قمة الدول والتداول والمداولة
جهاد نصره
قد لا يكون جديداً ـ اللهم إلا عند القوميين ومن في حكمهم ـ القول: إن دول الجامعة العربية تتوزع على منظومتين سلطويتين اثنتين وليس منظومة واحدة كما هو شائع..!؟ من المؤكد كما نرى أن تكون هذه الحقيقة المغِّيبة هي التي تكمن وراء تسخيف الأطروحات الخلبّية التي يتم تداولها باستمرار في مؤتمرات القمة منذ بدأ هذا المسلسل القممي..!؟ في المنظومة السلطوية الأولى يجد المرء دولاً شبه مدنية تملك دساتير وضعية جرى صياغتها بعيد الاستقلال .. أما في المنظومة الثانية فإنه يجد دولاً لم ترتق بعد إلى مستوى التشريع الوضعي فبقيت تعتاش على الشريعة الإسلامية وحمولاتها الفقهية..! في حقيقة الأمر أنه بالرغم من تمترس هذه المنظومة خلف الشريعة وإعلاء شأن الدين ( من حيث الشكل ) فإنها سلكت دروباً أوصلتها إلى أن يكون من غير الدقيق إطلاقاً اعتبارها دولاً عربية إسلامية إذ كيف يصح أن تصنَّف كذلك وأغلبية سكانها وقاطنيها وعمالتها من غير العرب المسلمين…!؟ واقع هذه المنظومة تكشفه الإحصاءات المعلنة أصلاً يكفي أن يتجول المرء في شوارع مدنها ليرى بأم العين غرابة أن يبقى تصنيفها عربياً إسلامياً..!؟ وقد وصلت هذه الدويلات إلى هذا الموصول اللاعربي اللاإسلامي بالرغم من أن المحيط العربي الإسلامي يشهد انفجاراً سكانياً هائلاً وتترنح دوله تحت ثقل فائض بشري لا حدود له غير أن الحكام القبليون ( جميع قادة هذه المنظومة زعماء قبائل ) اختاروا مصير دولهم بمحض إرادتهم وعن سابق تصورهم غير الإسلامي وغير العربي…!؟
في دول المنظومة الثانية تشابهت الكيفية التي جرت وفقها عملية صياغة الدستور فقد تمَّت في سياق تحولات انقلابية على البنى التي كانت لما تزل في طور الرسوخ بعيد التحرر من الاستعمار الغربي المباشر..! لقد أتاحت الظروف الموضوعية السائدة حينذاك فرصة سانحة لنمو أحزاب ومنظمات سياسية مختلفة العقائد والبرامج ولأن المؤسسة العسكرية الموروثة على صغرها امتلكت وحدها القوة الضاربة، فقد سعت بعضٌ من تلك الأحزاب إلى تعزيز تواجدها فيها الأمر الذي أتاح ظروفاً مناسبة لنضوج فكرة الانقلاب بهدف الاستيلاء على السلطة في الوقت الملائم ومن ثم تخليق الدساتير والتشريعات على النحو الذي تريده وبشكلٍ ومحتوى يحفظان لها دوام الاستمرارية في كل الظروف…!؟ ولأن القادة العسكريون الذين جاءوا من تلك الأحزاب تحولوا بالجملة إلى رؤساء ملهمين أفذاذ فقد تداركوا الخطر الذي يظل قائماً وهم خبروه جيداً فعملوا على تعقيم المؤسسات العسكرية التي جاءوا منها وتتالت حملات تطهير لم تستثن غير الرموز المضمونة الولاء ومن ثم فقد بادروا إلى إنشاء وحدات عسكرية خاصة تقتصر مهمتها على حماية القصور الجمهورية وتأمين استمرارية السلط الحاكمة…!؟
ثم كان لا بد أن تبادر السلطات المستجدة هذه إلى القيام بعمليات تعقيم أوسع شملت جميع مكونات المجتمع وأحزابه السياسية ومنظماته المدنية لتتكرس هيمنتها الأحادية الاقصائية يوماً بعد يوم قبل أن تعمل على إلحاق بعض الأحزاب التائبة عن العمل السياسي بمؤسساتها الدنيا الأمر الذي نتج عنه تذرر قوى المجتمع المدنية فانتشرت في أوساط معظم الأحزاب ظاهرة الانشقاق على قدم وساق وترهَّلت قوى الجميع إثر ذلك فهيمن اليأس وفقدان الأمل على المجتمعات التي بدأت تترنح تحت ثقل غيوم الفساد المكثَّف ولم يعد هناك غير صهيل بعض الجياد الشاردة التي سرعان ما طوردت فتم تغيِّيبها إما تهجيراً أو سجناً مديداً..!؟ وبانتفاء السياسة والنشاط المدني أصبح الباب مفتوحاً لانتعاش الانتماءات الماضوية فبرزت من جديد قوى الإسلام السياسي وعمَّت الأصوليات وعادت مظلة الأديان والمذاهب والطوائف في عموم المنطقة وكان من الطبيعي أن يكون ذلك تحت عنوان: الصحوة الإسلامية المباركة…!؟
على هذا النحو غير الخلاق تمَّ تخليق الدساتير والقوانين والتشريعات في منظومة بلدان العرب شبه المدنية وقد حصل أنه حين وجدت السلطات الحاكمة في بلدان هذه المنظومة أنه لا بد من القيام ببعض التعديلات على دساتيرها بفعل ظروف مستجدة أو لملاقاة ضغوط طارئة فإنها بادرت بنفسها إلى إجراء تعديلات موحية على بعض المواد الدستورية الفاقعة في شذوذها مع الحرص التام على تكيِّيفها لتخرج وكأنها ولدت من رحم هواجس الديمومة الأبدية…!؟ وفي كل المرات المشهودة فقد جاءت المبادرة من جانب الرؤساء الملهمين حيث تمَّ التحول على سبيل المثال من شكلية الاستفتاء إلى شرعية الانتخاب الشكلي بدوره…!؟
وقد تمَّ العمل في سياق مركزة التسلط على مأسسة التحكم التسلطي من خلال تركيب مجالس تشريعية بالقياسات المطلوبة كما تمَّ تأسيس اتحادات نقابية رديفة للأحزاب الحاكمة ومنظمات طلابية ونسويه وغيرها وانتهت هذه المأسسة المترافقة مع سطوة أمنية شاملة إلى مصادرة وتجيِّير كل ما تبقى من أشكال الحراك المجتمعي المدني القائمة، والممكنة، والمتوقعة…!؟
يترتب على ما تقدم افتراض أن يكون المطلب الراهن الذي تتبناه الأحزاب والفعاليات المدنية الجديدة هو إعادة صياغة الدساتير من قبل هيئات وطنية يلتئم تحت مظلتها خبراء أكفاء يتم استقطابهم من كافة المجالات والتخصصات والحقول لا أكثر ولا أقل فمن البداهة القول إن الدعوة إلى إصلاح وترميم أي بناء أساساته متصدعة ومشروخة ستعني هدر المزيد من الوقت وتشويش الرأي العام ومهادنة سياسية لا يستفيد منها سوى أصحاب الدساتير أنفسهم..! إن المروِّجين لمثل هذه الدعوات الإصلاحية المطالبة بتعديلات دستورية يعلمون قبل غيرهم أن السلطات التي فصَّلت الدساتير على مقاساتها لا يحترمون أصلاً البنود الايجابية الكثيرة التي أوردوها في دساتيرهم لإظهار توافقاتهم مع الشرائع المدنية الدولية..!؟ ويبقى القول إن حديث البعض عن إمكانية أن يلعب القضاء في أيٍ من هذه البلدان دوراً حقيقياً هو مجرَّد وهم من حيث أنه لم يحصل في جميع هذه البلدان فصل حقيقي وناجز بين السلطات لقد تمَّ مأسسة القضاء في نفس السياق السلطوي فصار ملحقاً كلياً بالسلطة التنفيذية لا بل ملحقاً بالرؤساء الملهمين مباشرةً وعلى افتراض وجود تباينات نسبية في استقلالية القضاء بين بلدٍ عربي وآخر فإن الفساد المعمم الذي طال المؤسسة القضائية مثل غيرها سيجعل منها في النهاية مقبرة للأوهام ليس إلا…!؟
لقد امتلكت المنظومة الأولى رصيداً كبيراً من الشعارات القومية وهي أبدعت في ممارسة التكتيك الذي بدا واضحاً أشدَّ الوضوح في ميدان التحالفات، والمحاور، والمناورات، والتنازلات..!؟ أما المنظومة الثانية فقد امتلكت الثروة الفائضة فصار لها أن تستثمر في مختلف صنوف الإعلام وتقنيات التواصل الحديثة بما يعني ذلك من تحكم كلي في مسارات الرأي العام..!؟
وهكذا كان من المحتَّم أن تتشارك المنظومتان منذ قامتا وتعملان معاً وتتصالحان بعد أي زعلٍ طارئ ينجم عن تضارب في مواقع النفوذ..! وقد ظلَّت الجامعة العربية منذ تأسيسها مسرحاً مثالياً يلعب فيه قادة المنظومتين أدوارهم التشاركية والتصالحية بنجاح يحسدون عليه يدلِّل على ذلك استمرار شراكتهم العابرة للعروبة والإسلام قمةً بعد قمة إذ لم تعكِّر مسارها بضعة هزائم ولم تتخلله ثمة أحلام…!؟
خاص – صفحات سورية –