عن مقولتَيْ “التفاوض والمقاومة” في فلسطين
زياد ماجد
تبدو اليوم مقولتا “المقاومة المسلّحة لإسرائيل” و”التمسّك بالتفاوض معها” على قدر واحد من التبسيط واللامعنى.
فالأولى أدّت بالفلسطينيين، بعد تعسكر الانتفاضة الثانية ابتداء من خريف العام 2000 وتحوّلها من مظاهرات شعبية ومصادمات بالحجارة الى عمليات انتحارية ومواجهات مسلحة، الى خسارة معظم ما كانوا قد حقّقوه من تحرير للأرض (بالسلاح والحجارة وبالتفاوض في عصر علاقات دولية كان يسمح باعتماد الأساليب المختلفة) وبدء بناء دولة على جزء من ترابهم الوطني. فالضفة اليوم محتلّة معظم مناطقها، مقطّعة الأوصال بالحواجز العسكرية والمستوطنات، ومخنوقة بجدار الفصل العنصري. أما غزّة، فتحت الحصار والضغط والقهر اليومي.
والثانية أدّت بهم، في ظل بهتان أداء السلطة الوطنية السياسي والتفاوضي بعد رحيل ياسر عرفات من جهة، وفي ظل لا سياسة حركة “حماس” ومزايدة النظامين الإيراني والسوري على الفلسطينيين بدمهم (وتشبيه “حزب الله” لمارون الراس بالقدس!) من جهة ثانية، الى التفكّك والتقاتل والى إفساح المجال أمام إسرائيل لمواصلة الانقضاض عليهم وتعديل المعطيات الميدانية بشكل جذري يجعل كل محاولات الوصول الى حلول في المستقبل محكومة بواقع جغرافي ديموغرافي لا يسمح لهم حتى بالعودة الى ما كانوا عليه في أيلول من العام 2000. وكل ذلك طبعاً وسط عجز عربي غير مفاجئ، وصمت دولي تعكّره بعض الأصوات والبيانات التي لا تصدر إلا عند وصول الفظاعات الاسرائيلية الى مستويات يصعب تجاهلها.
هل من مخرج إذن من هكذا ثنائية لم تحصّل منذ أكثر من عقد أي مكسب فعلي؟
يصعب الجزم بذلك. لكن الخروج واعتماد نهج جديد يبدوان هذه الأيام شديدي الجدوى. فرصد سريع لبعض المعطيات الراهنة يُظهر أن موقفاً فلسطينياً مسنوداً عربياً وتركياً ومُنسّقاً مع بعض الأوروبيين ومع دول كالبرازيل وجنوب أفريقيا والهند وغيرها قد يكون ذا أثر أميركياً يعمّق التناقض بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو ولا يبقيه مؤقّتاً. فالأميركيون اليوم، وإن كانوا مستمرّين في تحالفهم مع إسرائيل ودعمهم لها، يريدون منها حداً من الالتزامات في ما خصّ تجميد الاستيطان والانسحاب من بعض أراضي الضفة والافراج عن معتقلين فلسطينيين وتخفيف إجراءات الحصار على غزة وغيرها من أمور تسهّل بنظرهم إحياء العملية السلمية الميتة. أما الاسرائيليون، وهم بمعظم أطيافهم يرفضون الوصول الى حل فيه الحدّ الأدنى من العدالة للفلسطينيين، فيظنّون أن بمقدورهم “الصمود” في وجه الضغوط الأميركية المرحلية من خلال الاتّكال على اللوبي الصهيوني المؤيّد لهم في واشنطن والذي استنفر مئات الأعضاء في الكونغرس ومجلس الشيوخ للطلب الى أوباما تليين موقفه؛ والأهمّ ربما، من خلال الاتكال على اللامبادرة الفلسطينية واللامواقف العربية والهدايا الايرانية التي غالباً ما تأتي على شاكلة تصريحات نارية لأحمدي نجاد تُنكر المحرقة أو تهدد بإزالة إسرائيل من الوجود وتتيح على الدوام لتل أبيب استذكار أهوال الحرب العالمية الثانية وتحوير الأنظار نحو طهران…
بهذا المعنى، فتشدّد فلسطيني سياسي رافض لكل تفاوض قبل وقف الاستيطان والتراجع عن القرارات الاسرائيلية الأخيرة، مقرونٌ بمظاهرات سلمية في القدس وفي محيط الجدار في الضفة وفي غزة، إضافة الى حملة ديبلوماسية في واشنطن وفي عواصم دول مجلس الأمن للتأكيد على الاستعداد للسلام شرط احترام الاتفاقات الموقعة وقرارات الأمم المتحدة (واستئجار صفحات ودقائق في الجرائد والمحطات الأميركية والأوروبية لعرض وجهة النظر الفلسطينية مدعومة بتواقيع زعماء من العالم ومثقفين وحائزي جوائز نوبل) وغيرها من الأمور، ضرورية لإحراج الاسرائيليين أكثر والضغط عليهم وإحداث بعض التناقضات في صفوف ائتلافهم الحكومي. وهي ضرورية أيضاً لجعل أوباما يقتدي بجيمس بيكر عشية مؤتمر مدريد ويتعامل مع نتنياهو من موقع قوة شبيه بموقع بيكر حين أنذر إسحق شامير، وحين جمّدت إدارته الأميركية (لمرة يتيمة) مليارات الدولارات التي كانت مقرّرة لإسرائيل.
أما الاكتفاء ببيانات مستهلكة كبيان القمة العربية، أو التلويح بنهج الكفاح المسلّح والتهديد بمحو إسرائيل من الوجود على ما درج على فعله “الممانعون”، فأمور لا تثير عند نتنياهو ووزراء حكومته سوى التبسّم والطمأنينة والتيقّن من أن الرهان على اللوبي المؤيّد لهم في واشنطن قد يكفي للجم أوباما، وأنّ بيانات التمسّك العربي بالتفاوض من دون متابعة وضغوط، أو التهديد على طريقة الفرزدق (الذي قال فيه جرير: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً – أبشِر بطول سلامة يا مربع) لن تؤدّي لا الى تثبيت أوباما في ضغطه ولا الى تعديل موازين القوى الميداني في فلسطين على نحو يحدّ من الاستيطان ومصادرة ما تبقّى من أراضي في القدس ومحيطها…