الإدارة المنحطة لمسألة الهجرة في أوروبا
نهلة الشهال
ليس المقصود بالانحطاط هنا الشتيمة، وإنما تعيين الأسلوب، الذي لا ينفك ينتقل من سيء إلى أسوأ، متناقضاً، مضمراً نوازع غير ذات صلة بالضرورات الموضوعية، موظفاً «الملف»، كما يسمى، في غايات سياسوية مباشرة وتنافسية، دون اعتبار لرؤيا ولا لتخطيط. وكل ذلك يستحق توصيف «الانحطاط» وليس فحسب التراجع أو التخبط وما إلى ذلك.
فرنسا، كمثال، تتهيأ اليوم لإصدار القانون الخامس المتعلق بالهجرة… خلال سبع سنوات! قانون يعزز قرارات السلطة التنفيذية في وجه القضاء. وكانت الحكومة الحالية قد عينت لنفسها «غاية» علنية، هي تحقيق إبعاد ثلاثين ألف مهاجر غير شرعي في السنة. لذا حدث، وفق «سياسة الرقم» هذه، أن الشرطة اعتقلت أناساً من الشارع، أو فيما هم ينتظرون أبناءهم على باب المدرسة، أو من أروقة المستشفى حيث لجأوا للعلاج (فتحولت هذه إلى مصائد!)، ورحّلتهم، مخالفة الإجراءات القضائية التي يكفلها القانون، والتي توفر لهم بعض الحقوق.
وفي حادثة اشتهرت أخيراً، رُحِّلت صبية مغربية بينما كانت تتابع دراستها الثانوية وتتقدم بطلب تسوية وضعها إلى دائرة الشرطة، فانطلقت حملة تضامن معها من أساتذتها وزملائها، و «تأثر» الرئيس ساركوزي بقصتها… فأعادها إلى فرنسا حيث منحت إقامة! وأعلنت الصبية أن آخرين مثلها، تلامذة مغاربة تعرفهم، لم يلاقوا حظها السعيد، وأنها ستنضم إلى الهيئات المناضلة ضد الإبعاد التعسفي، وعلى رأسها تلك الشبكة الهائلة من المواطنين، خصوصاً منهم المدرسين (الذين انشأوا «شبكة التعليم بلا حدود»RESF ) التي أثبتت فعالية مدهشة، خصوصاً في تنظيم العصيان المدني ضد إجراءات إبعاد التلامذة وعائلاتهم، حاضة الناس على التطوع لاستقبالهم في بيوتهم موفّرين لهم بذلك مخابئ آمنة.
حوادث أخرى، اقل طرافة، وقعت أخيراً، وبدا فيها قضاة «الحريات والاعتقال» غير متعاونين مع السلطة التنفيذية، إذ قرروا إطلاق سراح الـ123 كردياً الذين حطت بهم سفينة النقل على شاطئ في جنوب كورسيكا، وكذلك الأفغان القصّر الذين اعتقلوا إثر تفكيك مخيم كاليه، بينما أبعد سواهم إلى أفغانستان. وكانت حجة القضاة أن مخالفات في الشكل ارتكبت عند التوقيف، وهم طالبوا بأن يجرى تطوير هذا الجانب لتوفير قاعدة عادلة للقرارات، غير استنسابية ولا اعتباطية، فيمكن عندها الكلام عن احترام كل من القانون وما يسمى «الحقوق الأساسية» للبشر.
أما الحل الذي اهتدت إليه الحكومة فهو تجاوُز سلطة هؤلاء القضاة! أو ما يسميه الرئيس الفرنسي «توحيد» السلطة القضائية، فلا يعود هناك قاض إداري وآخر قضائي، «حتى لو استلزم ذلك تعديل الدستور». مرحباً بكم أيها السادة في الجمهوريات الاستبدادية، وعليكم لزاماً الاستفادة من خبرة زملائكم من الدول العربية المحيطة، حيث «كل شيء يجرى بالقانون»، ولكن القانون يتغير وفق حاجات الرئيس وصحبه!
تستند الإجراءات الفرنسية المزمع تمريرها في القانون الجديد إلى تدبير أوروبي عنوانه «العودة»، أُقر عام 2008، يحرم من يخالف قواعد الإقامة من العودة إلى أوروبا لمدة خمس سنوات، ويُمدد الحجز الإداري الممكن للمهاجرين غير الشرعيين إلى ثمانية عشر شهراً. لا بد أن القارئ العربي، بعد المسؤولين، سيستغرب الكلام الوارد في هذا المقال، إذ تبدو له تلك الإجراءات «عادية»، بل ورحيمة إذا ما قورنت بما يعرفه من تجربة بلدانه. بل لعله يعتبرها «شرعية»، فلا يمكن ترك الهجرة تنداح في الفوضى.
ولكن المسألة ليست هنا، بل هي في أن مبدأ فصل السلطات، المؤسِّس للديموقراطية، ما زال يؤخذ في أوروبا على محمل الجد. ووفق هذا المبدأ، لا يمكن إخضاع السلطة القضائية لتلك التنفيذية كما يفعل القانون الجديد. هذا أولاً.
ثم إن القانون يشدد العقوبات على من يتضامن مع مهاجر غير شرعي، فيمده بالطعام أو يؤويه، حيث يعرّضه ذلك للملاحقة وللغرامة وحتى للحبس. وهذا التدبير يخالف ما يراه الأوروبيون «حقوقاً أساسية» مؤسسة للاجتماع الإنساني، وعلى رأسها حق الإنسان في الأمان، ثم في الاحترام، وهو على ذلك يخالف ميلاً عاماً للتضامن، ما زال قوياً على رغم كل الحملة الإيديولوجية التي سعت إلى التخويف من الأجانب (بمن فيهم من يحوزون على إقامات شرعية، بل على الجنسيات الأوروبية)، وإلى تحميلهم تارة مسؤولية بطالة المواطنين الأصليين، أو تارة أخرى ارتفاع نسبة الجرائم والاتجار بالمخدرات، وأخيراً اعتبارهم يمسون بتماسك النسيج الاجتماعي… إلى آخر ما تشاؤون.
وكانت تلك الحملة ذات غايات سياسوية بالطبع، تغرف من معين تزوير أسباب المشكلات الاجتماعية الحادة بإلقائها على «الآخر» الغريب، كما تريد تحويل الإجراءات البوليسية والرقابية المتزايدة إلى ضرورة مقبولة من الناس، وتريد أخيراً السيطرة على كتلة انتخابية صماء تمنحها أصواتها من دون تدقيق. وقد اعتد بذلك كله حزب الرئيس الفرنسي ووزراؤه لإطلاق النقاش حول «الهوية الوطنية»، بضجيج عال منذ أشهر، ثم سعوا إلى لملمته حين أدركوا مبلغ خوائه، بل مبلغ الأضرار التي يلحقها بهم، فسُجِّل كفشل ذريع، لعله ساهم في تراجعهم الانتخابي الأخير.
وتحيط بكل هذا الجدل المزور واقعة سجلها تقرير شهير صدر عن الأمم المتحدة عام 2001، وما زالت تعتبر مرجعاً: وهي تلك التي عيّنت أن أوروبا، التي تشيخ بسرعة، تحتاج إلى وفود 150 مليون مهاجر إليها حتى 2050 إذا ما أرادت الحفاظ على النسبة الحالية من عدد العاملين مقابل عدد المتقاعدين. وهي نسبة غير مرضية وينبغي أن تميل إلى القطاع الأول لتيسير استمرار الضمانات الاجتماعية الأساسية. أما فرنسا، وفق تقرير صادر عام 2006 عن مركز البحوث، فلا يتجاوز عدد المهاجرين غير الشرعيين إليها رقماً يتراوح بين عشرة آلاف وثلاثين ألفاً سنوياً، مقابل 183 ألف مهاجر شرعي… ما يعني أن «الملف» برمته مفتعل، وغاياته تقع خارج نطاق ما يُدّعى. وعلى رغم ذلك، يدور هذه الأيام نقاش في غاية الجدية داخل مجلس الوزراء الفرنسي حول هذا الموضوع، وسيدعى البرلمان إلى بحثه خلال الأسابيع المقبلة…
فهل يُسأل بعد ذلك عن أسباب عزوف الناس عن «السياسة»، وعن تخلي الشبيبة عن ممارسة حق الانتخاب: في الانتخابات الجهوية منذ أسبوعين، بلغت نسبة غير المصوتين في فرنسا للفئة ما بين الـ18 والـ25 سنة، 85 في المئة! وتشابهها نسبة المصوتين في الضواحي، حيث يسكن الفرنسيون من أصول مهاجرة.
الحياة