الأفق غير الحرب المطلقة حين يكتمل تأهيل الهويات وتعميرها؟
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى